لا يمكن لأحد أن يشكك في مركزية موضوع الفقد في حياة البشر. حين يرحل القريب يتزعزع الكيان و تُثقب الروح و تُصاب الهوية بشرخ، و قد يشعر و كأنه فقد جزءا من ذاته. يُعرف الوالدان بأم ( فلان ) و أبو ( فلان) و الابن يعرف بأنه فلان ابن فلان. ينظر الإنسان إلى نفسه كامتداد لهم لذا يشعر أن جزءاً منه قد غادر. قد يقضي وقته لاحقاً في ترميم هذا الجزء المتبقي منهم بعد رحيلهم و تأمّل ما تركه فيهم قبل مغادرتهم .
تعتبر رسالة سينيكا إلى مارسيه من أقدم رسائل العزاء في التاريخ ترجمها حمادة أحمد علي في كتاب محاورات السعادة و الشقاء.
– consolatio الكونسلاتيو – أو رسائل العزاء- هو تقليد أدبي ازدهر في العصور القديمة عبارة عن رسائل فلسفية عن الحزن عادة ما تكون شخصية و عاطفية للغاية فيها مواعظ و قصص و حكايات .. و يعتبر العزاء جزء مهم من أطروحات سينيكا تسمى عادة “محاورات”. هذه الأعمال تحتوي على المبادئ الأساسية لتعاليم سينيكا الرواقية و هي مكتوبة مثل المقالات أكثر من كونها خطابات تعزية شخصية .
الرسالة الأولى موجهة الى مارسية أم مكلومة لم تتمكن من تجاوز ألم الفقد حتى بعد مرور ثلاث سنوات على رحيل ابنها فقررت الانسحاب من الحياة الاجتماعية و غرقت في حزن عميق . تعري شعور الفقد و تكشف ابعاده.
كيف نواجه الحزن؟
فيما يخص المشاعر علينا أولاً أن لا نتجاهل الالم كما علينا الاعتراف و قبول مشاعر الحزن
يدرك سينيكا أن الشعور بالحزن محتم و لا بأس أن نمكث فيها لبعض الوقت. “لن اجرؤ على مداهمة احزانك”، ” الحزن حتمي ” لكنه ” لا يستمر للابد” مصير الحزن أن ينتهي . و الحزن المنبوذ عند سنيكا هو الذي يعرقل الحياة.. كما أن هناك فرق بين من يحزن بتعقل و من يقتات على الحزن و يدمنه ” هناك فرق بين أن تسمحي لنفسك بالحزن و أن تطلبيه”.
تصالح سينيكا مع البكاء في بداية الرسالة. لا بأس إذن من البكاء و الحزن. لكننا في حاجة إلى إدارة هذه المشاعر بطريقة محسوبة ومعقولة.. هو طرح بعد ذلك سؤالاً
” المسألة التي تهمنا الان هي ما اذا كان ينبغي على الحزن ان يكون عميقا و دائما”
و بالحديث عن استدامة و استمرارية الحزن يحلل سينيكا احد اسباب حزن و هو الاعتقاد بان الابقاء على بالحزن يعني التمسك بالراحل ” تعلقك بحزنك الذي أبقيتيه حيا في موضع ابنك”. يرفض سينيكا التعامل مع المشاعر بهذه الطريقة فشعور الحزن ليس بديلا للابن الراحل.
ممارسات الحداد الغير المقبولة
بحسب سنيكا بالغت مارسية في حزنها و ذلك عندما منعت الاصدقاء من التواصل معها و خلقت حاجزا منيعا بينها و بين الآخرين و تقوقعت على ذاتها .هذه القوقعة لم تحجب الاخرين فحسب بل حجبت حتى ذكرى ابنها الراحل .
سرد الحكايا و الأمثلة يسلي المحزونين
اوكتافيا1.
يستعرض سينيكا حكاية امرأتين فقدتا أبناءهما. الاولى اوكتافيا عاشت و كانها في جنازة رفضت اي حديث عن ابنها و لم تحتفظ بالصور و كانت متجنبة لذكره و القصائد التي كتبت فيه .يرى سينيكا ان اخطات في حق حزنها و في حق ذكرى ابنها”و حين تجمع أحفادها حولها لم تخلع ملابس الحداد و وبخت كل عائلتها اعتقدت انها بلا اطفال رغم أنهم كانوا على قيد الحياة“.
“لم تحتفظ بأي صورة لابنها المحبوب أو تسمح بأي ذكرى منسوجة و كرهت كل الأمهات“.يعتبر سينيكا موقفها فشلا اخلاقيا . و يلقي اللوم عليها في استمرار حزنها المفرط و الحداد المطوب و يعتبرها مثال على عدم القدرة على التحكم و ضبط النفس و الاستسلام للمعاناة .
لفيا : 2.
بمجرد الدفن “طرحت حزنها للسكون” لم تتوقف عن الثناء و الاحتفاظ بذكراه.
مثالان متناقضان بين الحديث و الصمت، قبول العزاء و رفضه ،تجنب القصائد و الاحتفالات و الواجبات العائلية و بين من استأنفت الواجبات والوظائف العائلية. يتساءل سينيكا أي المثالين تعتقدين أنه يستحق الثناء..
ان اختارت النموذج الاول يعني أنها ستغيّب عن العيش و ستتجنب أطفالها الأحياء و أطفال الاخرين و “حتى الحقيقي الذي افتقديته ” ان موته لا يعني فقده . فمن الممكن ان يحيا من خلال ذكراه. ثم يذكرها بأسوأ شيء في هذا كله ” ستؤكدين أنك غير راغبة في العيش و غير قادرة على الموت“.
التعامل مع الحزن
يقول سينيكا ان الامراض المزمنة في حاجة لأن تقاوم بضراوة ، و الجروح المتقرحة تحتاج ان تكوى و تفتح . لنتعامل مع عواطفنا هذه لازم نفتح الجروح العميقة و نقسو عليها كي تندمل اما اغلاقها و التظاهر بانها غير موجودة لن يحل الموضوع. “حين تتقيح و تتحول لقرح فيجب ان تكوى و تفتح مرة اخرى و تجسها الاصابع”..” فالحديث المؤلم أفضل من الصمت”.
ثم كتب سينيكا عن ما سماه “الاحتيال على الاحزان ففي رسالته إلى والدته كتب سينيكا
” أن تشغلي نفسك بالترحال إلى أماكن بعيدة و خلابة ، استثمري وقتك في تأمل شؤونك بجدو أديري حالك أو اربطي نفسك ببعض النشاطات الجديدة على الدوام، و تعين كل هذه المبادرات لفترة وجيزة ، و هي ليست شافية للحزن بل تعيقه فحسب، و إنني أفضل أن ننهي الحزن أفضل من أن نحتال عليه”.
يحض سينيكا على المواجهة لا الهرب “فالحزن قد يخدع و يشتت بالسعادة و بزوغ شواغل جديدة و نستجمع من الراحة فيها قوة تعيننا على الغضب مرة تلو الأخرى ، و لكن الحزن الذي يخضغ للعقل ينمحي أبداً“
من المغري خداع نفسك أو الاختباء من مشاعر قوية مثل الحزن – بإخبار نفسك والآخرين أنك بخير – فالحزن قد يخدعك و يسكن لفترة محدودة لكنه قد يتكوم و يهجم عليك. فالحل يكمن في إخضاعه للعقل و يشير سينيكا اإلى ” علوم الفلسفة” في رسالته. ”
السيطرة و ضبط النفس
ضبط النفس و السيطرة على المشاعر أحد الأسس التي تقوم عليها الفلسفة الرواقية.
” فدعي حدا للحزن الذي يهلكنا“.. ” دعونا نسيطر على انفسنا“.. ” حتى في غرق السفينة على الربان ان يتشبث بالدفة”
و يستشهد سينيكا بالبهائم البكماء و كيف تتصرف عندما تحزن “انظر كيف تثير حزنها لفترة قصيرة فتسمع للبقر خوارا لمدة يوم أو يومين و للأفراس شرودا و حركات غير منتظمة …. فان الحيوانات لا تحزن طويلا على ذريتها و لا تعتمد في مدة مصيبتها على ما تشعر به بل على ما تقرره”.
1-توصيات سينيكا
في الفقد جمال
شعور الفقد و الحزن على شخص راحل قد يحمل في طياته شعور جميل و هو الاعتراف بوجود ذكرى عذبة ذات قيمة ، فالاحتفاظ و الاحتفاء بالذكرى المبهجة هو العزاء .
ما يجعل لكل شخص لكل ذكرى قيمة حقيقية هو ادراكنا بفنائها هنا يصبح للمشاعر قيمة اعلى. إدراك جمال هذه الذكرى المبهجة هو.شعور الحزن متاصل في الحب.. بسبب اداركنا العميق انه سيزول يوما
Grief is the price you pay for love
الم الفقد هو ثمن الحب
الحزن و البؤس على فقدك لشخص ما يعني انك احببت و هذا شيء.جميل بحد ذاته.
تأمل فضائله
العبرة ليست بكثرة السنين التي عاشها ” إن شرعت في تقييمه في حدود فضائله لا سنينه، فانه عاش بما يكفي… ترك جناحاً لرعاية الايتام حتى سن الرابعة عشرة و كان تحت وصايتكي،،و رغم أنه كان له منزل مستقل إلا أنه لم يغادرك”
” و حين تتاملين هذه الفضائل تشبثي في عناق ابنك كما كنت.. الان .. و لن يسبب لك قلقا و لا حزنا مطلقا( لان الاسوأقد حدث ، فهذا يقويك )…. المستقبل خال من قبضات الفرص و مليء بالسرور بشرط أن تعرفي كيف تتمتعين بولدك“
هديتنا الى الراحلين : إحياء ذكراهم العذبة داخلنا
نصيحة عملية يقدمها سينيكا وهي دعوة الأصدقاء و العائلة لمدح ومشاركة ذكريات الشخص الذي فقدته. معظم الناس لن يعرفوا كيف يتصرفون من حولك ، وعادة ما يظلون في صمت ،. هذا هو السبب في أن سينيكا يوجه في خطاب للأم الحزينة “شجعي الحوار حيث يكون هو موضوعه و لا تصمي أذنيك عن اسم ابنك و ذكره”
ليتحول الفقد إلى ذكرى عذبة نثمن فيها الذكريات و نتقبلها كما هي دون حسرة.
ستبتسم لنفس السبب الذي جعلك تبكي . ربما كان عمق الالم بمثل عمق البهجة التي يبعثها ذكرى الرحل. ذكراهم التي تضيء الحياة لا تميتها. لتكن الذكرى مصدرا للبهجة.
هناك شعور بالمرارة يساور مشاعر الحب. الإدراك بأنهم راحلون.شعور الحزن قد يبدو متأصلا في الحب.
و هذا ما ذكره سينيكا لمارسيا ان شعور الفقد لا يتصل بالرحيل فنحن مدركون في كل لحظة اننا فانون و مدركون اننا لا نمتلك من نحب و انهم معرضون للفقد في اي لحظة و في نفس الوقت عندما يرحلون فاننا لا نفقدهم بشكل كامل فما زالت ذكراهم داخلنا نحملهم داخلنا فما زال وجودنا امتدادا لهم فما زالو يشرقون داخلنا و يضيء اثرهم.
شريط الحياة ليس بالخواتيم
– الركون الى الحزن يجعلنا عالقين في اخر لحظة في حياة من نحب . في حالة مارسيا. يذكرها سينيكا انها بذلك تنسى افضل الاوقات البهيجة التي عاشتها معه ” حيث تنسين أفضل الأوقات .. و لا تحولين انتباهك عن الحياة التي شاركت فيها ولدك الاأوقات المبهجة و صبيانته التي قضيتيها معه و مفاتنه البديعة و تقدم تربيته”فالفكرة لا يمكن اختزال جمال حياته بفظاعة المشهد الأخير بل بتوسيع المنظور و مشاهدة الصورة بشكل كامل.
العيش وفق الطبيعة
الحديث عن الطبيعة جوهري في الفلسفة الرواقية ، كما أن تأمل الطبيعة يساعد على تجاوز الأوقات العصيبة لأنها تحاكي دورة الحياة. فدورة حياة الإنسان محدودة مثل دورة حياة العالم و بدايات العالم تحتوي على نهايتها لنتأمل حدوث فصول السنة و تعاقب الليل و النهار و ظاهرة الشروق و الغروب و منازل القمر و تساقط اوراق الشجر .
كتب سينيكا “و حين تسقط الأشجار بسبب تمزيق الريح لجذورها و بسبب اندلاع مفاجئ لاعصار يلوي جذوعها فان الفلاح يرعى براعم اوراقها و يزرع و يقلع في المكان الذي انمحت فيه و يمضي الزمن عاجلا سريعا في اللحظة التي يكون فيها الفقد و النمو فالنمو الجديد أكثر وفرة”
2-فهم الحياة
الحياة هبة و ليست امتلاك
توقع المصاعب و التهيؤ لها هي استراتيجية عقلانية لها أصل في الفلسفة الرواقية ..سينيكا لا يدعوالى ترويض المشاعر بل يدعو الى استبدال ذلك باستجابة عقلانية.. ..
يدعو سينيكا إلى اعتبار متع الحياة أشياء مستعارة “و عليك أن تعامل كل الهبات على أنها أشياء تأتي و ليست مضمونة ”
“يا مارسيه ، كل الاشياء البراقة التي تحيط بنا مثل الاطفال و الشرف و الثروة و البهو الواسع و الفناء المكتظ و الاسم المشهور و الزوجة الجميلة او النبيلة و كل الاشياء التي تستند على عدم اليقين و الفرصة المتقلبة فهذه ادوات لا تتبعنا بل هي لنا على سبيل الإعارة و ليس أي منها هبة”
الحياة حبلى بمصائب عدة لا تمنح احد سلاما بل بالكاد هدنة يصفها سينيكا بانها مؤقتة هشة زائلة و فانية. لا يوجد فيها شيء ثابت و كأننا في معركة مستمرة فالاصل عدم اليقين
نحن لا نمتلك شيئا على الدوام. الحياة عاريّة و اللايقين هو الأصل . الحياة دنيوية وهشة قصيرة . نحن نموت بمجرد ان نحيا . كتب علينا علينا الموت بمجرد قدومنا للحياة ..
” ما الفائدة من البكاء على اجزاء من الحياة اذ هي باسرها تدعو للدموع ”
توقع المعاناة
تخف وطأة هجوم المصائب عدما نتوقع حدوثها.. و توقع الأسو من أهم أفكار فلسفة سينيكا.. و الأصل في كثير من مشاعرنا السلبية هو الأمل و رفع سقف التوقعات ” لا نتوقع المعاناة الا حين حدوثها حتى لو كنا معفيين منها ” ..” اننا نفشل في ان نتعلم من مصائب الاخرين على انها شسوع على الاطلاق” و كتب أيضاً ” كثير من مواكب الجنازات تمر بديارنا و لا نفكر في الموت“.
يرى سينيكا ان هذا ما يجعل ” سقوطنا أعظم“فهذا فقد طفله و انت كذلك يمكن ان تفقد …… هذا الوهم يغمرنا و يخدعنا عندما نعاني مما لا نتوقع …. أما الذين يتوقعون حدوث المعاناة فيسلبونها قوتها فور وصولها”
التصالح مع الموت
الموت ليس مرادفاً للشر الموت جزء من الحياة .بل هو الحرية المطلقة. و منذ لحظة الميلاد و الموت ملازم لنا و يرافقنا من مرافقتنا للرحم.
“a prospect of death intensifies life”
الموت ينهي الحياة، و لولاه لما وجدت الحياة. الموت يعطي الحياة قيمة و معنى . لحظة ادراك ان الحياة ستفنى هي اللحظة التي تتجلى فيها عظمة الحياة و قيمتها .
“فالموت انعتاق من كل ألم و هو يعيدنا إلى حالة السلام التي كنا نرقد فيها قبل ميلادنا “فكل من يشعر بالشفقة على الميت ينبغي أن يشعر بالشفقة على من لا يولد… فالموت ليس خيراً و ليس شراً … و يختزل كل شيء إلى لا شيء. إنه يمحي السلاسل من الأسرى، إنه يخرجنا من سجن الذين رفضت سلطتهم المطلقة أن تفرج عنا… فلا يبالي الموت بمن يُدفن تحت التربة…. فإن الموت هو المسوي الأعظم”
كما أن تمني الموت من أقسى التجارب التي قد يعيشها الانسان لسواء لمرض أو ألم أو مرض أو هرم . فمن الخير أن ياتيك الموت دون ان تنتظره او ان تطلبه.. الموت راحة و كرامة و حرية. ” الموت اكتشاف أرقى للطبيعة، سواء ….. ينهي تعب إنسان مسن و ورعه، أم يقطع حياة قصيرة لشاب في مقتبلها و هو يتوقع أشياء أفضل أم يوقف طفولة قبل أن تصل إلى مراحل متقدمة فموت كل امرئ هو نهايته و هو للكثرة علاج و للبعض جواب للصلاة و لا أحد أفضل ممكن يأتيهم دون انتظار دون أن يطلبوه”
برسالته حاول سينيكا ان يحول حزن مارسيا المنغلق على ذاته الى ذكريات و يلتقط المعنى من هذا كله لكنه لم يكن ليفعل ذلك لولا فتح الجرح و الدخول في حوار مع مع الروح المكلومة و مقاتلة حزنها بضراوة .
المراجع
https://plato.stanford.edu/entries/seneca/
https://dailystoic.com/seneca-overcoming-grief-facing-death-true-nature-life/