قدم كانط صياغتين محرجة لأطروحة “لا أخلاق بلا دين” وهذه الصياغتين تستنبط من أعماله في الأخلاق (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق) و (نقد العقل العملي) وكذلك كتابه (الدين في حدود مجرد العقل) فهذه المؤلفات تقدم حججًا عن أخلاقيات بلا دين، وعن ديانة تقوم على العقل المجرد وحده دون معونة أي شيء أخر. فهنا أريد عرض هاتين النقطتين التي قدمهما كانط ضدًا للأطروحة المذكورة سابقًا.
أولا: يحاجج كانط منذ بداية كل مؤلف حول الأخلاق بأن السيكولوجيا ليست أرضًا صالحة للبحث الأخلاقي، وأن الأخلاق لا تقوم على عناصر تجريبية أو حسية، فهي مبادئ نقية لا يعتريها فساد العالم وتغيراته، حتى يظفر بذلك بنتيجة صارمة تنص على أن الفعل الأخلاقي غاية في ذاته وليس وسيلة حتى، وفي تعاملات الإنسان مع أخيه الإنسان يجب أن يسلك معه كما لو أنه غاية في ذاته لا وسيلة، وعليه تكون النتيجة العملية هي أن الفعل الأخلاقي فعلٌ لا مشروط ومطلق، أي لا يتعلق بمنفعة ولا فائدة إنما فعل الواجب لأجل الواجب فقط، ونعلم بأن هذه المبادئ المحضة والتي لا تلتقي مع السيكولوجيا ليست متحققة في الأديان التي تعد بالجزاء والثواب والأخرة الخ فالأفعال تكون هنا مشروطة بالحسنات والجزاء والأمل، بينما كانط يطالب بأن الفعل الأخلاقي يكون مطلق ولا مشروط . هذه الأطروحة الأولى
ثانيا: قدمها كانط في كتابه (الدين في حدود مجرد العقل)وهي بسيطة ومعقدة، ويصعب تجاوزها بسهولة، تنص هذه الحجة على أن “الدين ينبع من الأخلاق وليس الأخلاق تنبع من الدين” بمعنى أن الأخلاق كمبادئ لابد أن تكون سابقة على مبادئ الدين وإلا لتعذر الحكم الأخلاقي على أي ديانة، وصار الإنسان يقبل أي شيء تحت “تدبير الدين” وهذا ما يجعل البعض يقوم بأفعال شنيعة دون أن يحاكم صحة فعله بمنظومة أخلاقية متماسكة، وهذا ما يجعل مبحث الأخلاق في غاية الخطورة فهو يتعلق بفعلنا مع أنفسنا والأخرين، وعليه وضع كانط مبادئ محضة وقبلية من خلالها تُقبل الأديان أو ترفض، والسؤال الذي يجب طرحه نحن أبناء هذا الجيل : أي مبادئ أخلاقية نتفق عليها وبها نحاكم كل خطاب؟ وما معيارنا لاختيار هذي المبادئ؟ وهل نحن نملك القدرة على الزعم بوجود مبادئ محضة ليس لها أي أصل حسي أو تجريبي؟ وهل الأخلاق متعالية على الإنسان ومن ثم يجب عليه أن يحاكيها أو يطابقها؟ أم الأخلاق تتعلق بما هو كائن وليس ما يجب أن يكون؟ وأن يسلك الإنسان وفق طبيعته وليس وفق ما يتجاوز طبيعته؟ والأهم كيف تخدمنا علوم هذا العصر المتصلة بهذا المبحث؟ أي علم الأعصاب والسيكولوجيا وعلوم اللغة الخ
هذه بالجملة نقطتين مستوحاة من فلسفة كانط أجدها محرجة لتلك الفرضية القائلة “لا أخلاق بلا دين” والقصد من الدين في كل هذه المقالة هو ما سماه كانط بالديانات التاريخية والتي تتسم بصفات مشتركة إلى حد بعيد وأعني ( وجود الإله أو الآلهة و الحياة الأخروية وخلود الروح والثواب والعقاب في الدنيا والاخرة نسق نظري وعملي للعيش) أقول ذلك لأن الذي يدافع عنه كانط هو في نهاية المطاف داخلٌ في الثيولوجيا بحيث يسلم بدءاً بوجود مفارق للمادة أي الأنا المتعالية والروح وغير ذلك وعليه نخرج بنتيجة بأن الجدل بين طرفين : دين تاريخي ودين عقلي.