لنذكر بادئ ذي بدء، أن ثمة فرقاً بين الماهية والهوية يتجلى فيما يلي:
الماهية نوع مما يمكن أن نسميه “الهوية النوعية” أي الخصائص التصورية أو الفئوية المشتركة التي ينطوي تحتها أفراد أو ماصدقات. كأن نقول عن ماهية الإنسان أنه “حيوان عاقل”. وقد نزيد في التعريف فنقول: وأنه كائن اجتماعي يستعمل الرموز واللغات في التواصل”. هذا “التصور الكلي” هو تعريف ماهوي للإنسان كإنسان بصرف النظر عن مكانه وزمانه. وأفراده هو كل البشر الفعليين والممكنين.
أما الهوية فيمكن أن نسميها “ماهية شخصية”. أي كل ما يميز فرد من أفراد فئة كلية عن غيره. فنقول إن هوية سقراط هو كونه رجلا، فيلسوفا يونانيا، له شكل معين وسمات خاصة، واسم زوجته زنثيب وعاش في كيت وكيت.. إلخ.
فهو نوع من تقديم تعريف لا يصدق إلا على سقراط وحده.
في الفكر الفلسفي الحديث، وتحديدا مع جون لوك، ظهر مفهوم الهوية الشخصية كأهم المفاهيم الفلسفية التي لها تداعيات في القانون والأخلاق وعلم النفس. وكان السؤال الجوهري: ما الذي يجعل “س” هو “س” رغم التغيرات التي طرأت عليه؟
لنفترض أن لدي سيارة اقتنيتها قبل عشرة أعوام، وطوال هذه الأعوام أصلحها كلما تعطلت وأغير فيها قطعاً محل قطع تالفة، ولنفترض أن كل قطع السيارة القديمة تم تغييرها بجديدة بحيث لم يبق من القديمة أي شيء، فهل نحن أمام سيارتي القديمة ذاتها أم سيارة جديدة لا علاقة لها بالأولى؟ (لدى اليونان معضلة اسمها سفينة ثيسيوس وقد جعلناها سيارة بدلا من السفينة).
ما الذي يجعلني وأنا في عمر الست سنوات نفس الشخص اليوم؟ لقد تبدلت “خصائص كثيرة” كانت تصفني: مزاجي، أفكاري، مكاني، زماني، علاقاتي، حتى جسدي وخلاياه.. فكيف نقول إني نفس الشخص؟
حدث الكثير والكثير من الجدل حول مفهوم الهوية الشخصية.. فجون لوك يرى أن الوعي الذاتي والذاكرة هو أساس الهوية الشخصية.. فأنا أعي أني كنت أنا قبل ثلاثين عاما وذاكرتي سمحت لي بذلك. لكن هذا الرأي تواجهه معضلات شتى ليس أهونها أن يتعرض الوعي لعطب أو يتعرض المرء لفقدان ذاكرة.. فهل نقول إنه صار شخصاً ثانيا مختلفا عن الأول؟ من هنا فإن الجسد سوف يكون مقوماً أهم من الذاكرة في هذه الحالة. ومع ذلك فهذا الحل يواجه بدوره مشكلات كتغير الجسد أو تغييره بفضل عمليات جراحية أو تجميلية.
لن أخوض الآن في الحلول المقدمة لمشكلات الهوية الشخصية، بل سأعود لمشكلة اصطلاحية ومفهومية أسبق.. وهي أن كثيرا من الدراسات في موضوع الهوية الشخصية تخلط بين مفهوميْ الماهية والهوية.
حتى الآن، ومنذ جون لوك، والحديث ليس في الحقيقة عن “الهوية الشخصية” بل عن “الهوية النوعية”، لكن تم إدخال عامل الزمان في مفهوم الماهية. فتحديد ماهية الإنسان الأرسطي الشهير وهو أنه حيوان عاقل هو تحديد ثابت أو غير زماني، بل يصف أي إنسان كان. أما تحديد جون لوك فهو سؤال عن الماهية أثناء تغير المرء عبر الزمان. أو لنقل بتعبير منطقي: ماهية أرسطو تتكئ على “التصور”، بينما هوية لوك تستند على “الماصدق”. والماصدق هو الفرد وليس الكل. هو شخص بعينه وننظر أليه بوصفه مثالاً على ماهية كلية. والنظر في ما هو شخصي يعني التعامل مع مشكلة الزمان. والزمان يعيد تشكيل الماهية ويقوم بتحويلها إلى هوية شخصية. لكن كما قلنا، فالهوية الشخصية في الدرس الفلسفي المعاصر ليست سوى هوية نوعية، ولكي تكون هوية شخصية فيجب أن تتناول شخصاً بعينه (سقراط أو طه حسين أو أي شخص). أما ما يجري في النقاشات الفلسفية فهو تساؤل ميتافيزيقي يتعامل مع الزمن بشكل كمي رياضي. فالزمن لكي يكون تاريخاً يجب أن يتعلق بأشخاص بعينهم. وهذا قد حدث فعلا ولكن خارج الدرس الفلسفي الميتافيزيقي، أي في إطار الدراسات السوسيولوجية والثقافية. فالهوية العرقية والسياسية والدينية أمثال على التناول التاريخي للهوية الشخصية. فالمسلمون في الغرب يدركون جيدا هويتهم كمسلمين ويتعاملون معها بشكل شبه يومي. وهذا ينبق على السود والنساء والأقليات في كل مكان.
ولكن التحليل هنا لا يعد تعاطياً مع “الهوية الشخصية” بل مع هويات تاريخية فئوية. فإذا كان التحليل الميتافيزيقي يدرس الشخص بوصفه كينونة مجردة، فإن التحليل السوسيولوجي يدرسه كمجرد عضو في زمرة اجتماعية. الفكر الفلسفي الأكثر قرباً لتناول الهوية الشخصية بالمعنى الذي نطرحه هنا هو الفكر الأنطولوجي عند هايدجر والفكر الوجودي عند سارتر وغيره. فإصرار سارتر على أن الوجود يسبق الماهية هو إلقاء بالمسؤولية على الفرد لكي يصوغ هويته بنفسه. وكلمة “الماهية” هنا يجب ألا تضللنا، فهي تتحول إلى هوية عندما ينشئها المرء ذاته. قديما كان الفلاسفة يفترضون “ماهية” للإنسان، كلية وعامة، وليس على الأفراد سوى أن يتقولبوا فيها ليكونوا بشراً. مع الوجوديين، حدث العكس، فصار الإنسان يوجد أولاً بلا أي جوهر مسبق، ثم يبدأ في صياغة ماهيته (لكنها ماهية شخصية)، أي ليست كلية بل تنطبق على واحد هو صانعها. وندعوها “هوية شخصية” بدلا من “ماهية” لما للثانية من دلالات كلية وجامدة.
الهوية الشخصية في التحليل الوجودي اقتربت من موضوعها بطريقة أفضل مما كان عليه التحليل الميتافيزيقي والسوسيولوجي. ولهذا فالهوية الشخصية في الفكر الوجودي لم تعد موضوعاً للمبحث المعرفي أو الإبستمولوجيا بل هي فعلٌ حر ومسؤول يقوم به الشخص الذي يعيش وجوداً أصيلاً. ومن الأفضل درسها عبر حقول فلسفية غير إبستمولوجية كالأخلاق والتربية والسياسة والقانون.