يميز كثير من فلاسفة التأويل بين الشرح أو الوصف من جهة، والفهم أو التأويل من جهة أخرى. والنوع الأول مرتبط بالعلوم الطبيعية بينما الثاني هو المنهج الملائم للإنسانيات. وكان دلتاي أبرز من انشغل بالمنهجية العلمية المناسبة للتاريخ والإنسانيات لدرجة الهوس، أو كما يقول غادامير، إن لديه قهراً علمياً يجعله لا يتخلى عن فكرة المنهج.
ليس بالضرورة أن يكون للفن وقراءة النصوص والأعمال الأدبية منهجٌ، لكن لا بد، على أقل تقدير، من وجود بعض المبادئ والقيم التي من خلالها نميز بين تفسير معقول وآخر غير معقول، وليس بين تفسير صحيح وآخر خاطئ. فالإيمان بانفتاح التأويلات لا يبرر “اللعب الفوضوي الحر حيث كل شيء مقبول” (كما يقول تولمان، نقلا عن آرمسترونغ، القراءات المتصارعة، ترجمة فلاح رحيم).
هناك مبادئ فنية، وأخرى أخلاقية، تحكم تذوقنا وقراءتنا للنص. قد يحتج البعض على المبادئ الأخلاقية، تحت دعوى لا علاقة للفن بالأخلاق (وهي بدعة ممجوجة وطال زمن الاعتقاد بها كثيرا!). وعلى كل حال، فالأخلاق المرادة هنا هي أخلاق النص أو العمل الفني، وليست أخلاقَ المجتمع أو الثقافة. وأخلاق النص تنهض على قيم إنسانية شمولية كالحرية والعدالة والمحبة ومحاربة الظلم. وهكذا فإن عملاً أدبياً يدعو لاضطهاد النساء أو لقتل المخالفين ليس من الجمال في شيءٍ، حتى ولو كان ذا مهارة فنية وبلاغية مدهشة. فالجمال لا يطابق الفنّ، ولكنهما مقترنان. فالفتاة الجميلة ليست فناً. والنص لكي يكون فناً جميلاً يجب ألا يضادّ الإنسانيةَ وألا يكون مصدراً للأذى والألم المقصود لذاته (وبهذا تخرج إرادة التطهير عند أرسطو وجماليات القبح عن هذا الحد السلبي؛ لأن غاياتها إنسانية). أما القيم الأخلاقية لثقافة معينة فلا معول عليها هنا ما لم تكن مشتقة من القيم الإنسانية العليا.
يطرح إي. دي. هيرش مبدأ أخلاقياً آخر، وهو أننا يجب ألا نحتقر المؤلف المبدع ونتجاهل قصديته ودوره في إنتاج معنى النص، ما لم يكن هناك مبرر قوي يدفعنا لذلك. ذكر ذلك في كتابه (مقاصد التأويل، ص ٩٠). ويوضح ذلك بمثل آخر: إننا يجب أن نقول الصدقَ دائما، ما لم تكن هناك ضرورة قوية للكذب (مثلا الكذب من أجل إنقاذ حياة إنسان بريء). ويعلق بول آرمسترونغ قائلا: إن ذلك المبرر القوي الذي يدفعنا لتجاهل قصدية المؤلف هو المعول عليه في صراع التأويلات (القراءات المتصارعة، ٤٣). لكنّ النظريات المضادة للمؤلف اليوم تجاهلته تماماً، بل وأعلنت موته الأبديّ!
هيرش مشهور بتقسيم ثنائي ظهر في كتابيه (الصلاحية في التأويل) و(مقاصد التأويل)، بين المعنىmeaning والدلالةsignificance . يقول في مقاصد التأويل “(المعنى) هو كل ما يحيل على المعنى اللفظي للنص، بينما (الدلالة) هي المعنى النصي في علاقته بسياق أكبر: في علاقته مع عقل آخر، مع عصر آخر، مع موضوع معين، مع نظام مغاير من القيم، وهكذا. بتعبير آخر، (الدلالة) هي المعنى النصي في علاقته بسياق ما، أيِّ سياق، ما خلا نفسه” (ما خلا نفسه تعني علاقة المعنى النصي بشيء غير نفسه) (ص ٣). ويقول إن (المعنى) هناك، قائم في ذاته، و”إذا فشل المؤول في إدراك (معنى) النص بوصفه هناك كمناسبة للتأمل أو التطبيق، فلن يكون لديه شيء يتحدث عنه … إن كون (المعنى) هناك، وإن هويته الذاتية التي تستمر في كل لحظة من لحظات النص، تسمح للنص بأن يكون موضوعا للتأمل”. وهكذا “فإذا كان (المعنى) هو مبدأ الثبات في التأويل، فإن (الدلالة) هي مبدأ التغير” (ص ٨٠).
في كتابه (الصلاحية في التأويل) يشدد على أن أهمية المعنى وثباته لا تعني الارتهان إلى قصدية المؤلف وما يدور في ذهنه، بل إلى معنى نص المؤلف (ص٢٢٤). لنقل، إلى “قصدية” النص!
فقصدية المؤلف عنده ليس ما يجول في ذهنه، بل ما يتجلى في نصه.
أما المبادئ الفنية التي يجب أن تتحرك القراءات في إطارها لكيلا تكون ثرثرة لا متناهية فهي تتعلق بأدوات التعبير الفني كاللغة مثلا، وبسياقه التاريخي، ومن ضمنه سياق حياة المبدع. الفن إنتاج ثقافي، وليس كالجمال الطبيعي، رغم أن هذا الأخير قد يتأثر بالعوامل الثقافية. وكل منتج ثقافي مرتبط بسياقه التاريخي، ولكننا نقرأه ونتذوقه من وجهة نظر “آنية”. وهذا هو انصهار الآفاق عند غادامير، لكن غادامير لم يضع مبادئَ تضمن لنا ألا نقع في الإسقاطات الحاضرة العشوائية. هذه المبادئ وضعها هيرش، فالمعنى اللفظي للنص يضمن له هوية ذاتية تجعله هو هو مهما ارتحل عبر الأزمنة والأمكنة.
هناك شيء ما يريد المبدع أن نتلقاه. وينقله لنا عبر شروط موضوعية، عبر اللغة، في حالة الإبداع الأدبي. واللغة هنا ليست النحو والتراكيب فقط، بل هي مستوع ضخم من الاستعارات والمجازات والدلالات المتنوعة. ورغم أن القارئ المعاصر لا يستطيع أن يتأكد من المعنى الذي يريده المؤلف، لكنه يقترب منه عبر الالتقاء مع المؤلف (الذات المبدعة) في النص (الوسيط الموضوعي). ولكي يلجَ القارئ لهذا الوسيط فإن عليه أن يلمّ بشروط بنائه؛ أي بتاريخه الأسلوبي والبلاغي، والتاريخ العام الذي ظهر فيه.
يرى غادامير أن علينا ألا نتخلى عن أفقنا الحاضر (عن وسيطنا، أي اللغة كما نستخدمها اليوم) عند تناول النص وأن تصوراتنا المسبقة ضرورية في الفهم، ويرى هيرش خلاف ذلك، بأننا يجب أن نتخلى عن هذا الأفق لأنه سيؤدي لفشل العملية التأويلية (الوصول لقصدية النص). لكن غاية غادامير ليس فهم النص بشكل موضوعي، بل أن نعيشَ النص ونستبطن خبرته لتكون جزءا من خبرتنا، ومع اتساع الخبرة يتسع الفهم، ليس للنص بالضرورة بل لوجودنا. فالغاية من التأويل جعلت طريقته تتباين.
من هنا، يجب أن تكون المبادئ التي تحكم التأويل مفهومة في ضوء الغايات. عندما أقرأ نصاً شعرياً لأبي الطيب المتنبي، فعلي أن أسأل نفسي: ما الذي أريده منه بالضبط؟! هل هو فهم النص أم التلذذ به أم ماذا؟ عندما أقرأ سورة من سور القرآن، ما الذي أريده منها؟ هل أريد الفهم فقط؟ أم التذوق الفني؟ أم استنباط أحكام شرعية؟ ما نريده من النص يجب أن يكون واضحاً قبل أن نخوضَ في الطرق المناسبة للتأويل.
الغايات من التأويل مختلفة، وتتنوع بتنوع الزمن. وأما المبادئ والطرق فتكون ثابتة أو متغيرة حسب الغاية. فإذا كان الفهمُ غايتي فإن هناك طرقاً مناسبة، والفهم هنا يستحضر الآخرَ، أي المؤلف، ومن ثم فهو ليس عملية ذاتية بل موضوعية (بين-ذاتية intersubjective ). ومن ثم فهو ينهض على عناصر من الخبرة المشتركة، سواء أكانت خبرة إنسانية أو خبرة ثقافية. أما إذا كانت غايتي التذوق الفني فيكفيني الأثر الذي يحدثه فيّ (إذا الشعر لم يهززك عند سماعه .. فليس جديرا أن يقال له شعرُ)، وهكذا.
أعتقد أن دعاوى التأويل اللامتناهي واللعب الحر ليست غايتها الفهم، بل الإبداع؛ أن يبدع القارئ نصاً على هامش النص الأصلي. وعندما نفهمه بهذا الشكل فإن المشكلة تزول. أما إذا زعم الما بعد حداثي أن هدفه الفهم، وأنه سيفهمه كيفما شاء، فإنه قد خلط بين الغايات ووضع نفسه في مغالطة واضحة، يمكن تسميتها (مغالطة الغاية). فالفهم في النهاية مرتبط بآخر، بمعاني وقصديات شخص آخر. وهنا يتجلى الطابع الأخلاقي عند هيرش عندما لفت النظر لقصدية المؤلف واحترامه بوصفه آخرَ له الحق في أن يكون لديه معناه أيضاً.
بما أن النص منتج ثقافي فله طريقة تخالف طرائق فهم المنتج الطبيعي (كالأشياء التي تدرسها العلوم الطبيعية). لكن مع ذلك، فليس ثمة قطيعة بين الثقافة والطبيعة، فالنصوص تعبر عن موقف ثقافي شخصي وجمعي من الطبيعة. إن اللغة في أصلها ذات طابع إحالي مباشر على الطبيعة وأشيائها. وهذا يفسر الحسية الصارخة للإحالات اللغوية. حتى في الكلمات اللامادية كروح ونفس فإن فيها أثراً حسيا واضحا (الريح، والنفَس).
أعتقد أننا عندما نتناول نصا أدبيا (إبداعا لغويا) فإننا نكون إزاء ثلاثة معانٍ، يقابلها ثلاثة طرق في القراءة، بشرط أن تكون الغاية من القراءة هي الفهم فقط:
الشرح: ولا أعني به شرح معاني الكلمات، بل معنى العبارة (أصغر وحدة دلالية في النص). وبما أننا لكي نقول شيئا عن النص لا نكتفي بتكراره، بل نضيف شيئاً عليه، فإن الشرح هو ضرب من القراءة (وليس التلاوة). والشرح هو إيضاح لمعنى العبارة ولكن اعتماداً على قرائن نصية، والمعنى هنا هو معنى نصي.
والتفسير: هو انصراف عن المعنى النصي إلى معنى يحتمله، ولكن اعتمادا على قرائن طبيعية، وهذا هو المعنى الطبيعي.
والتأويل: هو انصراف عن المعنى ككل إلى معنى يحتمله، ولكن اعتمادا على قرائن ثقافية، وهذا هو المعنى الثقافي.
لإيضاح ذلك سأعود لأمثلة ضربها علي بن محمد الجرجاني في كتابه التعريفات وفيها يميز بين التفسير والتأويل.
في التعريفات، يقول الجرجانيّ: التأويل لغة الترجيع، وشرعاً هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المعنى المحتمل موافقا للكتاب والسنة، مثل قوله تعالى (يخرج الحي من الميت). فإن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيراً، وإن أراد به إخراج المؤمن من الكافر، أو العالم من الجاهل، كان تأويلاً (مادة: التأويل، ص ٤٧، دار الكتاب العلمي، ٢٠٠٢).
لنعد النظر أكثر في هذا التعريف. لدينا هنا آليتان للقراءة، الأولى هي التفسير وهي إيضاح المعنى الظاهر للآية، والتأويل هو معنى ثانٍ ينشأ من المعنى الأول، ولكنه انصرف عنه لقرائن وأسباب غير نصية وهي قرائن ثقافية.
في التفسير، لم يكتفِ المفسر بنص الآية الواضح (إخراج الحي من الميت) ولكنه أوضحه وذلك من خلال التعامل مع المعنى بوصفه “كلاً” وتقديم “مثال” جزئي عليه. فالتفسير هنا ضرب من التمثيل (إعطاء أمثلة). لكن التأويل أيضا يقدم “أمثلة”(إخراج المؤمن من الكافر) أي إن الأب الكافر ينجب ابناً مؤمناً. فما الفرق بين المثالين؟! فلنفحص الآية لفظة لفظة: (يخرج) تعني يحوّل من حالٍ إلى حالٍ مغاير، و(الحي) هو كل ما تدب فيه الحياة (لنقل ذوات الأرواح)، و(الميت) هو نقيضه؛ فالطير كائن حي، والبيضة ليست كائنا حياً. فالمعنى الذي ينتهي إليه التفسير مرتبط بالنص ومفرداته، لكن في التأويل ينشأ معنى ثان لقرائن غير نصية، أي غير متعلقة بمعنى الكلمات المكونة للآية. فالمؤمن والكافر كلاهما كائنات حية. فمن أين أتت هذه القرائن؟ أولا، من السياق الكلي للآية وهو القرآن، ومن السياق السوسيو-تاريخي للقرآن وهو الدعوة الإسلامية. وخطاب الدعوة ينبني على استخدام مفرط للمجازات وضرب الأمثال مثل “النور” و”الظلام” وغيرهما. فالإخراج من الظلمات إلى النور ثيمة جوهرية في هذا الخطاب، وهي تبرر استنباط المعنى التأويلي.
الآية التي يحيل عليها الجرجاني هي من سورة الأنعام (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي). لكنها أيضاً وردت في سورتي يونس (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) والروم (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون).
في الآية الأولى، اقترنت عبارة (يخرج الحي من الميت) بعبارة (إن الله فالق الحب والنوى). وإخراج النبات الحي من البذرة الميتة (اليابسة) هو المعنى الأكثر قبولاً لدى المفسرين، ولدى الحس اللغوي المشترك.
في الآية الثانية، ارتبطت بالرزق من السماء، والسمع والبصر، ولكنه ارتباط أضعف من الارتباط الأول. فالترتيب الذي يعبر عنه حرف العطف (الواو) في الآية الثانية يجعل إخراج الحي من الميت مثلاً من ضمن أمثلة أخرى للدلالة على عظيم فضل الله، بينما في الآية الأولى لا يسبقها حرف عطف، مما يجعل (يخرج الحي من الميت) شرحاً (تعليلا) لـ(فالق الحب والنوى). ولكنه تعليل مقلوب، أي يتم ذكر المعلول قبل العلة، أو المثال الجزئي قبل الوصف الكلي. ومن أجل شرح الآية (تعليلها) بطريقة منسجمة مع تفكيرنا المنطقي، نقول: إن الله يخرج الحي من الميت، فهو مثلا ينبت الشجر الحي من الحب والنوى اليابسين. في الآية الثالثة، ثمة اقتران بالعطف، ولكنه أقوى منه في الآية الثانية: فكلمة (يحيي) و(موتها) تحيل مباشرة على (الحي) و(الميت).
هناك عملية ثالثة لم يشر لها الجرجاني، وهي تقع في بداية القراءة. أي، الشرح. والشرح لكيلا يكون إعادة للنص وتكرار لفظي له، يجب أن يكون تعليلاً أو تمثيلاً؛ أي إيضاح العلة بالمعلول، أو إيضاح الكلي بالمثال الفردي، ولكن يجب أن تكون هناك قرائن نصية لئلا يكون تفسيراً؛ فالتفسير حسب الجرجاني (إخراج الطير من البيضة) فيه انصراف عن المعنى اللفظي الظاهر. فليس في الآية ما يشير للطير ولا للبيضة بل هو اجتهاد من المفسرين. فهل هو تأويل؟ ربما نجد فرقاً بين التفسير والتأويل حسب فهم الجرجاني. ففي التفسير تم صرف المعنى اللفظي إلى معنى يحتمله ولكن هذا المعنى المحتمل موافقٌ لقانون الطبيعة أو للمنطق أو للحس المشترك (قرائن طبيعية). بينما التأويل صرف للمعنى إلى معنى آخر موافق للكتاب والسنة (قرائن ثقافية). بعبارة أوضح، التفسير يمكن أن يفهمه شخص غير مطلع على الثقافة الإسلامية، فعبارة إخراج الحي من الميت تحيل ذهنه على عمليات بيولوجية أو طبيعية. بينما التأويل يشترط من القارئ أن يكون عارفاً بالسياق الثقافي الذي ظهر فيه النص.
مما سبق، لدينا ثلاث عمليات قرائية:
الشرح، وهو التعليل أو التمثيل، والمعنى يتحقق عبر قرائن نصية (السياق أفقي؛ بمعنى أن الكلمة تكتسب معناها من ترابطها في علاقات سياقية-تركيبية مع كلمات أخرى، كما بينها دي سوسير في ما يسميه المحور الترتيبي). فوجود (فالق الحب والنوى) إلى جوار (يخرج الحي من الميت) يجعل القراءة شرحاً (تعليلاً).
التفسير، وهو صرف المعنى الظاهر (ما ينتهي إليه الشرح) إلى معنى آخر، ولكن عبر قرائن طبيعية (السياق هنا يعتمد على المحور الاستبدالي). فإخراج الطير من البيضة مثل إخراج النبات من النواة، ولكن ليس هناك قرينة نصية تدعم التفسير.
وأخيراً، التأويل، وهو صرف المعنى النصي، والمعنى الطبيعي، إلى معنى ثقافي لا يمكن حضوره سوى في ذهن القارئ الذي ينتمي لثقافة النص. والسياق أيضا استبدالي، ولكنه ثقافي لا طبيعي.
إخراج الحي من الميت إن كان تعليلا أو تمثيلا فهو شرح، وإن كان شرحاً ولكن بدون قرينة نصية فهو تفسير، وإن تحويلا للمعنى إلى دلالة ثقافية فهو تأويل.
فأين تقع القراءة التي ترمي إلى معرفة قصدية المؤلف وقصدية النص؟ أو أين يقع (المعنى) و(الدلالة) بمعناهما عند هيرش في هذا التصنيف الجديد؟
إذا كانت قصدية المؤلف تعني معرفة ما يدور في ذهنه تماماً فهذا أمر مستبعد، لأنه ذاتي بحت. أما إذا كان إبداع المؤلف هو العملية التي يحوّل فيها ما هو ذاتي إلى ما هو موضوعي، مع الاحتفاظ بما هو شخصي (كأسلوبه وأن المعنى في النهاية من خلْقه) فنحن نتحدث عن معنى النص أو قصديته. والوصول لهذه القصدية يتم من خلال تعاقب القراءة عبر الشرح والتفسير والتأويل. فليس هناك ثنائية معنى ودلالة، بل ثمة تعاقب إجرائي أو منهجي تتطور من خلاله الدلالة، ويفترض بها أن تصبح أكثر اكتمالاً في التأويل. فتبدأ القراءة بالمعنى النصي، وتحيط به، ثم بالمعنى الطبيعي أو الموضوعي، ثم تنتهي إلى المعنى الثقافي. ويجب أن تصل إلى المعنى الثالث (الثقافي) ولا أن تتوقف عند المرحلة الأولى أو الثانية. وفي المعنى الثالث يحضر القارئُ ليس بوصفه خالقاً للمعنى بل مسؤولاً – بشكل أخلاقي- عن استقباله والكشف عنه بإخلاص.