مفهوم الطبيعة/الوجود:
للمفاهيم حياة كغيرها من الموجودات الطبيعية، واللغة بعامة ليس لها دلالة قارة في بطون المعاجم بل على الضد من ذلك حيث أن اللغة الطبيعية أي الأداتية لا تكف عن توليد الدلالات وهذه أمارة خصوبة لا نقص. ويضع ستروسن في كتابه (مباحث منطقية لسانية) قسمة بين رؤيتين للغة حيث الأولى هي من تنظر إلى “قصدية التواصل” والثانية في “شروطها الصورية” : ينبغي أن يكون للنضال من أجل ما يبدو كالقضية المركزية في الفلسفة شيء من صفات هوميروس الملحمية.[1] والنضال هنا هو بين من يقول بأن اللغة أداتية تواصلية ليس للكلمات معان قارة وأزلية وبين من يرى عكس ذلك بأن للغة بنية نحوية ثابتة ومعاني لا تتغير، ومن وجهة نظري أن الهرمنيوطيقا هي من يجمع هذا الخلاف أي التأويلية، لذلك لن أتبع الأسلوب المعجمي أو الأداتي بل التأويل بقدر ما يناسب المقام. فمثلا المفهوم الذي نحن بصدده أي الوجود/الطبيعة يذكر كثيرا منذ بارمنيدس وأفلاطون وأرسطو فالسبيل لمفهم معناه يكون من خلال الرجوع لسياق حديثهم كقصيدة بارمنيدس مثلا ومن ثم النظر كيف فهم اللاحقون هذا المفهوم، أي تفسير النص من خلال المقارنة مع ذات الحقبة التاريخية وما تلاها.
لقد كان للفلاسفة ما قبل سقراط-[2]اهتمام بمسألة الطبيعة لذلك سوف يكون أول مفهوم نتناوله هو الطبيعة، فماذا يقصدون بهذا اللفظ؟ أول ما علينا فعله هو أن ننفي ذلك التصور الواقع في اسقاط تاريخي حيث يرى بأن الطبيعة عند هؤلاء كيان مادي منفصل عن الإنسان أي كما يتصور العلم الحديث الطبيعة، فالطبيعة عند هؤلاء تمتزج مع ثلاثة أشياء رئيسة النفس والآلهة والأرواح وهذا بين من وجهين: التعبيرات الأسطورية التي نجدها عند هؤلاء وهي امتداد للديانة اليونانية القديمة كالأوقيانوس عند طاليس، وثانيا ما نقله أرسطو عنهم في كتابي النفس والسماع الطبيعي تحديدا، ففي كتاب النفس ينقل لنا مثلا بأن هيراقليطس اختار النار كمبدأ أول للكون والفساد لأنها عنصر لطيف لاجسماني، ونقل أيضا عن الفيثاغورية بأنها تقول بالهواء كما فعل انكسمنس[3] بوصفه عنصرا لاجسماني، وهذا يوضح بأنهم يرون في الطبيعة غير ما نراه نحن حديثا، فالعناصر الأربعة لها ثلاث سمات نقلها أرسطو في كتاب النفس(الحركة والإحساس واللاجسمية) ويتبين من هذا أمرين الأول أن عنصرا كالهواء لاجسمي وندرك نحن اليوم بأن الهواء داخل في حقل القوى الفزيائية كالجاذبية والقوى القوية والقوى الضعيفة، والأمر الثاني أن الحركة لدى الإغريق لا تقوم على مبدأ العطالة مثلا بل ينسبون لها النقص فكل ما يتحرك هو كذلك لأنه ينزع نحو كماله الطبيعي وأخذ بهذا المعنى أرسطو نفسه حيث كل الموجودات تنزع إلى محاكاة المحرك الذي لا يتحرك نزوعا شوقيا. وعليه استنبط ثلاثة معانٍ للطبيعة وهي:
وقد يسأل القارئ هل هذا تكلف للقبض على دلالة المصطلح اليوناني عند هؤلاء الفلاسفة؟ الإجابة عن هذا السؤال نجدها في السماع الطبيعي حيث يقول أرسطو: وأيضا من الوجهة الإشتقاقية فإن لفظ الطبيعة مرادف للفظ النشوء والتكون وعلى ذلك فإن الطبيعة بوصفها نشوءاً تظهر ذاتها كما لو كانت طريقا يؤدي إلى طبع أو انطباع بوصفه غاية.
النتيجة المتحصلة من هذا المقال: الطبيعة تمتزج مع النفس وهي مبدأ يجمع ما بين الروحي والمادي ولم يكن الفصل بين جوهرين المادي والروحي بينا بذاته إلا مع أفلاطون وتحديدا في محاورة فيدون.
وعليه هذا ما أراه صحيحا لمعنى الطبيعة عند فلاسفة ما قبل سقراط، وتم التوصل لهذا المعنى من خلال نصوصهم ذاتها والمقارنة بينها وبين نصوص أفلاطون وأرسطو، وزد على ذلك أن الإنثربولوجيا الحديثة كشفت لنا عن عصر الإيحائية كما ذكر جيمس فريزر في الغصن الذهبي.
[1] لست هنا معنياً أولا بوضع كل النظريات حول اللغة ولا بالبت برأيي حتى لا نشوه على القارئ
[2] يجب التنبيه على أن هذا اللفظ تعليمي/بيداغوجي أكثر من كونه تعبيرا عن الحقيقة فلم تكن مباحث هؤلاء واحدة ولم تكن أيضا خالية من مباحث الأخلاق كما يشاع
[3] من الضروري التنبيه على أن أرسطو ذكرهم في سياقين بوصفهم ماديين كونهم قالوا بالعلة المادية وتارة أخرى بوصفهم أحيائيين