الوجود الفينومينولوجي والوجود النومينولوجي
Phenomenological and Noumenological Existence
شايع الوقيان
مسألة الوجود من أهم المسائل الفلسفية ولي فيها حظ من الرأي.
سؤال الوجود على ضربين:
السؤال الأنطيقي ontic: هل (س) موجود؟ وهو سؤال يتعلق بوجود أو عدم شيء معين، وليس الوجود العام ككل.
السؤال الأنطولوجي ontological : كيف يوجد (س)؟ وهو يتعلق بالطريقة التي توجد بها الأشياء. هذا السؤال يقرر وجود (س) ويسأل عن كيفية وجوده ويسأل أيضا عن الوجود العام ويتعامل معه على أنه الأفق الذي يجعل وجود (س) ممكناً.
وفي المقابل هناك سؤال الماهية essence:
ما هو (س)؟ وهو يقرر وجود (س) أيضا ويسأل عن ماهيته وصفاته وأفعاله.
تبعاً لأليكسس ماينونغ Meinong وبعده إدموند هوسرل Husserl فإن سؤال الماهية قد يتم بدون إثارة سؤال الوجود. فنحن قد نصف ماهية (الجبل الذهبي) أو (العنقاء) مع الإقرار بعدم وجودهما!
لذا أتى مينونغ بمفهوم أنطولوجي غريب هو (اللا-وجود in-existence). وطوره هوسرل إلى مفهوم الوجود المثالي Ideal. وهذا المفهمومان هما المقابل للوجود الفعلي.
فإذا كان الوعي هو وعي بشيء ما .. فإن وعيي بالطائر الخرافي (العنقاء) هو وعي بشيء ما. ولكن هذا الشيء غير موجود فعليا ومن ثم فهو موجود بطريقة أخرى وإلا لاستحال التفكير فيه أو الوعي به؛ وهو الوجود المثالي ( فريجه Frege له مفهوم قريب وهو الوجود المنطقي).
الأطروحة الأساسية التي أتبناها هي أن سؤال الوجود (الأنطيقي) أو السؤال الأنطيقي للوجود هو سؤال زائف. وإليكم البيان:
كان إيمانويل كانط من أبرز من نبّه إلى أن الوجود لا يمكن أن يكون محمولا ( أو صفة يتصف بها الشيء). فلا نقول ( س) موجود. بل يكفي أن نقول (س) لكي نثبت وجوده .. ثم نضيف ما نشاء من محمولات عادية. تأمل القضيتين التاليتين:
١- س موجودة
٢- س فيلسوف
تبعا لكانط (١) قضية خاطئة لأنها لا تقول شيئا؛ أي ليست قضية حميلة كما يوحي بها البناء النحوي لها. أما (٢) فهي قضية فعلا لأننا نضيف شيئا على الموضوع.
بدأ الإشكال مع مينونغ حينما طرح القضية التالية:
٣- العنقاء غير موجودة.
المشكل يكمن في أننا نثبت وجود العنقاء (في الموضوع) ثم ننفي وجودها (في المحمول).
لكن القضية (٣) صحيحة!! بمعنى أننا لو بحثنا في العالم كله فلن نجد طائر عنقاء؛ إذن فطائر العنقاء غير موجود. وعليه فالعبارة صحيحة.
قام برتراند راسل Russell بحل المشكلة من خلال منهج التحليل. فتعامل مع الموضوع (العنقاء) بوصفه وصفاً Description لا اسما مفردا Proper name. وهكذا سار التحليل:
(س) طائر عنقاء و (س) غير موجود. فالمتغير (س) لا يمكن ملؤه. فلا يوجد في العالم شيء يمكن وضعه محل المتغير (س).
مشكلة راسل أن لا يزال يتعامل مع الوجود كمحمول ولكن في القضايا البسيطة أو (الذرية atomic) كما يسميها. كقولنا ( هذا موجود) فنشير للشيء ذاته الماثل أمامنا.
وطور كواين Quine فكرة راسل واقترح المحاججة التالية: كل موجود لا بد أن يكون قيمة لمتغير. أي كل موجود يجب أن يملأ (س) فإذا لم يتمكن من ذلك فهو غير موجود.
محاججتي الأساسية كالتالي:
الوجود بين بذاته self-evident.. ولا يمكن البرهنة عليه.
يجب دائماً عدم الخلط بين الوجود والمعرفة؛ أي بين وجود الشيء وَ صفاته. فالسؤال عن (وجود) صفة ما هو سؤال معرفي لا أنطولوجي؛ كقولنا ( هل الأحمر موجود؟) ولكي يكون سؤالا وجوديا نقول : هل الشيء المحمرّ موجود؟. وطبعا فالسؤال الأخير مزيف في النهاية كما سنرى.
والقاعدة الجوهرية هي أنّ أيَّ شيءٍ نسأل عن وجوده فهو غير موجود. فإذا كان الشيء موجوداً فالسؤال زائف. وإذا كان غير موجود فالسؤال مستحيل.
لنأخذ المثال التالي:
( هل الإلكترون موجود؟)
هذا السؤال زائف.. لأن الإلكترون لو كان موجودا لما سألنا عن وجوده، ولو كان غير موجود فكيف تأتى لنا أن نسأل عن شيء غير موجود؟!!!
الشيء الغير موجود ينتمي إلى “عالم” العدم.
لكن هل العدم كلمة لا تشير إلى شيء أبدا، أو كلمة تشير إلى لا-شيء؟
أ) العدم (لا) يشير إلى شيء.
ب) العدم يشير إلى (لا-) شيء.
القضية (ب) تسمى بالقضية المعدولة (حسب كانط). وهذا النوع من القضايا يجعلنا نتعامل مع الفئات المنفية والسلبية وكأنها موجبة أو موجودة.
بما أن “العدم” كلمة، وبما أن كل كلمة لها مدلول أو مشار إليه فالقضية (ب) هي الجواب على السؤال أعلاه. فتبعا لـ(أ) فالعدم لا يشير ولا يدل وبالتالي فهو كلمة مختلقة ولا معنى لها أبدا. أما تبعا لـ(ب) فالكلمة “العدم” تشير إلى عالم من اللا-أشياء.
لكن الفرق هنا دلالي أو لغوي وليس متيافيزيقيا. فكون العدم (تبعا لـ ب) تشير إلى لا شيء.. فهو لا يشير أبدا ولا يدل.
المدلول الوحيد الذي يجعل “العدم” كلمة هي الصورة الذهنية التي نكوّنها عنه، أي تنتمي للوعي وليس للوجود. وعليه فالعدم مجرد فكرة وليس شيئا ولا حتى لا-شيئا. كلمة العدم مثل كلمة العنقاء والجبل الذهبي. هي دلالات ابتكرها الوعي أو نجمت عن قدرات الوعي البشري في إدراك الغياب.
يضرب سارتر المثال الآتي: عندما أذهب إلى المقهى لإلتقي بـ(بيير) هناك وعندما لا أجد بيير فإني أدرك غيابه أو عدم وجوده. وهكذا يمكنني القول: لا يوجد أحد في المقهى. رغم أن المقهى طبعا مليء بالزبائن إلا أن الوعي القصدي كان يركز على وجود بيير ولكن بيير غير موجود! فأنا هنا أدرك غياب بيير رغم أن الغياب غير قابل للإدراك. فلكي أدرك (س) لا بد أن أتلقى منه سيلا من المعطيات الحسية. ولكني لم أتلق أي معطى حسي من بيير في المقهى مما يعني أنه غير موجود (معدوم=غائب).
من خلال المثال أعلاه يتضح أن سارتر يخلط بين مفهومي الغياب والعدم ( وبالتالي: الحضور والوجود).
هناك مستويات متفاوتة:
المستوى الأول: الوجود ، ويقابله، العدم
المستوى الثاني: الحضور، ويقابله، الغياب
لاحظ أن الغياب والحضور كلاهما ينتميان للوجود فقط. فالحاضر موجود والغائب أيضا. فما يغيب أو يحضر هو الموجود، أما المعدوم فلا. وكيف لنا أن نعرف أي شيء عن ما هو معدوم؟!
من المهم أن نتفطن إلى أن مقولتيْ الحضور والغياب ينتميان في النهاية إلى الوعي في علاقته بالوجود ( وليس بالعدم). فالغياب والحضور مرتبطان بالزمان والمكان.. ف(بيير) موجود ولكن في مكان آخر غير المقهى. وأرسطو موجود ولكن في زمان آخر ( عام ٣٤٥ قبل الميلاد).
فكل شيء حاضر أو غائب موجود. والوجود ليس زمانيا ولا مكانيا لأن الوجود هو أساس الزمان والمكان.
النفي، والعدم، والإنكار وكل هذه المفاهيم السلبية هي إضافات من الوعي وهي لا توجد في العالم كما هو بل في العالم كما يتجلى لعقلنا. بعبارة أخرى، الوعي البشري أدخل هذه المفاهيم إلى العالم. ولكن العالم في النهاية هو عالم فينومينولوجي ( أي عالم التقاء الوعي بالعالم) وليس عالما “نومينولوجيا noumenological”؛ أي العالم كما هو بدون إضافات الوعي البشري من نفي وعدم وإنكار بل وإثبات.
لنتخيل المشهد الآتي: ( شبيه بمثال بيير والمقهى).
لو أن رجلا كان عنده مزرعة فيها كرمة عنب وهذه الكرمة مليئة بالعناقيد. تصور الآن أن الرجل في اليوم الثاني لم يجد العناقيد!! بالطبع سيستنتج أن لصاً قد سرق العناقيد.
في اليوم الثاني كانت الكرمة خالية من العنب. ولكن المزارع أدرك (عدم وجود) العنب. فكيف تسنى له إدراك اللا-وجود (العدم)؟!!
الجواب بسيط: التوقع expectation . المزارع يتوقع أن يجد العنب ( كما كان هنري يتوقع وجود بيير). وفشل التوقع أفضى إلى إدراك العدم. لكن التوقع في النهاية “حالة ذهنية mental state” وليس حالة واقعية real state. فالتوقع – إذا استعرنا مصطلحية هوسرل- وعي فارغ لم يتم ملؤه. فالوعي القصدي غير المملوء هو المسؤول عن ظهور فكرة العدم.
فلو جيء بكائن ذكي من كوكب آخر فلن يرى الكرمة خالية من العنب، بل سيرى الكرمة كما تبدو في الحس فقط. ولن يرى لا-وجود العنب. فالكرمة هنا تنتمي لعالم النومينولوجيا وليس الفينومينولوجيا. والعالم الأول هو عالم خال من المعاني والقيم والتوقعات والقصديات.
لكني لا أزال أصر على الفرق الجوهري بين العدم والغياب.
فالتوقع والملء مرتبطة بالحضور؛ بحضور الموضوع المقصود أمامي. وإدراك الغياب – في التوقع- مرتبط بإدراك مسبق للغائب.
المراد من كل هذا هو أن العدم غير قابل للإدراك. فالعدم هو لا شيء والوجود هو كل شيء. والوجود ضروري.. فما هو موجود فهو موجود ولا يمكن تصوره معدوما.
إذا كان العدم هو لا-شيء فالوجود هو ما يتبقى لنا. وما يتبقى لنا هو كل شيء.
السؤال الأنطيقي يسأل عن (شيء). يريد أن يتحقق عما إذا كان (س) موجودا أو معدوما؟!! والجواب إما: أن (س) موجود أو أن (س) معدوم. فلو كان معدوما فكيف نتأكد من ذلك؟! فلكي نتأكد من شيء فلا بد من مطابقته مع الواقع. ولكن (س المعدوم) لا يمكن مطابقته مع أي واقع.
نظرية المطابقة في الصدق correspondence theory ترتبط فقط بالموجودات. وقد انشغل الفلاسفة التحليليون مثل راسل وكواين بمشكلة مطابقة النفي للواقع. مثلا: لو قال قائل ( ليس في الغرفة فيل) كيف نتحقق من صدق هذه العبارة؟!! فعدم-وجود-الفيل ليس شيئا يمكن العثور عليه في الواقع.
لكن برأيي أن المشكلة هنا كما هي مع سارتر أن ثمة خلطا بين العدم والغياب. فالفيل غير حاضر في الغرفة ولكنه حاضر في مكان آخر. ولو كان الفيل عدما، أي لو كان العالم ليس به فيلة من الأساس فلا يمكن أن نقول ( ليس في الغرفة فيل).
أرى أن الحضور والغياب مرتبطان بما أسميه بـ(الموقف الخطابي discursive attitude). فقول القائل ( ليس في الغرفة فيل) كان استجابة لسؤال مضمر أو حتى صريح ( هل في الغرفة فيل؟) أو نفياً لشخص يظن أن في الغرفة فيلا.
وفي حالة بيير والمقهى فقد كان هنري يتوقع وجود بيير والقضية التي تعبر عن الموقف هي ( بيير موجود في المقهى) ولكن فشل التوقع أدى إلى القضية المضادة ( بيير غير موجود في المقهى). فالوجود وغير الوجود هنا ليسا سوى الحضور والغياب.
فالنفي والإنكار والسؤال والتوكيد ونحوها هي مما أتى به وعينا إلى العالم.. أو هو الطريقة التي يعمل بها وعينا وهو في-العالم.
الوجود الفينومينولوجي هو وجود (الوعي).. أو هو العالم كما يظهر للوعي وفي الوعي. وفي هذا العالم أشياء ليست منه.
أما الوجود الحق فهو الوجود النومينولوجي. أي الوجود باستقلال عن ما أضافه الوعي إليه.
ففي الوجود النومينولوجي لا يوجد كرمة خالية من العنب.. بل كرمة فقط. وهنا تظهر الكرمة بوصفها نوميناً noumenon أي شيئا بذاته.
من الضروري الإشارة إلى أن العالم النومينولوجي ليس العالم المادي الواقعي فقط.. بل هو العالم بكل إمكاناته.
لنتذكر صورة ( الوجهين والمزهرية). عند التركيز على الوجهين “تغيب” المزهرية وعند التركيز على المزهرية “يغيب” الوجهان. ففي عالم الفينومينولوجيا لا يوجد في اللحظة ذاتها إلا مزهرية أو وجهان. ولكن في عالم النومينولوجيا وبغياب الوعي الراصد يجتمع الوجهان والمزهرية معا.
وهذا قريب من الواقعة الفيزيائية المتعلقة بطبيعة الضوء.. فهو إما جسيمات particles أو موجات waves. لكن في فيزياء الكم هنا رأي ثالث ( الضوء جسيمات وموجات معا) وتسمى لديهم بالوضعية الفائقة super-position حيث تجتمع الأضداد. فالقطة حية وميتة معا في هذه الوضعية.
إذن الأشياء كنومينات هي إمكانات متنوعة. ولكنها ليست مفتوحة بإطلاق. فالقطة قد تكون حمراء أو بيضاء أو ….إلخ ولكنها لن تكون مثلا مصنوعة من ماء أو بلا لون أو شكل.
النتيجة:
١- الإلكترون موجود والسؤال عن وجوده غرابة. ولو كان غير موجود لما جاز لنا أن نسأل عنه أصلا. صحيح أننا نطرح عليه السؤال الأنطولوجي ( كيف يوجد الإلكترون وكيف يسلك؟) أو السؤال الماهوي ( ما هو الإلكترون؟) لكن طرح السؤال الأنطيقي ( هل الإلكترون موجود؟) غير معقول وبالتالي فهو زائف وأي سؤال أنطيقي زائف.
٢- هناك فرق جوهري بين ثنائية الوجود-العدم وثنائية الحضور-الغياب. فالثنائية الثانية تنتمي للوجود. أما جعل الوجود مرادفا للحضور أو العدم مرادفا للغياب فهو خطأ.
٣- كون الوجود أساسا للحضور والغياب معا، يجعله (أي الوجود) أساسا للزمان والمكان. فالغياب والحضور مقولتان زمكانيتان. وعليه، فالوجود متعال على الزمان والمكان. فلا يصح أن نقول ( أرسطو -اليوم- غير موجود) بل نقول ( أرسطو -اليوم- غائب). ولكنه موجود دائما فوجوده واجب.
٤- الوجود الفينومينولوجي هو الوجود الحق ولكن بعد أن تدخّلت فيه مقولات الوعي البشري. والوجود الحق (أي الأصلي) هو الوجود النومينولوجي. والنومين هو (س) بكل ممكناته. وعندما يظهر (س) للوعي فإنه يتخذ صورة واحدة فقط من بين كل الصور الممكنة. فالقطة تظهر لي إما حية أو ميتة أو بيضاء أو سوداء… إلخ فقصدية الوعي تحدد الممكنات المطلوبة وتترك ممكنات أخرى.
٥- النومين قابل للإدراك ولكن عندما يتحول إلى فينومين. والحالة الوحيدة التي ندرك بها النومين هو بممارسة رد نومينولوجي noumenological reduction ( وهو عكس الرد الفينومينولوجي عند هوسرل). والرد النومينولوجي يتم من خلال (تقويس) كل ما ينتمي للوعي.
٦- وجود النومين واجب necessary. وأما صفاته وكيفياته فهي ممكناته المضمرة وتظهر للوعي تبعا لمسار القصدية وطبيعتها.
٧- النومين هو دائماً ما نسأل عنه في السؤال الأنطيقي ( هل “س” موجودة؟) وبما أن وجود النومين واجب فالسؤال مزيف.