يقرر مفكرو ما بعد الحداثة في تفكيكهم لخطاب الحداثة أن هذا الأخير ينهض على سلسلة من الثنائيات الحدية التي يكون فيها طرفٌ مسيطراً على الطرف الآخر ومستبعداً له. على سبيل المثال:
١-ثنائية العقل/اللاعقل: يتأسس فكر الحداثة الغربية على تمجيد العقل وطرد كل ما له صلة باللاعقل كالسحر والدين والتنجيم، بل إن الفكر الفلسفي العقلاني يشدد دائما على استبعاد الأساليب البلاغية كالمجاز والاستعارة بوصفها تمثيلات غير عقلية.
٢-ثنائية الغرب/الشرق: فالحداثة الغربية شيدت خطابها الحضاري عامةً من خلال آلية التمييز الحديّ بين ما هو غربي وما هو غير غربي. فالفكر الاستشراقي بوصفه أحد تجليات الحداثة ابتدع فكرة الشرق، كما يرى إدوارد سعيد، وعلة ذلك أن وعيَ الذات ينطوي في داخله على تمييز واضح لها عن الغير. (تذكر حالة الخطاب الأصولي الإسلامي الذي يميز ذاته من خلال خلق صورة عن الآخر بوصفه عدواً متربصا متآمرا). فتأسيس خطاب الذات لا يقوم إلا على خلق صورة للآخر.
ويؤكد ليفي-بريل، في العقلية البدائية، هذا المسعى. فتمييز العقلية المنطقية يفترض خلقَ عقلية قبل-منطقية. يقول بريل: إن البدائيين (سواء في شمال أمريكا أو أفريقيا أو غيره) ليسوا عاجزين عن التفكير المنطقي ولكنهم لا يبالون به، ويفكرون بطريقة مغايرة لتفكيرنا البتة، “فالبدائيون لديهم نفور صارم من التفكير المنطقي”، وإذا كانت مبادئ التفكير تحكم عقولنا، فإن مبدأ المشاركة (السحرية) يحكم عقولهم. ويفسر هذا المبدأ بأن البدائي لا يجد حرجاً في التفكير في المتناقضات (كأن يؤمن بأن هذا الرجل حي وميت معا).
٣-ثنائية الرجل/المرأة: وقد تصدى الفكر النسوي الما بعد حداثي لكشف التحيزات الذكورية التي قامت عليها فلسفة الحداثة سواء في العلم أو الفن أو المجتمع، إلخ.
وغيرها من الثنائيات.
فما هي المغالطة التي وقع فيها ما بعد الحداثيون؟!
سأعطي مثالاً من الموقف الما بعد حداثي من “العلم الغربي”! والعلم المراد هنا هو العلم الطبيعي من فيزياء وكيمياء وأحياء. فهؤلاء يرون أن الخطاب الغربي يمجد العلم ويجعله الطريقَ الوحيدَ لبلوغ الحقيقة. وإلى هنا فلا مشكلة. لكن المشكلة تأتي عندما يربط ما بعد الحداثيون بين العلم والغرب حتى لكأن العلم منتج غربي ومتأثر بالملابسات التاريخية لتطور الحضارة الغربية.
من ضمن انتقاداتهم للمناهج الدراسية أن المدارس تعلم العلم الغربي الذي أنتجه الإنسان الأوربي الأبيض الذكر! هكذا فإن قانون الجاذبية عند نيوتن، والنسبية عند إنشتاين، والتطور عند دارون، هي قوانين نسبية ومرتبطة بحقلها الحضاري الغربي! وأن الوقت قد حان لاعتماد طرق تفكير أخرى غير علمية (أي طرق العقل الشرقي، غير الأبيض، النسوي، إلخ).
ما بعد الحداثيون هنا لا يفترقون كثيرا عن محاولة ليفي-بريل في ربط التفكير المنطقي بالشعوب المتحضرة ونفيه عن الشعوب البدائية. ولكنهم يمتازون عنه في أنهم استعادوا مبدأ المشاركة تحت بند تنوع الحقيقة وتعددها.
وهكذا فالعلم الطبيعي غربي لأنه نابع من مركزية غربية وذكورية. ولتفكيك المركزية لا بد أن نفكر بشكل غير علمي؛ أي بشكل شرقي، أسطوري، إلخ. أو على الأقل أن نفسح المجال لهذه الطرق الميثولوجية في التفكير!
وهناك وجه آخر للمغالطة، وهو افتراض أن الفلسفة أيضاً غربية الطابع.
إذا كان الفن والأدب والمسرح مرتبطا حقا بالثقافة التي ينشأ فيها، فإننا لا يمكن أن نطبق ذلك على العلوم والفلسفات لأنها من حيث كنهها لا تتعلق بالثقافة المحلية، بل تتكئ على معايير كونية وإنسانية كالعقل والحس والتجربة. ولا جرم أن العرب والفرس والسريان قديما لم يجدوا صعوبة في ترجمة وتقبل كتب اليونان المنطقية والعلمية والفلسفية، بينما تغاضوا عن نقل الأدب اليوناني والروماني.
لقد أبدع الشرقيون في الهند والصين وفارس والعراق ومصر والعرب وغيرهم في العلوم والفكر المنطقي والرياضي… وربط العلم بالغرب هو انشداد للمركزية الغربية التي حاول ما بعد الحداثيون الهروب منها!