أقوم في هذه المقالة بتطوير استعارةٍ تستدعي فكرة الجسد الأنثوي الحامل باعتباره البيت الأصلي وأساس الاجتماع الإنساني. أقوم هنا بشرح وتحليل أفكار الجسد (اللحم) والبيت والضيافة كما قُدمت من قبل موريس ميرلوبونتي وإيمانويل ليفيناس وجاك دريدا كما أحاجج أن تلك الأفكار تفترض أوّلية وجودية وزمنية للوجود الحامل. تعتمد تحليلاتي على دعوى إدموند هوسرل بأن الجسد الواعي كشخص واحد يتطلّب “ذوات متعددة في فهم بينذاتي متبادل”[i]. هذا الحس الهيجلي يعبّر عن الحدس القائل بأن الذات الإنسانية تتطلب آخرية إنسانية. ولذا فإن وجود “تعددية الذوات في الفهم البينذاتي المتبادل” له أولويّة زمنية ووجودية مقارنة بالوجود الشخصي. كلنا نولد في عوالم تسبقنا في الوجود وستبقى موجودة حتى بعد أن نموت. يتحقق وجودنا من خلال التضافر مع تلك التعدديات، التي تتحقق في كل تمظهراتها الرحم الرمزي الذي لا بد من نتعامل معه ونحن ننمو كبشر. بعبارة أخرى فإن الشروط الوجودية والزمنية المؤسسة لوجودنا الشخصي والتي نصل من خلالها إلى الشخصية الإنسانية والتي تساعدنا على أن نرتّب فردياتنا هي في أساسها مبنية على التعددية المضمرة في الفهم البينذاتي المتبادل.
أحاجج في هذه المقالة بأن الارتباط العميق في كل الحياة الإنسانية الذي تعبّر عنه العلاقة بين المرأة الحامل و ذاتها الثانية هو الشرط الأولي لتعدد الذوات باعتبار أن الإمكانات البينذاتية في المعطى هي ما يجب افتراضه بشكل مسبق. نلاحظ هنا أن هذه العلاقة بين جسد الأم وطفلها ليست في ذاتها مثالا على “تعددية الذوات في الفهم البينذاتي المتبادل” ولكنها فقط شرط إمكانها. التركيز هنا على المشروطية الأولية والتي تعني ببساطة “التوأمة” التي أصرّت لوسي إريقري Luce Irigaray على أنها مبدأ الفرادة التي تتمثل هنا في استعارة الجسد الحامل.
أعني بالذات الثانية هنا ذاتا مختلفة عن، ولكنها في الوقت ذاته مشابهة لـ جسد المرأة، الذات التي تقطن في جسدها، الوعي المنفصل الذي يُخلق في بيئتها الجسدية وينتج عنها. كما أحافظ هنا كذلك على فكرة أن المرأة الحامل ليست فقط جسد ولكنها جسد حيّ وخبرة حيّة. وبالتالي فأنني أتبنى مفهوم موريس مورليبونتي “الجسد/اللحم” والذي “ليس مادة ولا فكرة ولا جوهر” ولكنّه ” في المنتصف بين الفرد المتحدد مكانيا وزمانيا وبين الفكرة والمبدأ المتجسّد الذي يحضر شكلا للوجود حيثما كان هناك قطعة من وجود. الجسد بهذا المعنى يكون “عنصر”.[ii] وبالتالي إذا كان الجسد هو مبدأ متجسّد يحضر شكل الوجود فإنني أحاجج بأن الحمل والجسد الحامل هو شكل محدد من الوجود مع شكل فريد من العلاقة. ومن وجهة نظري فإن الجسد الحامل يستبق إمكانية كل الفهم البينذاتي المتبادل. باعتباره عنصر اجتماع يتطوّر بين الذات الحاملة والذات المتوقعة متعايشين في جسد واحد: فرادة الجسد المرأة تتحوّل من خلال نموّ جسد آخر، آخر لم ينضج بعد مع تكوينه الأول في جسدها، في بدوّها.
بعد ذلك أجادل أن دعوى جاك دريدا أن الضيافة المطلقة أو غير المشروطة مستحيلة لا تأخذ بعين الاعتبار الجسد الحامل باعتباره أرضية أصيلة للوجود. المرأة الحامل المضيفة تشارك في الضيافة التي تمثّل انكارا مؤقتا لذاتها في سبيل غايات كائن غير ناضج ولا يستطيع الاعتماد على نفسه. يمكن النظر للحمل على أنها علاقة ضيف-مضيف أصلية وباعتبارها كذلك ذات أوّلية بدائية. هذه البدائية الأخلاقية لا تتمثّل في حقيقة أن المضيف يقدّم ضيافة لضيف موجود أصلا ولكن الحمل يعتبر تحقق واقعي للوجود وإتاحة لحياة لم توجد من قبل. وبهذا المعنى فالحمل لا يتبه النموذج الذي قدمه دريدا عن الضيافة باعتبارها هدية.
في الأخير أتعامل مع تطبيقات محاججتي وعلاقتها بقضيتين مستمرتين في الفلسفة الأخلاقية: الجدل حول الحمل غير المرغوب وكذلك الجدل حول الإجهاض. وسيكون تركيزي موجهاً تحديدا إلى أطروحة جودث جارفيس ثومسون Judith Jarvis Thomson المعنونة بـ “دفاعا عن الإجهاض” والتي أثارت فيها قضية المرأة باعتبارها بيتا. ويمكن اعتبار الأطروحات التي سأقدمها هنا على أنها استطراد على فكرة ثومسون من أجل إيضاح فكرة حق المرأة في أن تقرر ما يجري لجسدها. ومن منظور فينومينولوجي فإن بعض علاقات الضيف-المضيف في الحمل تحتاج على أن ينظر لها على أنها فساد للضيافة الأصيلة حيث لا ترغب المرأة في أن تكون حاملا أو أن لا تستمر في الحمل. سؤال حقوق المرأة الحامل وكذلك حق الحياة للكائن الموجود في الرحم ستستند على هذه الأوّلية وإن كانت استعارية للعلاقة بين الضيف والمضيف. كذلك أتعاطى مع محاججات كارولاين لاندكويست Caroline Landquist المتعلقة بالحمل المرفوض أو المنكر باعتباره رأي مضاد محتمل لأطروحتي عن الضيافة الأصيلة[iii]. حينها ستتحقق الأهمية الكاملة للاستعارة.
ولكن ماهو وضع استعارة الجسد باعتباره السكن الأصلي؟ الجسد البشري له “إرادة حياة” أو قصدية جسدية خاصة به بغض النظر عن تفكيرنا وبغض النظر عن كيف نبني ذلك الجسد وبغض النظر عن رغبتنا حول كيف نريد ذلك الجسد أن يكون. بشكل أساسي، الضيافة المطلقة هي تعبير عن إرادة الحياة في الجسد أو قصديته. الإرادة الخاصة بالجسد الحامل وعلاقته بالحمل معتمدة بشكل أساسي على إرادة الحياة الأصلية للجسد. وفي نهاية الأمر فالجسد كائن حي نتج عن عملية تطوّر وعلى عناصر تشكّل الموجود المادي الذي نحن عليه جميعا وسينتصر على كل محاولاتنا ورغباتنا وطلباتنا سائرا بنا باتجاه زوالنا المحتوم في الشيخوخة والذبول والموت. صحيح أننا نستطيع أن تشكيل الجسد من خلال ممارسة التمارين والتغذية الصحية والتقنية البيولوجية والعمليات الجراحية وكذلك الأدوية من أجل تحويل أجسادنا. هذه المحاولات من أجل تشكيل الجسد وضبطه وجعل قلبه ينبض بشكل أسرع وجعل عضلاته أكبر وجعله أنحل وجعل مفاصله أكثر مرونة وجعله يتعافى من الإصابات وجعله قادر على التخصيب تعتمد بشكل أساسي على مادّية الجسد الضرورية. وهذا هو الأساس لاستعارة السكن الأصلي. وبالتالي فإن وضع هذه الاستعارة مستقى بشكل أساسي من تناغم بيولوجي سابق التأسيس (للاستعارة من لايبنتز) بين التشريح والفيسيولوجيا وبين الوظيفة والغايات من جهة وحدود القدرات من جهة أخرى وبين الحدود التي يمكن تجاوزها. هذه الاستعارة هي استعارة بيولوجية، استعارة حياة وكائنات حية تمكّننا من تصوّر الجسد على أنه سكن أصليّ ولكنها كذلك الاستعارة إمكانية الوعي التأملي للجسد تجاه نفسه والمحدودة أحيانا بإرادتها الخاصة. ومن خلال ذلك التأمل ومن خلال بنية اللغة فإن الجسد قادر على تشكيل وتصوير ذاته وعرض نفسه لنفسه والقيام بكل الأعمال المذكورة سلفا.
خبرتنا مع الجسد وتحديدا مع أجسادنا الخاصة هي في الحقيقة نتيجة للمادية التي تشكّل أجسادنا مع ذلك الوعي الذي ينتشر في الكائن البشري. هذا الجسد الأصلي المذهل بوعيه البيولوجي هو تعقيد تنتج عنه التساؤلات الأخلاقية المتعلقة بأجسادنا باعتبارها خاصة وسريّة ولكنها في ذات الوقت أجساد مرتبطة بالمجتمع لتحدد موقعنا من هذا العالم. لهذا الحد يحتاج الجسد الأصلي لأن يعترف به باعتباره أساس الجسد والأخلاق معا.
لاستعارة السكن الأصلي جانبين ذاتيين أساسيين: أولا خبرتنا المعيشية الخاصة وثانيا أصل تلك الخبرة في الجسد الحامل. وإذا تعاملنا مع الجسد البشري باعتباره تناغما بيولوجيا سابق التأسيس فإنه يبقى محايدا على المستوى القيمي ويقوم بما يقوم به بغض النظر عن اضطراباتنا وتأملاتنا. وبالتالي فإنني أعتقد أن الجسد المادي الذي هو الأصل للوعي واللحم هو الشرط المنطقي الضروري للشخصي. وبهذا المعنى سابق للوعي وسابق للحم وسابق للشخصية وكذلك سابق للمنطق ولكنه الشرط الأنطولوجي للحمولة القيمة التي نجدها عند التنظير عن الجسد كما عند ميشيل فوكو وجودث بتلر. وبعبارة أخرى فالابيستمولوجيا تتأسس على أنطولوجيا الجسد الذي ترتبط تعبيراته بأنظمة القيم. ولهذا فالحمل والإجهاض والحمل غير المرغوب تحتاج لأن ينظر لها ضمن هذا الإطار الاستعاري البيولوجي باعتبارها استجابة لإرادة الجسد في الحياة. استعارة السكن الأصلي تنتمي للحم كما سأناقش بعد قليل ولكنها مادّية الجسد هي من تمكّن اللحم الأصلي، تلك المادية التي هي داخل وخارج الوعي معا.
[i] Edmund Husserl, Ideas Pertaining to a Pure Phenomenology and to a Phenomenological momenological Philosophy (Dordrecht: Kluwer Academic, 1989), 303-304.
[ii] Maurice Merleau-Ponty, The Visible and the Invisible, trans. Alphonso Lingis (Evanston, III, Northwestern University Press, 1968), 139.
[iii] See Caroline Lundquist, “Being Torn: Toward A Phenomenology of Unwanted Pregnancy,” Hypatia 23, no. 3 (2008): 136-155.