للصديق خالد الحسن فضل كبير في حثّنا على التواصل الفلسفي وإشاعة حالة من الحوار حول الأطروحات الفلسفية التي تقدّم في الساحة المحلّية وهذا هدف سامي أشارك فيه الصديق الحسن وأحث نفسي والآخرين على القيام به لأنه في رأيي شرط ضروري لقيام مجتمع معرفي فلسفي فالقراءة المتبادلة والحوار والنقد ترفع من روح الاحترافية في العمل والشعور بالقيمة لما يتم طرحه وهذا مهم للاستمرار والنمو في المنتج الفلسفي.
كتب الأستاذ الحسن مقالة بعنوان “نقد التأملات النظرية في الفلسفة: قراءة في فلسفة الآخرية عند عبدالله المطيري” ونشره في موقع جمعية الفلسفة في ٢١ من جولاي ٢٠٢١. والمقالة كما هو واضح في العنوان اعتراض على الفلسفات التأملية النظرية بشكل عام وحضرت الوجودية “وكتابي هنا ممثّل لها عند الحسن” باعتبارها دراسة حال ومثال على تلك الفلسفات.
النقد النفعي للفلسفة:
يمكن الاعتراض على الفلسفة بشكل عام من جهات عديدة: على سبيل المثال يمكن الاعتراض عليها من جهة المنطلقات ومن جهة أدوات الفكر والتحليل ومن جهة النفع والفائدة. مقالة الحسن تنتمي للاعتراض الأخير المتعلق بالفائدة من الفلسفة فهو يقول في بداية المقدمة “ولكن النقاش لن يكون حول الجهد المبذول ولكن في المضمون والنتيجة من هذه التأملات، وطبيعة النسق الفلسفي وهل لها فائدة أم لا”. ومن يقرأ المقالة سيلاحظ أن النقطة الأخيرة هي التي استحوذت على النقاش على خلاف “مضمون” الكتاب فالمقالة لم تحتو على عرض ولو مختصر لمضمون الكتاب، على ما هو متوقع من مراجعات ونقد الكتب وهذا قد يتسبب في عزل القارئ عن سياق النقاش، بقدر ما ركزت على بيان خلوّ الكتاب من الفائدة.
النقد “النفعي” للفلسفة يأتي من جهات مختلفة كذلك فهناك نقد نفعي من الخارج يقول بأن الفلسفة لا فائدة منها لأنها تعارض “الحقيقة” التي أؤمن بها. هذا النقد نجده مثلا عند الأطروحات الدينية المحافظة جدا. نقد الأستاذ الحسن لا ينتمي لهذا السياق بل ينتمي للنقد النفعي “التطبيقي” أو “العملي” الذي يقول بأن الفلسفة التأملية غير مفيدة لأنها لا تقدم نتائج تطبيقية. يقول الحسن ” أرى أن مشكلة الفلسفات الوجودية بالخصوص، أنها ذات طابع تأملي لا تطبيقي، ولو فرضنا أنه يوجد جانب تطبيقي فهو هامشي وسطحي وغير مفيد للإنسان“. يخاطب الحسن القارئ قائلا “عندما تنتهي من قراءتك لكتاب وجودي، تظن بأنك سوف ترى الحياة والوجود بصورة أخرى، كرؤيتك للناس بصورة مختلفة وأن الطبيعة خلابة مع زيادة في الدهشة والتعجب، ولن ترى الشمس والسماء إلا بطريقة مختلفة، فسوف تشعر بالحياة من جديد، ولكن في الحقيقة لم يتغيّر في حياتك أي شيء“. وهذه الفقرة ملفتة للانتباه من عدة نواحي فهي تفترض توقعا أو ظنّا محددا عند قارئ الكتب الوجودية، ثم تنفي تحقق ذلك الظن بعبارة أنه “لم يتحقق” وليس “لن يتحقق” فهي عبارة عن ماضي معيّن ولا أدري هل هذه تجربة الأستاذ الحسن الخاصة وهذا تقرير عنها أم أنها طرح “تأمليّ” عن قارئ مفترض. يمكن اختصار اعتراض الحسن على الفلسفة الوجودية في أمرين: أولا أنها غير مفيدة وثانيا أنها “مبنية على أرض غير صلبة فتسقط عند أي اعتراض وصفي“. سأحاول في ما بقي من هذه المقالة الحوار مع الأستاذ الحسن حول هاتين النقطتين:
أولا: في سؤال الفلسفة والنفعيّة:
تختلف وجهات نظر الفلاسفة من سؤال النفعية فمنهم من يقول بـ”الفلسفة لذاتها” رافضا محاكمتها بناء على نتائج متوقعة ومنهم من يقبل بسؤال النفعية ويكون الاختلاف حول المقصود بالنفع تحديدا. شخصيا أنتمي للموقف الثاني وبالتالي فأنا أقرب للأستاذ الحسن ولكن الخلاف بيننا “نظري” في مفهوم النفع الفلسفي و “إمبيريقي” في كون الفلسفة الوجودية نافعة أم لا. بالنسبة للجانب النظري فهو يتعلق بالفرق بين المتوقع أو النفع المرتقب من العلوم الإمبيريقية والعلوم المعيارية. العلوم الإمبيريقية تدرس ما هو قابل للملاحظة الحسيّة كالمادة أو السلوك كما هو الأمر في العلوم الامبيريقية المحضة كالفيزياء والكيمياء أو العلوم الامبيريقية الإنسانية كعلم النفس السلوكي. بينما تدرس العلوم المعيارية الصواب والخطأ وكل تصورات المعيارية سواء في المنطق أو في الأخلاق. حتى فلسفة التجريب Experimental philosophy التي استشهد بها الحسن تنتمي لهذا المجال فهي تدرس عالم المعنى والدلالة والقيمة وهو مجال إنساني خاص بالخبرة القيمية عند الإنسان. الفكرة هنا أن القيمة مجال إنساني غير موجود في الطبيعة. لا يوجد في الطبيعة بذاتها خير وشر ولا حق ولا باطل ولا صواب ولا خطأ. كل هذه القيم يبثّها الإنسان في الطبيعة. لهذا السبب لا تتعامل العلوم الإمبيريقية مع القيم فلا يوجد في الفيزياء خير ولا شر ولا حق ولا باطل. ذات الكلام ينسحب على علم النفس السلوكي الذي يتحرك في ذاته ضمن إجراءات سابقة على القيمة لذا فهو صالح لمساعدة الإنسان على الحياة بشكل أفضل كما أنه صالح كذلك لتدمير الإنسان كما في تقنيات التعذيب في السجون وغيرها. القيمة في هذه المجالات تأتي من الخارج، من العالَم الذي تنتمي له الفلسفة، عالم القيم.
أتذكر هنا اعتراض ديفيد هيوم على تأسيس الأخلاق على الطبيعة بما أصبح يسمى بالمغالطة الطبيعية Naturalistic Fallacy والتي تقول بأن هناك قفزة من ما هو كائن (عالم الطبيعة) إلى ما يجب أن يكون (عالم القيم) وأن هذه القفزة لا يمكن تأسيسها على ملاحظة الطبيعة فقط. القفزة تتضمن أمر آخر مفارق للطبيعة وهو معيارية الحكم الإنساني ولا بد من الوعي بهذا العامل الأساسي.
لا أظن الصديق الحسن سيختلف معي حتى هذه النقطة ولكن الاختلاف سينشأ عن نتيجة هذا التقسيم على فهمنا لفائدة الفلسفة. من البداية لا بد بناء على هذا التقسيم أن نتوقع نفعا للفلسفة يختلف عن النفع المتوقع من العلوم الإمبيريقية. النفع الفلسفي سيرتبط بعالم الفهم والمعنى والدلالة والتقييم وهذا مجاله. سيكون هذا مفيدا لمناقشة المقارنة التي أجراها الحسن بين علم النفس السلوكي والفلسفة الوجودية في النفع. إذا كنّا نتوقع من علم النفس السلوكي فوائد متعلقة بتفسير السلوك الإنساني والمؤثرات التي تحركه والاتجاهات التي ممكن يأخذها ذلك السلوك بناء على تلك المؤثرات، فإن الفلسفة الوجودية أو علم النفس الوجودي يتحرك في مساحة أخرى وهي مساحة الخبرة الوجودية للإنسان. أي معنى ودلالة الأشياء والعلاقات والآخرين في وجود الإنسان الفرد. الإنسان كائن يخلق المعاني ويبثّها ويقيّم كل شيء من خلالها والوجودية اشتغال على هذه المساحة الذاتية. ويفترض ألّا نفزع من الانفتاح على الخبرة الذاتية في مقابل التجارب الموضوعية فالخبرة الذاتية يمكن أن تُحكى وتُحلل وتقدّم للآخرين للتعاطي معها. الفلسفة الوجودية تأمل ليس في الفراغ ولكن في الخبرات الإنسانية والرهان يكون على مدى اتصال مع هذه التأملات. فأنا حين أتأمل في علاقة الضيافة وأفقها الوجودي وأحاول أن أصف كل ذلك بشكل دقيق فالرهان يكون على أن يرى الآخر ما رأيت أو أن يسمع ما سمعت. أي أن يتصل بالظاهرة حتى لو اختلفنا في فهمنا لها. في هذه اللحظة تلتقي الخبرات المتبادلة ويحصل التواصل الذي يثري خبرة كل منّا بطريقته الخاصة. ولهذا فإن الوجودية أو علم النفس الوجودي لا يسعى لتقديم وصفة علاج بقدر ما يسعى لإقامة علاقة حوار تهدف لمساعدة الطرف الآخر على ربط تفاصيل حياته بما فيها من صراعات وآلام بمشروع حياته الكبير وبما يريد أن يقوم به كإنسان يخلق المعنى ويعيش عليه. الشاهد هنا أننا نتوقع أمورا مختلفة من العلوم المختلفة وبالتالي يتسع مفهومنا للفائدة باتساع حياة الإنسان وتعقيداتها. الإنسان كائن يذهب للطبيب للحصول على العقاقير للعلاج ولكنه كذلك يستمع للموسيقى أو يتأمل أو يصلي للحصول على نفع مختلف. سيكون من الضيق جدا رد الخبرة الإنسانية لبعد واحد.
بالنسبة للقضية “الامبيريقية” حول جدوى الفلسفة الوجودية فالأستاذ الحسن لم يقدّم سوى عبارات تقريرية شخصية بدون أدلة على عدم فائدة الفلسفة الوجودية وهو هنا يخالف ما يدعو له. من جهتي الخاصة كانت الفلسفة الوجودية مفيدة على مستويات مختلفة وسأفصل القول فيها في آخر هذه المقالة أما على المستوى العام فالتعاطي مع الفلسفات الوجودية كبير وجزء أساسي من المشهد الفلسفي الإنسان وهناك كثير من الأعمال والدراسات التي تنتج يوميا بل أستطيع أن أقول أن الفلسفات الوجودية هي من أقرب الفلسفات للقارئ غير المختص وسأترك الحكم هنا للقارىء العزيز.
الاعتراضات الوصفية وفلسفة الآخرية:
النقطة الثانية التي قدمها الحسن هي أن “كل أقوالهم [الوجودية] أو أكثرها مبنيّة على أرضية غير صلبة فتسقط عندي أي اعتراض وصفي” وتطرّق لعينات من كتاب “فلسفة الآخرية” وهنا فرصة لمناقشة ما قدمه في هذا السياق.
يقول الحسن “يرى المطيري أن فلسفة الآخرية ساهمت في فتح باب الحوار مع الآخر”. يُفترَض أن هذا هو القول الوجودي المبني على أرض غير صلبة. ويفترض أن يقدم لنا الحسن اعتراضه الوصفي الذي سيسقط الدعوى. يقول الحسن “لكن الفلسفات كلها على مر التاريخ تلعب دورا في فتح الحوار، من محاورات أفلاطون في الجمهورية إلى كانط ومناقشته لأفكار من سبقه، فالفلسفات الآخرية لم تأتي بجديد وحضورها هامشي في الفلسفة الوجودية“. طرح الحسن هنا فيه مشاكل عدة منها: أولا مشكلة في الحجاج فحين أقول أن فلسفة الآخرية ساهمت في فتح الحوار مع الآخر يقول الحسن كل الفلسفات فعلت ذلك. وهو بهذا يؤيد فكرتي ولا ينقضها. كل ما يقوله الحسن هنا أن فلسفة الآخرية لم تتميز بشيء في هذا المجال وحضورها هامشي وهو هنا لا يقدم حجج على هذه الأطروحة ولا يحاجج لها وكأن مجرد كتابته لهذه الدعوى يكفي أن يجعلها صائبة.
وهذا يتكرر في أكثر من موضع في المقالة منها مثال جزمه بعدم نفع قراءة الكتب الوجودية بدون أن يقدم لنا برهانا ولا إحصاءا ولا استنادا على خبرة. نحن هنا أمام تسجيل مواقف بلا حجاج وهذا يحد كثيرا من فائدة النقاش. فأنا ككاتب لم أقل فقط أن فلسفة الآخرية فتحت باب الحوار مع الآخر بل قدمت أطروحة تفصيلية عن أهمية الآخرية في الآخر Otherness of the other وكيف أنها تفتح بابا لا متناهيا للحوار مع الآخر. كنت أتمنى أن يدعم الحسن مواقفه هنا بحجة تفتح باب الحوار أكثر معه.
لكنني لاحظت هنا ملاحظة مهمة قد تساعدنا أكثر على فهم ما يريد الحسن قوله. في أكثر من موضع يحاول الحسن كشف عيوب أطروحات “فلسفة الآخرية” من خلال تقديم إمكانية لتوصيف آخر للظاهرة موضوع النقاش. وكأنه هنا يقول أن وجود احتمال وصف آخر يجعل من الوصف الأول غير دقيق أو أنه يسقطه. قد يصح هذا الأمر على الوصف الإمبيريقي للمادة الفيزيائية ولكنه لا يصح في ظواهر المعاني والقيم والدلالات التي تخضع للتأويل والفهم والسياقات. يقول الحسن في سياق اعتراضه على التفريق بين الفلسفة الذاتية والفلسفة الآخرية “ولم لا تكون الذات هي الغائبة لمن لا يعرف نفسه؟ والآخر هي الحاضرة والشاهدة باستمرار لذات الآخرين؟” ويكتفي بهذا التساؤل للكشف عن سقوط وصف الكتاب. والحقيقة أن التساؤل ليس حجة مضادة بل هو استشكال ونحن هنا أما استشكال لا أكثر. ثم يقول الحسن “كل هذه التأملات ليس لها مغزى حقيقي” أو “لا مغزى لها” وهذه مواقف حادّة وغريبة. قد يكون من الاتساق أن يقول الحسن أن مغزى هذه التأملات غير صحيح وغير دقيق ولكنه يذهب للحد الأقصى ويقول أنه لا مغزى لها. وهذا مؤشر ربما قد يكون على إشكال أعمق مع الفلسفات التأملية. يقول الحسن “رغم ما نقلته هو عينة ولكنها توضّح لنا بإمكانية معارضة التأملات التنظيرية بتأملات تنظيرية أخرى، فعندما نفقد الأساس الصارم أو شبه الصارم، والذي تقوم عليه هذه التنظيرات فسوف تنهار على نفسها لأن كل التفاصيل والتوصيفات الأخرى تصيح بدون مغزى أو فائدة” وكأن “إمكانية” تقديم تأملات أخرى تكفي لانهيار التأملات الأولى. والمنطق هنا مثير للقلق لأنه يقول بأن تقييم التأملات لا يهم فبمجرد تقديم تأمل مختلف ينهار الأول. وهذا يعني أن الرد (بغض النظر عن قيمته يكفي لانهيار الطرح الأول). وهذا منطق يفسد قيمة المعرفة بالكامل.
المنهج الفينومينولوجي والتأمل:
يقول الحسن أن “المشكلة في المنهج [أن] جزء كبير منه تأملي، ويعود لوصفك الشيء استنادا على خبرتك بهذا الشيء، كإدراكك لهذا الكوب، وخبرتك تعتمد على ما تختبره في الخارج والباقي يجرى فيه التخمين، هل به ماء أم شاي.. الخ“. هذه العبارة مشكلة من أكثر من جهة وتشير ربما إلى أن الأستاذ الحسن لم يعرض المنهج الفينومينولوجي بشكل صحيح في هذه المقالة. أحد جوانب إشكال هذه العبارة في قوله “هل به ماء أم شاي” وهذا غير صحيح فما هو داخل الكوب ليس عنصرا جوهريا في الكوب ولذا لا يدخل ضمن عملية الرد الفينومينولوجي ولا علاقة له بهذه العملية. فكرة التخمين التي يحيل عليها الحسن بقلق تتعلق بواقعة أنه لا توجد خبرة واحدة كاملة لذا الرد الفينومينولوجي يعتمد على خبرات متعددة. مثلا لا توجد خبرة نظر واحدة تحيط بالمنزل، وهذا ما يجعل الخبرات الإضافية ضرورية لاكتمال الصورة. وهذا لا علاقة له بافتراض عناصر إضافية بدون ملاحظة كما يوحي بذلك مثال الماء والشاي. وهذا يعنيّ أن الرد الفينومينولوجي ليس خيارا ذاتيا بقدر ما هو التزام قصدي بالتوجه للأشياء في ذاتها.
ما يقلق الحسن هو أن تكون الفينومينولوجيا مساحة للابتداع الذاتي بدون الاستناد على الواقع الخارجي. لكن هذا غير صحيح فالفينومينولوجيا اتصال بالظواهر في الخارج وعودة للأشياء هناك. ولكن ما يقلق الحسن أنها عودة ذاتية. لذا يقول “حتى لو كان كذلك فما لا يستند على الاستنباط أو الاستقراء، فهو مجرد تأملات“. وهنا مشكلة كبيرة في تقديم الحسن للتأمل من جهة والاستنباط والاستقراء من جهة أخرى وجعلها في علاقة متقابلة أو ضدية. الحقيقة أن كل تفكير إنساني فهو إما استقرائي أو استنباطي وغالبا ما يكون خليطا من الاثنين. والتأمل شكل من أشكال التفكير الإنساني وهو وصف للاستغراق الذهني في التفكير وإعادة النظر وهذا قد يتحقق في الاستقراء أو الاستنباط وليس مقابلا لها. هذا إذا كان الحسن يعني بالتأمل reflection ولكنه قد يعني شيئا آخر وهو speculation والمقصود به هنا التخمين الذي لا يستند على معلومات من الواقع. لكن قد تكون القسمة المفيدة هنا بين الوصف والحجاج. الوصف معني بتقديم صورة واضحة عن الظواهر المدروسة أما الحجاج فهو محاولة اثبات قضية أو نفيها. الفينومينولوجيا مع العلم التجريبي علوم وصفية وهذا يعارض كل طرح الحسن. بالتأكيد هناك فرق بين وصف العلوم التجريبية ووصف الفينومينولوجيا ولكن المشترك بينهما وصف الظواهر والخروج عن التفكير المستقل عن الوقائع في الخارج لذا كان هوسرل ناقدا ومعترضا على الفلسفات المثالية ولذا أعلن شعار “العودة للأشياء في ذاتها”.
الفلسفة والتأمّل:
قراءة مقالة الحسن تعطي انطباعا سلبيا عن التأمل الإنساني وأنه يعني الانفصال عن الواقع وتقديم أطروحات لا سند لها ولا قيمة. أود في هذا القسم الأخير “التأمل” في هذه “التأملات” التي قدمها الحسن في محاولة للتفكير مجددا في هذه القدرة الإنسانية العجيبة على التأمل وتعميق النظر. حاولت النزعات الوضعية العلموية في الفلسفة أن تجعل من الفلسفة علما يقينيا يستند على البرهان التجريبي أو الاستدلال المنطقي. أي حصر الفلسفة ضمن قوانين الطبيعة أو قوانين الفكر. لكن المشكلة أن الخبرة الإنسانية أكثر تعقيدا من كل هذا. الإنسان كائن لا يمكن اختزاله في البعد المنطقي ولا يمكن اختزاله في البعد البيولوجي. وهنا يأتي دور الفلسفات التي تتعاطى مع الخبرة الإنسانية بكل تعقيداتها بدون أن تهدف إلى ردّها إلى بعد واحد دون الآخر. هذا اللاتناهي للخبرة الإنسانية هو ما يجعل التأمل والتفكّر وتعميق النظر وتكراره بل حتى التخمين والافتراض بدون دليل كامل جزء أساسي من محاولة الإنسان للتواصل مع تلك الخبرة بكل تعقيداتها. نلاحظ أن كل هذا العمل الفكري متجه للخبرات الإنسانية كما يشعر بها الانسان مباشرة وليس كما تعرضها الأرقام والجداول الإحصائية. قد يرى الأستاذ الحسن أن الفلسفات الوجودية لا فائدة لها ولكن لا أظن أنه هنا وفيّ لمنهجه الفلسفي الذي اختاره. فما هو معلوم من الخبرة المباشرة أن كثير من الناس اتصلوا بالفلسفات الوجودية المختلفة من جهات مختلفة ووجدوا فيها نفعا ما يختلف باختلاف كل تجربة. على المستوى الشخصي كنت أبحث منذ البداية عن أقرب الفلسفات للإنسان في حياته اليومية بدون قوالب وبدون افتراضات مسبقة. فلسفة تتحدث عن خبرة الإنسان وهو يعيش ويحزن ويفرح. الإنسان العنيف والإنسان المضياف، الإنسان في ضوء النهار وتحت ستر الظلام. الفلسفة الوجودية بمنهجها الفينومينولوجي كانت خيارا معينا ومفيدا في هذا الاتجاه.
تختبئ الأطروحات الوضعية العلموية خلف ستار اليقين الموضوعي ولكن الوجودية انصات للخبرات الذاتية لذا حين أقدم توصيفاتي وتحليلاتي عن قضايا مثل الضيافة والهدية وغيرها من الظواهر فإنني أنطلق من خبرات الناس وخبراتي الشخصية، من الحكايات ومن القصائد، من الأفعال والأقوال التي عاش الناس بها وعليها وحين أقول ما أقوله فإنني أبقى في حالة من الانتظار المنصت لما سيقوله المستمع أو القارئ لأن الرهان هنا تحديدا. أي أن يتصل الآخر بالخبرة وبالمعاني التي عرضتها ثم يشاركني في عملية الوصف والتحليل. وهذا تكرر كثيرا ولعل من آخرها ما حدث في محاضرة النادي الأدبي بالجوف حين قدمت محاضرة بعنوان “الفلسفة حين تنصت في الظلام” في محاولة لوصف وتأمل خبرة الإنسان في الظلام وكنت أترقب كثيرا ردة فعل الحضور وتعليقاتهم وكان النجاح الحقيقي في أنهم استحضروا خبراتهم الذاتية في الظلام والمعاني التي يعطونها لتلك الظواهر وهنا أصبحنا في حالة اندماج ملهمة بين الخبرات الشخصية وانكشاف خبرة موضوعية مشتركة لا وجود لها بدون الخبرات الذاتية. قد يسأل الوضعي هنا. ثم ماذا؟ ماذا استفدنا من كل هذا؟ على المستوى الشخصي هذا التواصل مع الخبرات والظواهر اكتشاف للدلالات والمعاني والقيم. هذا كله يعطي كمية كبيرة من التقدير للأشياء والعلاقات والأفعال والأقوال. شيء يشبه اكتشاف مدينة جديدة ومجتمع جديد. المدهش هنا أن تكتشف المدينة الجديدة في مدينتك القديمة والمجتمع الجديد في مجتمع القديم والآخر فيما كنت تظنّه شبيها. أخلاقيا هذا كله يعني نوافذ أوسع للتواصل مع الآخرين فالإنصات للخبرات المختلفة يحدث حالة من التعددية والتنوّع الداخلي وهذا ما يروّض النزعات التي تدفع لتوحيد التجارب وبالتالي الحكم عليها. ربما يمكنني القول هنا أن هذا الشكل من التفلسف يساعدني على الإنصات بشكل أعمق لذاتي وللآخرين. لا أعتقد أن هذا هو الطريق الوحيد للإنصات ولكنه بالتأكيد أحد الطرق الأساسية. وفي الختام أجدد الشكر والامتنان للصديق خالد الحسن على منحي هذه الفرصة للتواصل.