الآخر بوصفه منشئاً للخطاب
شايع الوقيان
الآخر المفارق نوعان: بشري وغير بشري. أما غير البشري فكل آخر لا يمكنه أن يصبح جزءاً مشاركاً وفاعلاً في هويتي الشخصية كالحيوان والنبات والجماد. وأما الآخر البشري فهو الأشخاص القادرين على أن يتحولوا إلى “آخَر محايث”؛ أي: آخر فاعل في الهوية الشخصية. وهؤلاء الأشخاص يأتون محملين بعناصر للتفاعل البين-ذاتي كاللغة، الدين، السياسة، الثقافة، الصراع، إلخ.
الآخر (البشري) ينشطر في التواصل البين-ذاتي/اللغوي إلى قسمين: (الأنت و الهو)؛ فعندنا أنخرط في نقاش مع شخص فإنني أحضر – تداولياً- بوصفي “أنا” وهذا الشخص بوصفه “أنت” (ضمائر المتكلم والمخاطَب). والنقاش أو الحوار يكون دائماً بين أنا وأنت.
أما عندما يكون النقاش/الحوار بين أنا وهو (كضمير الغائب) فإنه لا يعود حواراً لأن “الآخر” غائب، إنه يتحول من منشئ فاعل للخطاب إلى موضوع (ثيمة) للخطاب. وهذا الحوار مزيف ويعد بالأحرى مونولوجيا.
الـ”هو” غير قادر على إنشاء خطاب الحوار. ولكي يفعل ذلك لا بد أن يحضر: أن يصبح “أنت”. ولكن بقاءه “هو” كما قلنا يجعله “موضوعاً” للحوار وليس مشاركاً فيه. ومن ثم فمن أبرز شروط الحوار الحقيقي هو أن يتمتع الطرفان بحضور كاف لإنشاء الخطاب.
في اللحظة التي يلتقي فيها طرفا الحوار (الأنا) و(الأنت) فإنهما ينطلقان من فكرة أو موضوع معين. لكن عندما يكون الموضوع “شخصاً” فإنه يصبح “هو”. فالشخص كموضوع يحضر –تداولياً- كضمير غائب.
ومن الملاحظات الطريفة أن الـ”هو” عندما يصبح موضوعاً للنقاش أو الحوار فإنه يتحول في الغالب إلى موضوع سرديّ. فيكون النقاش عن هذا الشخص الغائب والأسلوب يتحول إلى ضرب من السرد، أو البيوغرافيا.
في لغة الحياة اليومية- التداولية العادية- ألاحظ أن الآخر (الهو) يحضر سردياً وهذا النمط من الحضور يميل إلى “أسطرة” الهو. أي: إضافة ملامح غير موجودة فيه فعلياً وإنما يضفيها المتحاوران (الأنا-والأنت). والأسطرة قد تتخذ منحى تقديسياً أو تبخيسياً. فـ(الهو) يحضر في النقاش ليس ككينونة شاملة (totality) ولكن في جوانب معينة يتم التركيز عليها، وإعطاؤها قيمة فائقة.
حاول أن تنصت جيداً إلى شخصين يمدحان أو يهجوان شخصا ثالثا غائباً. ستجد أن حضور هذا الغائب في التداولية السردية ليس واقعياً وإنما تمت “أسطرته” بشكل أو بآخر. ولقد يصبح موضوع النقاش أحد طرفي الحوار (إما الأنا أو الأنت). ولكنه مع ذلك لا يتخذ طابعاً سردياً؛ فكل طرف يحافظ على واقعيته قدر الإمكان. فحضور المرء في ساحة النقاش تجعله قادراً على ضبط الحوار وتصحيح سوء الفهم (تذكر أطروحة موت المؤلف). إن الحضور ههنا يضبط ويسيطر على “طيش الحوار” ويمنعه من التحول إلى سردية أسطورية.