إذا أخبرك احد بأنه يعرف حقيقة أمر ما، فانك لن تستطيع التأكد من صدق معرفته تلك إلا إذا نطق بها فقوله : ’ إن الشمس اصغر من الأرض ’، يبدو لك كذبا عندما تقارنه بالعبارة التي تقول ’إن الأرض اصغر من الشمس’، والتي تعتبرها صادقة، وواضح انه في الحالتين معا يتم التحقق بالرجوع إلى واقع محدد فصفه الكذب أو الصدق تتحقق بالمطابقة أو عدم المطابقة مع ذلك الواقع بمعنى مع المرجع.
يبدو للوهلة الأولى أن مشكله الحقيقة ستطرح عليك إذا ما تساءلت هل يصدق مع ما اعرفه أم لا يصدق؟، ولن تستطيع أن تتحقق من ذلك الصدق سوى بالمقارنة مع الواقع، ومن المؤكد آن موضوع تحققك ليس سوى القول الذي يحمل المعرفة أي الحكم .
فمجال الحديث عن الحقيقة إذن هو مجال علاقه الفكر بالواقع اذ ما يشرع الإنسان في صنع موضوعات تفكيره حتى يطرح عليه مشكل ملازم يتعلق بمدى قدرة فكره على الإحاطة بالواقع وما هو هذا الواقع الذي يقبل المعرفة؟،وما مدى صحة هذه المعرفة الحاصلة؟، فالتعبير عن هذه المعرفة لا يتم إلا داخل اللغة ولا تتجلى إلا معبرا عنها، وهدا هو الذي يمثل إذن العنصر الذي يمكن فحصه والتأكد من صدقه آو كذبه وفي هذا السياق يقول توماس هوبس “الصادق والكاذب صفتان للغة لا للأشياء ،وحيث لا توجد لغة لا يوجد صدق أو كذب“، إن الحكم يحمل صفه عن موضوع ما فهو مجال التأكد من صدق تلك الصفة، أي مجال البحث عن الحقيقة وإذا حصل الاتفاق حول كون الحقيقة هي مطابقة الحكم لموضوعه، فلا بد من الوقوف على أشكال هذه المطابقة وأوجهها، وعلى الوسائل التي تمكن من الوقوف على تلك المطابقة والبحث عن معايير الحقيقة، لا يمنع من التساؤل عن معيار يقل بشأنه الاختلاف ، معيار شامل وأساسي، يميز الحقيقة عن غيرها و يدركها في بداهتها فهي “تتقدم إلى العقل بتميز ووضوح بحيث لا نستطيع وضعها موضع شك[1] ” كما يؤكد ديكارت، وفكرة البداهة هذه جعلت الاهتمام لا ينصب على المطابقة فحسب بل يتعداها إلى البحث عن الحقيقة وطرق بلوغها، لكن هل يكفي أن يثبت حقيقة فكرة ما ذهنيا حتى تكون حقيقته ثابتة للجميع؟.
إن تغيير زاوية النظر من هذا الجانب الذهني إلى جانب أخر يتعلق بالسلوك والقيمة العملية للأفكار ، يجعل الحقيقة مرتبطة بالإنجاز العلمي بهدف معين، وإذا كان الفعل احد معايير الحقيقة “فكرة وليام جيمس“، فلا بد أن تكون سماته العملية التي لا تنتمي إلى مجال الحكم ولا إلى مجال القول عموما مبررا للقول بان مستويات النظر إلى الحقيقة متعددة وأنماط تصورها وقولها والبحث عنها عديدة وهكذا يقول هايدغر “الحقيقي سواء كان كان شيئا حقيقيا أو حكما حقيقيا هو ما يطابق ويتفق، فلفظة حقيقي وحقيقة تدلان على ما يلي : التوافق وذلك على وجهين : أولا التوافق بين الشيء وما نفترضه فيه، وثانيا التوافق بين ما تدل عليه العبارة وبين الشيء” .
لكن هل توجد حقيقة واحدة؟، ذلك على الأقل ما تفترضه النظريات التي تنطلق من طرق شموليه وواحدة تميز الصادق عن الكاذب، ومن معيار معين للبداهة وهذه الحقيقة الواحدة تعبر عن حقيقة وجودية تستنتج استنتاجا عقليا أو تكون موضوع اعتقاد[2] ، وهذا النمط من الحقيقة يرتبط ضرورة في وجود النموذج الأعلى الذي لا يقوم الفكر سوى بنسخه ومن ثم ينظم نفسه وفقه .
وهذا نمط من التفكير يعتبر العالم نظاما متكاملا ومنسجما يسير وفق مبادئ خارجة عنه، أو على الأقل ليست من طبيعته والحقيقة هنا تكون كشف وإماطة للحجاب.
وإذا كانت المعرفة تعلما واكتسابا كان العقل الذي لا يسير إلا في حدود مداركه هو وسيلتها، وكان العالم المحسوس هو موضوعها وبذلك تظل هذه المعرفة بعيده عن بلوغ الحقائق، أما إذا كانت المعرفة قلبية وحدسية فهي تبلغ الحقيقة المطلقة. “فمحل العلم هو القلب، اعني اللطيفة المدبرة لجميع الجوارح، وهي المطاعة مخدومة من جميع الأعضاء، وهي بالإضافة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالإضافة الى صور المتلونات، فكما آن للمتلون صورة، ومثال تلك الصورة ينطبع في المرآة ويحصل بها، كذلك لكل معلوم حقيقة صورة تنطبع في مرآة القلب وتنضج فيها[3]“ لذلك كان للحصول على الحقيقة الواحدة وسيله خاصة ذاتيه ومطلقة.
لكن ماذا سيحدث لو وضعت تلك العلاقة التطابقية بين الحقيقة وموضوعها موضع سؤال؟، هذا التساؤل سيكون نتيجة بروز مفهوم العقل الذي يعني طرح العلاقة بين الذات وبين لموضوع، كما يعني أن لمعرفة لا تنتظم وفق نظام الأشياء، بل العقل هو الذي ينظم لأشياء ويعيد ترتيبها، على أن العقل يعرف نموا ونضجا هو ذاته نمو الحقيقة[4].
[1] ديكارت ” قواعد لقيادة العقل” لابلياد غاليمار ص 96
[2] أبو نصر الفارابي، “فصول منتزعة” تحقيق فوزي مترى نجار، دار الشرق، بيروت 1971، ص 53.52
[3] أبو حامد الغزالي ، “إحياء علوم الدين” الجزء الثالث . دار المعارف للطباعة والنشر بيروت . بدون تاريخ ص 19.18
[4] هيجل ” العقل في التاريخ” الوحدة العامة للمطابع. مجموعة 10.18 .1965 ص 49.48.47