كنا قد رأينا في المقالة السابقة مفهوم الطبيعة فليس ثمة حاجة لتكرار الأمر، وسوف ننظر في المدرسة الأيونية وكيف كانت رؤيتهم للعالم[1]
في البدء لم تكن الفلسفة تأملا مترفا يقوم به فرد ما إزاء العالم الذي يسكنه ويعيش فيه، بل هي أقرب للأسطورة والميثولوجيا[2] ويبدو أنه الفلسفة بوصفها لوغوس أو علما جاءت متأخرة مع أفلاطون وتحديدا أرسطو، ولكن لنحذر من جعل هذه العقلانية بمثابة عقلانية التنوير في القرن السابع عشر والثامن عشر.
وفلاسفة أيونيا هم طاليس وانكسمنس وانكسمندريس وسوف نلخص أراءهم تباعا، ولكن قبل ذلك نورد قصة تبين بعض الشيء دلالة الفلسفة آنذاك يرويها لنا أفلاطون في محاورة الثيئيتتس حيث يقول: ما وقع لطاليس في رصده الفلك يا ثئوذرس إذ هوى في البئر بينما كانت عيناه شاخصتين إلى السماء، إذ يقال إن خادمة تراقية ناعمة مهضومة قد داعبته بقولها أنه منهمك في معرفة شؤون السماء فيما يفوته ما يقابله وما ينبسط عند قدميه، وهذه السخرية الناعمة تنطبق على جميع من يقضون عمرهم في طلب الحكمة. وبين من هذه الحادثة تطويع أفلاطون لها حتى تنسجم مع فلسفة المثل[3] يعلق هايدغر على هذه الحادثة : الفلسفة هي أضحوكة الخادمات. ومن جهة أخرى نلتمس دلالة الفلسفة بوصفها نوع مختلط من الأسطورة والترف فهي: تغذي الجانب الرقيق من النفس. كما يقول أفلاطون في الجمهورية، وقبل أن نفرغ من هذا نورد نصا لأرسطو ذكره في كتاب الميتافيزيقا يبين ماهية الفلسفة كما نزعم في هذه المقالة: وقد حدث هذا الاكتشاف (أي الفلسفة) لأول مرة في الأماكن التي بدأ الناس فيها يستمتعون بالفراغ والراحة، وهذا هو السبب في أن الفنون الرياضية قد تأسست في مصر حيث سمح لطبقة الكهنة بالاستمتاع بالفراغ والراحة.
وكانت مباحث المدرسة الأيونية حول “أصل” العالم أو “المبدأ” الذي يرجع إليه كل الظواهر، فلك أن تطرح السؤال ذاته: هنا عالم وجدت فيه فما أصل هذا العالم؟ وإن كان هناك مبدأ للعالم فما هو؟ وهل للعالم عدة مبادئ؟ أم مبدأ واحد فقط؟[4] فما قول طاليس في هذه المسألة؟
يرى طاليس بأن المبدأ الأول والذي منه تكون وتفسد كل الظواهر هو “الماء” فمن الماء كل شيء صار وتصير، وكان ويكون. فمن الماء تتغذى الكائنات وتلد نسلا، والأشجار بدورها تعيش على هذا العنصر، والماء أيضا يتبخر فيصبح هواء وكذلك الشأن في بقية العناصر أي النار والتراب.
والعالم عنده لم يتشكل بمحض الصدفة بل له غاية يسير وفقها، والأشياء الموجودة فيه يسكنها قوة إلهية تسير الطبيعة وهي علة الحركة وفي هذا يقول أرسطو عن طاليس: ويبدو أيضا أن طاليس فيما يروى عنه من أنه زعم بأن في حجر المغناطيس نفساً لأنه يجذب الحديد. والمقصود بالنفس هنا[5] علة الحركة فالنفس إذن حركة مدفوعة بقوة إلهية كما يذكر عنه أرسطو في كتاب النفس : كل شيء مملوء بالآلهة.
خلاصة:
هذا هو رأي طاليس في أصل العالم، والمتدبر يظفر بركيزتين أساسيتين:
وتبقى مهمة القارئ أن يتأمل هذه الأسئلة ويطرح أجوبته الخاصة أي ما أصل العالم؟ وهل له مبدأ أول؟ إن كان نعم فهل هو مبدأ واحد أم أكثر؟ وهل هو مبدأ من داخل الطبيعة أم من خارجها؟ الخ دون أن يخجل أو يخاف فالفلسفة لا تكون بلا جرأة وهذا درس الأنوار الذي دشنه كانط.
[1] مصطلح رؤية للعالم لا علاقة له بدلتاي أو فيتغنشتاين الثاني إنما القصد منه الرؤية الجامعة لمفاهيم ثلاث النفس والبدن والطبيعة
[2] وسوف تحكم بنية التاريخ فيما بعد ثلاثية ميتوس وثيوس ولوغوس أي الأسطورة والدين والحكمة
[3] وسوف نأتي في هذه السلسلة على فلسفة أفلاطون ومفهوم المثل
[4] الغاية الكبرى التي أطمح إليها من هذه السلسلة هي أن تطرح الأسئلة ذاتها وغيرها على نفسك ولا تلتفت لمن يقول لك طريقة ما لدخول عالم الفلسفة فلكل فرد ذوقه ومزاجه
[5] وهذا النص واضح في اثبات ما ذكرنا في المقالة السابقة عن مفهوم الطبيعة