كنا قد رأينا ما نقله لنا التاريخ عن بداية التفلسف اليوناني، وقد أتسقر الترتيب على هذا الشكل وهو بالضرورة ليس قولا مطلقا لا يحتمل التعديل والاجتهاد، فطاليس وجد في الماء مبدأ للعالم والطبيعة أو الوجود، وكنت قد وضعت في مقدمة هذه السلسلة دلالة مفهوم الوجود أو الطبيعة آنذاك، وبعد طاليس قال أنكسمندر بالأبيرون أو اللامتعين فكان رأيه محل خلاف عند اللاحقين: فماذا يقصد بالأبيرون؟ هل هو اللانهائي أم اللامتعين ؟ وهل يعتبر الأبيرون داخل في العناصر الأربعة؟ أم أنه خارج عنها؟ ولو كان داخل في هذه العناصر فهل له طبيعة مادية أم روحية؟ وهكذا تتولد الأسئلة عن بعضها، وكان منهجي في هذه المقالات أي في ترجيح الأقوال والبت في رأيي يعتمد على أمرين: التاريخ العام للثقافة اليونانية قبل طاليس وفي زمنه وبعده أيضا[1] والأمر الآخر الاعتماد على ما ورد في نصوص أرسطو وأفلاطون وتأويل هذه النصوص حسب الركيزة الأولى مبتعدا عن تأويلات أرسطو ومقتربا من أفلاطون بعض الشيء. أما بعض المصادر الأخرى ككتاب ديوجين(حياة مشاهير الفلاسفة) وما ذكره شيشرون وسينكا وغيرهم فلم آخذ بهذه المصادر لأسباب يطول ذكرها. وبعد طاليس وأنكسمندر جاء انكسمنس والذي سوف نعرض رؤيته في هذه المقالة.
لقد كان المبدأ الأول وأصل العالم والكثرة عند فلاسفة ما قبل انكسمنس الماء والأبيرون، لكن انكسمنس وجد بأن كل شيء يرجع لأصل ليس هو الماء ولا اللامتعين وقال بأن كل شيء يرجع للهواء فهو أصل كل شيء، فالعالم كما نراه في تعدد ظواهره يبدأ من الهواء لذلك نجد ثيوفراسطوس يقول[2]
“كان شريكا لانكسميندر قال كهذا الأخير بأن الجوهر الأساس واحد ولا نهائي ولكنه لم يقل كأنكسمندر بأنه غير متعين بل هو متعين لأنه هو الهواء”
وكذلك يقول سمبليقيوس:
“المبدأ الأول لانهائي ولكن ليس لامتعيّنا لأنه هو الهواء”
هنا نرى الجمع والفصل أي ما يجمع بين انكسمندر وانكسمنس وما يفرق بينهم، أما ما يجتمعون عليه هو كالتالي:
أما الاختلاف فهو في:
وهنا علينا أن نسجل ملاحظة تكررت فيما سبق ونريد أن نشدد عليها وهي “الواحد” بمعنى أن هذه النظرية التي تنطلق بأن للعالم مبدأ واحد لا كثرة سيكون لها النصيب الأوفر فيما بعد مع بارميندس الوجود المطلق وأفلاطون وعلّة الخير والمحرك الأول مع أرسطو والقائمة تطول، ولكن الذي يفيد المتدبر هو أن يسأل نفسه : هل للعالم مبدأ واحد أم كثرة؟ وإن كان للعالم مبدأ واحد أو كثرة فهل هذا المبدأ من داخل العالم أم من خارج العالم؟ وإن كان المبدأ من داخل العالم فما طبيعته وماهيته؟ وإن كان من خارجه فما طبيعته أيضا؟
ونأخذ من هذين النصين بأن المبدأ عند كلاهما لم يكن متناهي بل لامتناهي، وبحسب بلوتارك فإن الهواء هنا هو :
“الهواء مبدأ كل الأشياء وأنه لامتناهي من حيث الكم لكنه متعين في كيفياته”
فهو من حيث مقولة الكم لامتناهي لكن لأنه هواء فقد أفترض بلوتارك بأنه متعين بالضرورة كونه عنصر من بين العناصر الأربعة للطبيعة أي الماء والهواء والنار والتراب، ولكن هذا الجدل أي هل هو متعين أم لا أو هل هو من بين العناصر الطبيعية أم لا فهذا لا أريد نقاشه هنا لأننا حسب التمهيد الذي وضعته لهذه المقالات كنت قد أخترت بأن هذه الفلسفات تنطلق من رؤية إيحائية للعالم ومن ثم لا يمكن أن ننزل عليهم هذا الفصل الحاد بين الجسم والروح أو بين الطبيعة وما هو وراء الطبيعة وهنا نكون قد ناقشنا الاختلاف فيما بينهم، ولكن قد يثار سؤال: إذن ما الفرق بينهم ولما أحدهم يختار الماء والأخر الهواء وهكذا؟ في الحقيقة أنه لا معنى لتقديم رؤية على أخرى دون علة، وعلة هؤلاء لم تكن فيزيائية كما نفهم هذه المفردة اليوم إذ لو كانت كذلك لما جاز تقديم عنصر على أخر كالقول بالماء أصلا دون الهواء لأن الطبيعة تظهر لنا العناصر الأربعة في علاقة تبادلية فلا يوجد عنصر بينهما مقدم على الأخر وهذا يعني أن علة الاختيار لم تكن المادة بل يبدو على هذه الرؤى أثر الديانات القديمة ومن بيهم الديانة اليونانية، فالآلهة كانوا كثر ولم تكن ديانات توحيدية، ومن هنا أختلف مع الطيب بو عزة كونه بنى حكمه في علة اختيار هؤلاء لعنصر ما دون غيره على مقولة “التجريد” وهي مقولة لا تستقيم مع ذلك العصر حسب ما تقدم فيقول في هذا الصدد:
“فإنه يمكن القول بأنه حاول البحث عن وسط بين مبدأيهما وسط لا يكون جوهرا ماديا مكثفا مثل ما يوحي به لفظ الماء عند طاليس ولا مبدأ موغلا في التجريد كأبيرون انكسمندر فكان الهواء أكثر عناصر الطبيعة اقتدارا على أداء هذا القصد الفلسفي”
إذن لا نقول بالتجريد المحض لهذه المرحلة وليس هناك أي تجريد محض في عالم الإنسان.
بقي أن نذكر إضافة أخرى لأنكسمنس وهي (التكاثف – التخلخل) وبهذا المفهوم يريد أن “يفسر” سبب الحركة والتغير في العالم، وينسب عادة هذه المقولة لانكسمنس دون غيره، وهذا الأمر ليس دقيقا فطاليس وانكسمندر كان لهم رأي فيما يخص علة الحركة كالبرودة والحرارة الخ ولكن قد يلتفت هنا إلى أن مفهومي التكاثف والتخلخل أكثر دقة في تفسير العالم وهذا لا أمانع من قبوله.
المهم هنا هو أن الفلسفة الأيونية برجالاتها الثلاث كان لهم مجموعة من الآراء حول الطبيعة وأصلها وهي ما حاولت وضعه في المقالات السابقة، ولكل رأي من هذه الآراء سؤال بسيط وهو ما يعين على تعلم “مبادئ الحكمة”[3] فما هي الأسئلة وما هي الرؤى التي طرحت حتى الأن:
للعالم مبدأ واحد وهو الماء عند طاليس واللامتعين عند انكسمندر والهواء عند انكسمنس
كما سلف منهم من قال بالبرودة والسخونة ومنهم من قال بالتكاثف والتخلخل.
[1] حتى أصل للجو الثقافي العام لهذه الحقبة فإني أرجع لملحمات هومر كالأوديسا والإلياذة وهزيود أنساب الآلهة والأعمال والأيام وكلذلك التراجيديات اليونانية وغير ذلك
[2] كل الاقتباسات الواردة في هذه المقالة عن ثيوفراسطوس وبلوتارك وسمبليقيوس أخذتها عن ترجمة الطيب بو عزة في كتابه(الفلسفة اليونانية ما قبل السقراطية)
[3] سيكون لي تفصيل فيما بعد عن مفهوم المبدأ كما أفهمه حيث لا أريد أن تفهم هذه التسمية بوصفها مبادئ متعالية على الزمن وفي هذا اشكال ميتفيزيقي لا أريد أن أخوضه، وهي بالمقابل ليست مبادئ نسبية بالمعنى الشائع لهذا المفردة