تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٦ مايو ٢٠١٢
ينقسم مجتمعنا إلى طبقات اجتماعية استنادًا إلى تقسيمٍ مفترضٍ بين المعرفة النظرية والمهارة العملية. إذ يتحدث الأستاذ الجامعي مطولاً على شاشات التلفاز، في الوقت الذي يشعر فيه السباك بالحنق من المفكرين المنعزلين في أبراجهم العاجية. وينعكس التمييز الذي نشعر به لما بين الأستاذ الجامعي والسباك على فهمنا لطريقة عمل عقولنا. البشر يفكرون وكذلك يعملون. ثمة ميل طبيعي للنظر إلى هذه الأنشطة على أنها تتطلب قدرات مختلفة؛ عندما نفكر، فإننا نسترشد بمعرفتنا للحقائق حول العالم، وعلى النقيض عندما نعمل، فإننا نسترشد بمعرفتنا بكيفية أداء الأعمال المختلفة. إذا كانت هذه القدرات المعرفية مختلفة، فإن معرفة كيفية إجراء شيء ما ليست في الواقع معرفة، أي أن هناك تمييزًا بين المعرفتين العلمية والنظرية. يُفترضُ أن عالَم الأستاذ الجامعي مختلف تمامًا عن عالَم السباك إذ يُنظر إليهما على أنهما يستخدمان في حياتهما اليومية قدرات عقلية مختلفة اختلافًا جوهريًا. فالأستاذ الجامعي لا “يفعل ذلك”، لأن معرفته نظرية بحتة تتمحور حول معرفة الحقائق. أما السباك فغير مؤهل للتفكير في الاقتصاد أو النظام السياسي لأن المهارة التي يحتاجها في أعماله المُعقَّدة ليست واحدة من ممارسات هذه المعرفة.
يميل معظمنا على الفور إلى تصنيف أنشطة كإصلاح السيارات، أو ركوب الدراجات، أو لعب كرة السلة، أو رعاية الأطفال، أو طهي طبق الريزوتو على أنها ممارسات للمعرفة العملية. ونميل إلى تصنيف النظريات الجبرية، واختبار الفرضيات الفيزيائية، وصياغة الحجج الفلسفية كممارسات للقدرة على توظيف معرفتنا بالحقائق. إن الفكرة الشائعة بأن الأستاذ المتعلم غير كفؤ لإجراء المهام العملية كما هو كفؤ في التفكير النظري ما هي إلا فكرة ثقافية شعبية مهيمنة مثلها مثل تلك الفكرة المتداولة الخاصة باللاعب الغبي. والفكرة الشعبية القائلة بأن المهارة العملية ليست مظهرًا من مظاهر المعرفة الفكرية متجذرة كذلك في الفلسفة المعاصرة، مع وجود شواهد لجذور لها تعود إلى العصور القديمة.
تنطوي ممارسات المعرفة النظرية، وفقًا للنموذج الذي يقترحه هذا الانقسام المُفترَض، على التفكير النشط، أو المشاركة مع الافتراض، أو قواعد النظرية المعنية التي توجه الممارسة اللاحقة للمعرفة. فكر في لاعب الشطرنج أثناء اتباعه للتعليمات التي سبق أن تعلمها للنقلات الافتتاحية قبل خوضه لمباراته. أما المعرفة العلمية فتُمارَس، في المقابل، تلقائيًا ودون تفكير. إذ لا يحتاج لاعب كرة التنس الماهر إلى استرجاع تعليمات معينة قبل صد الكرة، فهو يمارس معرفته تلقائيًا. يبدو أن كون ممارسات المعرفة النظرية تسترشد بالقضايا والقواعد يستلزم، بالإضافة إلى ذلك، تعليمات قابلة للتطبيق بشكلٍ عام، فالشخص الذي يتصرف بناءً على المعرفة النظرية لديه كتيب تعليمات يراجعه قبل أي تصرف. تتضمن مهارة الصد في لعبة التنس، على النقيض من ذلك، جزءًا من المعرفة التي لا يمكن لأي دليل إرشادي أن يعدك بها، فجزء من مهارة لاعب التنس الماهر هو معرفته لضبط لعبته حينما يكون الإرسال جديدًا بالنسبة إليه، وهو سلوك لا يبدو متسقًا مع اتباع قاعدةٍ في كتاب.
إن الاعتقاد بأن موهبة اكتساب المهارات في الأنشطة العملية تختلف عنها في اكتساب المعرفة بالحقائق يؤثر على تفاعلاتنا الأساسية مع الآخرين. فقد نفترض عندما يُظهر لنا طفلٌ مهارة في نشاط بدني ما، ونقص أولي للاهتمام بمادة الرياضيات، أن الطفل لديه الموهبة لممارسة الأنشطة العملية دون المهام الفكرية، (والعكس صحيح).
ولكن تبرز التصدعات بمجرد أن يبدأ المرء بتدقيق النظر والتمحيص في مسألة التمييز المفترض بين المهارة العملية والمعرفة النظرية. إذ يتعلم المرء عندما يكتسب مهارةً عمليةً ما كيفية إجراء شيء ما، وكذلك يتعلم عندما يكتسب معرفة بقضية علمية ما. يُستخدم الفعل ذاته للمعرفتين العملية والنظرية في العديد من لغات العالم (وليس جميعها) (مثلًا: “know” باللغة الإنجليزية، و “savoir” باللغة الفرنسية). الأهم، أن المرء عندما يفكر في أي ممارسة للمعرفة، سواء أكانت عملية أو نظرية، ستبدو له أن لها خصائص قد تُنسب ببساطة إلى ممارسة كلٍ من القدرات العملية والفكرية على حدٍ سواء. فبرهنة عالم رياضيات لنظريةٍ ما مثال نموذجي لممارسة المعرفة النظرية؛ ومع ذلك، من أجل أن يُعتبَر عالِمًا ماهرًا في مجال الرياضيات، يجب عليه التدرب، شأنه شأن لاعب التنس، بما يصيِّره بارعًا في الاستجابة للتحديات الجديدة التي قد تواجهه في استكشاف الواقع الرياضي. ولا تتطلب كذلك ممارسة معرفة المرء بالحقائق التفكير النشط، فها أنا أمارس بشكل روتيني معرفتي بتشغيل المصعد بالضغط على أزراره، دون إيلاء الأمر أدنى قدر من التفكير. ثمة الكثير من الأمثلة، من ناحية أخرى، على المعارف العملية فحسب المٌفترَضة التي تُكتسب بالطرق النظرية؛ إذ يمكن للأشخاص وغالبًا ما يتعلمون طهي الريزوتو من خلال قراءة الوصفات من كتب الطبخ.
قد يكون الإفصاح والتعبير طريقٌ من طرق التمييز بين المعرفتين النظرية والعلمية. قد لا نتمكن عندما نكتسب معرفة كيفية أداء شيء ما، من التعبير عن معرفتنا هذه بالكلمات؛ ولكن عندما نكتسب معرفة نظرية تتعلق بالحقائق، سنتمكن من التعبير عن هذه المعرفة بالإفصاح عنها. وقد يعرف شخصٌ ما كيف يُضحك الأطفال، لكن لا يمكنه التعبير عن كيفية فعله لذلك؛ في المقابل، إن كان هناك مَن يعرف أن واشنطن هي عاصمة الولايات المتحدة، فمن المفترض أنه قادر على التعبير عن هذه المعرفة بالكلمات.
إن التمييز بين ما يمكننا التعبير عنه بالكلمات وما لا نستطيع التعبير عنه، رغم ذلك، لا يستلزم أي تمييز مُفترَض بين المعرفة العملية والنظرية. فقد أعلم أن كلمة المرور السرية هي 15XH، لكن قد لا أتمكن من التعبير عن هذه المعرفة بالكلمات، تنحصر إمكانيتي بالضغط على المفاتيح عند إعطائي لوحة المفاتيح (تكمن المعرفة ، إن جاز التعبير، في أصابعي). قد يعتقد أحدهم بعد ذلك أن القدرة على التعبير عن شيءٍ ما بالكلمات ليست ضرورية للمعرفة النظرية؛ في المقابل، قد يعتقد آخر أن أي شخص يعرف كيف يفعل شيئًا ما يمكنه التعبير عن تلك المعرفة بالكلمات. يمكن، على أي حال، أن يجيب الشخص الذي يعرف كيف يُضحك الأطفال عندما يُسأل عن كيفية إجرائه لذلك بالقول: “هذه طريقتي لإضحاك الأطفال” أثناء إضحاكه لطفلٍ بين يديه.
لقد جادلت هنا، (وبشكلٍ مطول في مكانٍ آخر)، أنه بمجرد أن يبدأ المرء بالتدقيق في مسألة التمييز المفترض بين المعرفة العملية والمعرفة النظرية، فإن فكرة التمييز ستنهار تمامًا. أرى أن أنشطة السباك أو الكهربائي هي مظهرٌ من مظاهر الذكاء الذي تتمظهر منه الكتابة للعالم أو المؤرخ، فجميعها عبارة عن معرفة متعلقة بالحقائق. إنها حقيقة أن ثمة شخص ما قد يكون بارع في ميكانيكا السيارات ولا أمل منه في الفلسفة، لكن من الحقيقة أيضًا أن ثمة آخر قد يكون حاذق في الفيزياء النظرية وعاجز في الفلسفة؛ إذًا الفرق بين البراعة والعجز لا يرتبط بالتمييز المتداول والشائع بين الأنشطة العملية والنظرية. إن كان الأمر لا يتعلق سوى بترشيد تمويل قروض الطلاب، فعلينا أيضًا التعرف على الفروق بين المهن، التي يتطلب إتقانها تعلم العديد من الحقائق المُعقَّدة وربما الأكثر تعقيدًا، والمهن التي يسهل إتقانها. لكن هذه الفروق لن تكون سوى فروقًا ضمن سلسلة متصلة، وليست فروقًا عينية، كما هو مقصود في التمييز الشعبي المتداول بين الأنشطة العملية والنظرية.
لقد أقام هذا الفارق الزائف بين العمل العملي والتفكير النظري حواجزًا في مجتمعنا. قد يفترض أحدهم افتراضًا خاطئًا أنه إذا طوّر مهارته مبكرًا في إصلاح السيارات أنه لن يكون بارعًا في التحليل الأدبي أو في برهنة النظريات. إن هذا الافتراض لن يحرمه من الفرص فحسب، بل سيحرم مجتمعه من مُساهم محتمل في التحليل الأدبي أو علم الرياضيات. وتفترض كذلك هياكل ونظم الأجور في مجتمعاتنا الأمر نفسه، فانعكس ذلك على أجر ما يُعتقد أنه نشاط نظري وتكلفته. يعمل التمييز المُفترَض على المستوى اليومي، فإذا أمضى المرء وقته في إصلاح السيارات، فقد يشكك بقدرته في تقييم حجج “الخبراء” الاقتصاديين الذين يظهرون على شاشات التلفاز، وقد يتولد لديه بعد ذلك شعورًا بالعزلة عن هذه المناقشات ما ينعكس في خطابه الغاضب على صناع الإعلام.
يُستخدم التمييز بين المهارة العملية والمعرفة النظرية لحشر المجتمع في مجموعات، إنه يعزل ويفرَّق؛ لكن، من حسن الحظ، كما أثبتنا، أن هذا التمييز ليس أكثر من فكرة خيالية.
الكاتب: جايسون ستانلي أستاذ الفلسفة في جامعة روتجرز. هو مؤلف لثلاثة كتب لدار نشر جامعة أكسفورد: “المعرفة والاهتمامات العملية”، و”اللغة في السياق”، و”الدراية الفنية”. يمكن إيجاد المزيد من أعماله على موقعه الإلكتروني.
المترجم: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
The Practical and the Theoretical
Jason Stanley
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”