نقد التنظيرات التأملية في الفلسفة (مناقشة فلسفة الآخرية عند عبد الله المطيري)- خالد الحسن

نقد التنظيرات التأملية في الفلسفة (مناقشة فلسفة الآخرية عند عبد الله المطيري)

خالد الحسن

"إن حياة الإنسان قصيرة، ولا يمكن له أن يجرب ويختبر كل شيء بنفسه، لذلك تعد الاستفادة من تجارب وخبرات الآخرين مهمة جدا لأنها تُكسبنا خبرات وتجارب تساعدنا في أن نتجاوز مصاعب الحياة أو على الأقل نحمي أنفسنا من الوقوع في الخطأ مرتين. فالبشر يتشاركون في أشياء ويختلفون في أشياء. يتشاركون في الطبائع والرغبات، فتجاربهم وخبراتهم، تساعدنا في فهم أنفسنا وفهم الآخرين. وباكتساب الخبرات والتجارب الخاصة نستطيع مساعدة البشرية كافة. وفي الأخير كلنا نشترك في تجربة واحدة، وهي التجربة البشرية." من مقالة ليّ بعنوان: في فلسفة الحياة: الخبرة العملية تساعدنا في تجاوز المعاناة.   المقدمة سوف أناقش كتاب “فلسفة الآخرية”، والذي يظهر بأن الكاتب قد بذل جهدٍ كبير في كِتابته، ولكن النقاش لن يكون حول الجهد المبذول، ولكن في المضمون، والنتيجة من هذه التأملات، وطبيعة النسق الفلسفيّ؛ وهل لها فائدة أم لا؟ تناقشت قديمًا مع الصديق المطيري، بخصوص مقالةٍ كتبتها عن مفهوم الخبرة العمليّة والتي مستندها التجربة الشخصيّة، مثل إنسان يعاني من مشكلة ما، كالقلق المزمن أو الاكتئاب، وكيف استطاع أن يتجاوزها، هنا تستفيد من تجربته الشخصيّة، والتي تأتي على شكل سيرة ذاتيّة وبها خبرته وتجربته العمليّة، مع المشكلة أو المرض أو أيّ مُعاناة يعانيها الإنسان في حياته ثم يتجاوزها، وفصلت هذا الأمر في المقالة؛ بأن الخبرة العمليّة مُقدمة على التنظيرات التأمليّة، لأن مُستندها التجارب الشخصيّة عند البشر. لكن المسألة لم تتضح للصديق، وأرى سبب ذلك هي الفلسفة الوجوديّة -والفلسفة عمومًا- وتأثيرها السلبي؛ حتى تتكمن منك هذه التأملات التنظيرية وتغرق فيها، ولا يمكنك أن ترى إلا من خلالها؛ لدرجة إن مفهوم الخبرة والتجربة العمليّة، لم تكَ واضحة عنده، وظن بأنني أتحدث عن الفلسفة التجريبيّة، على طريقة لوك وهيوم. وهذا لم يكَ مقصودي، ولا مقصود المقالة عودةً للكتاب، ونقدي سوف يتجه للتأملات التنظيرية وطبيعتها، مع محاولة مراعاة الموضوعيّة. أرى أن مشكلة الفلسفات الوجوديّة بالخصوص، إنها ذات طابع تأمليّ محض لا تطبيقيّ، ولو فرضنا بأن يوجد جانب تطبيقيّ فهو هامشيّ وسطحيّ، وغير مُفيد للإنسان. عندما تنتهي من قراءتك لكتاب وجوديّ، تظن بأنك سوف ترى الحياة والوجود بصورة أخرى، كرؤيتك للناس بصورة مختلفة وأن الطبيعة خلابة، مع زيادة في الدهشة والتعجب، ولن ترى الشمس والسماء إلا بطريقة مختلفة، فسوف تشعر بالحياة من جديد؛ ولكن في الحقيقة لم يتغيّر في حياتك أيّ شيء. قبل أو بعد قراءة كتابات الوجوديّة، لأن كل كلامهم يدور حول ما هو تنظيري-تأملاتي بحت. والمشكلة الأخرى، إن كل أقوالهم أو أكثرها مبنيّة على أرضية غير صلبة، فتسقط عند أي اعتراض وصفيّ. فسوف أتطرق لعينات منها الفلسفة الآخرية ومعارضتها بتأملاتٍ أخرى يرى المطيري، أن فلسفة الآخرية ساهمت في فتح باب للحوار مع الآخر: “بهذا تعمل الفلسفة الآخرية على لعب دور فتح الحوار بعد أن نظن أنه انغلق من خلال لفت الانتباه إلى أن هناك دائما ما هو آخر ومختلف1 لكن الفلسفات كلها على مر التاريخ تلعب دور في فتح الحوار، من محاورات أفلاطون في الجمهوريّة إلى كانط ومناقشته لأفكار من سبقه؛ فالفلسفات الآخرية لم تأتي بأي جديد وحضورها هامشيّ في الفلسفة الوجوديّة. وعندما تطرق لثنائية الحضور والغياب فَرّقَ بين الذات والآخر بطريقة تأمليّة فقال: طبيعة التعامل مع الزمن نقطة مركزية للتفريق بين الفلسفة الذاتية والفلسفة الآخرية. الذات حاضرة وشاهدة باستمرار أما الآخر فهو غياب وترقب وانتظار. فلسفة الآخرية بهذا تتطلب فهما للزمن يحتوي التجربة البشرية بكل تفاصيلها بما يشمل تجربة الغياب والترقب والذكرى والأثرولِمَ لا تكون الذات هي الغائبة لمن لا يعرف نفسه؟، والآخر هي الحاضرة والشاهدة باستمرار لذات الآخرين؟. رغم أن كل هذه التأملات ليس لها مغزى حقيقي، فالذات هي آخر لذات أخرى، كما أن الذات الأخرى هي آخر للذات الأولى. فالكلام عن الحضور والغياب، وأن الزمن يحتوي على التجربة البشرية كلها تأملات لا مغزى لها. يذكر مثال لسارتر لإيضاح معنى العدم عندهم: “سارتر يحضر للمقهى متأخرا بربع ساعة. يدخل للمقهى باحثا عن بيير لكن بيير غير موجود. هذا المثال يوضح لنا أن عدم وجود بيير في المقهى سبق حكمنا أن بيير غير موجود. العدم بهذا المعنى ليس فقط حكما لغويا بل شكل من أشكال العلاقة بالعالم. حين يدخل سارتر للمقهى بحثا عن بيير فإنه يعيد ترتيب أشياء المقهى لتخدم غرضه. بمعنى أن المقهى يظهر لغرض ابراز وجود بيير من عدمه.يظهر بأن المطيري -عكس الوقيان4– لا يستخدم العدم بمعنى الغياب أو نقيض الحضور. وليس العدم بالمعنى الفلسفيّ، فهو معنى آخر، مرتبط بالوعي، يتجاوز المعنى اللغويّ. بيير غير الموجود في هذا المقهى، فهو غير موجود في المقهى مطلقًا، فوجوده وعدمه مرتبط بسارتر. رغم أن استخدام مصطلح “العدم” إشكاليّ، ويفتح الباب إلى تأويلات وتأملات كثيرة ليست لها أي تطبيق إلا في المثال المُتخيّل؛ ولكن يُكمل المطيري مثاله بربط معنى العدم إلى كونها علاقة مع العالم، وهذه صورة تأمليّة أخرى. لأن يمكننا أن نتأمل المثال السابق بصورة مختلفة، كطريقة الوقيان أو بطريقتي، بأن العدم بمعنى ما لا نُدركهُ، فأي شيء ندركه فهو موجود. وما لا نُدركهُ فهو غير موجود. فلو بيير كان موجودًا في المقهى، ولكن سارتر لم يُدركهُ فهو إذًا معدومًا لسارتر حتى لو كان موجودًا في المقهى. لأن الإدراك مرتبط بما نُدركُه في العالم من حولنا، والعلاقة بين المُدرِك والمُدرَك. وهذه صورة تأويليّة لفلسفة بيركليّ في تفسير المثال السابق، قد تكون قريبة من تأملات المطيري، ولكن الفرق إن العدم له علاقة بالعالم، وأما العدم في تأمليّ، هو بما لا ندركه. وأما في الوعي الإنساني فجعل الكينونة في ذاتها تحكمها قانون التطابق، فرمَزَها بـ(أ=أ) وأما الكينونة لذاتها أو الوعي الإنساني مُتغيّرة فرمَزَها بـ(أ=~أ)عندما يكون الشيء نفسه، فيستحيل سلب الشيء عن نفسه، أ هو ليس أ فهذا تناقض، وكلها تأملات غير مُنتجة. عندما نقول أن ذات الشيء مُتغيّرة نرمزها (أ=ب). مثال: الرجل الأعزب هو الرجل الأعزب (أ=أ). وقد يكون الرجل الأعزب هو سارتر (أ=ب). فلا يحصل أيّ تناقض. بخلاف لو سلبنا الشيء عن نفسه بأن أ ليس هو أ، فهذا تناقض صريح. أما الحقيقة عند ليفيناس فقال: “هذا يكشف أولوية الأخلاق في تأسيس الحقيقة بمعنى أنه لولا الاهتمام بالآخر لما كان هناك داع للعناية بالحقيقة.”6 نلاحظ مشكلة أخرى، وهي غارقة في التنظير التأمليّ. هل طَلَب الحقيقة من أجل الآخر أو من أجليّ؟. فلو كان للآخر، لما اهتممنا بالحقيقة لذاتها، وأكتفينا بالآخر لذاته، لأن الآخر بالنسبة إليه -أيّ إلينا، على طريقة ليفيناس- هي الحقيقة. عندما يبحث الإنسان عن المعنى أو عن ناتج معادلة لنقل 2+2=س، هل عنايته بالحقيقة لأنه يُريد أن يَعرف من أجل المعرفة أيّ لنفسه -الفضول الذاتيّ- أو يُريد الاهتمام بالآخر؟. لو كان اهتمامًا بالآخر، لما بحث حي بن يقظان في الرواية الشهيرة، عن الحقيقة والوجود لنفسه رغبةً في المعرفة؛ ولكان الأخ الأكبر في رواية جورج أورويل “(1984)” كلامه صحيحًا، وأن 2+2=5 هي الحقيقة، لأن عناية الأخ الأكبر بنا، هو تأسيس للحقيقة بما أن الأخلاق لها الأولوية في هذا التأسيس. رغم ما نقلته هو عينة، ولكنها توضح لنا، بإمكانيّة معارضة التأملات التنظيرية، بتأملاتٍ تنظيرية أخرى، فعندما نفقد الأساس الصارم أو شبه الصارم، والتي تقوم عليه هذه التنظيرات فسوف تنهار على نفسها، لأن كل التفاصيل والتوصيفات الأخرى، سوف تصبح بدون مغزى أو فائدة ما بين الخبرة العمليّة والتأملات التنظيرية في أمور الحياة لو كان لدينا إنسان يُعاني من اكتئاب، ونحن أمام خياريّن إما نجعله يذهب إلى شخص يُنَظِّر عليه، في كيفية تجاوز هذا الاكتئاب، وهو لم يعاني من هذا المرض أو يذهب إلى شخص عانى من هذا الاكتئاب وتجاوزه؛ فهذا الأخير ما نُسمية بالخبرة العمليّة، فتجربته الشخصيّة قد تُفيد الإنسان الذي يُعاني من اكتئاب، لأنه هو نفسه عانى من الأمر، ولديه حلول مُجرَبة في كيفية علاج هذا المرض، استنادًا على خبرته مع المرض. رغم أن المثال تأمليّ-افتراضي، ولكن يمكن من تجربته عمليًا، وتؤيده الوقائع. كيف شخص يتحدث عن شيء يتعلق بتجارب الحياة من معاناة يمر بها الإنسان، سواءً كان مرض، أو إشكال اجتماعيّ أو غيره. مثل السمنة أو التدخين، أو أزمة مالية أو عائلية أو حتى أزمة منتصف العمر؛ وهو لم يجربها أو عانى منها أو ليس لديه الخبرة الكافية في التعامل مع هذه الأمور أو الممارسة؟. صحيح، أنني تجنبت ذِكر علم النفس، كحل ثالث في المثال، أيّ يذهب إلى معالج نفسيّ، سوف أُفصل في المسألة لاحقًا، ومع ذلك فعلم النفس مُقدم على التأملات التنظيريّة، لأنها مستندة على الممارسة والدراسات، والخبرات وتجارب المرضى؛ والتي أعطت نتائج حقيقية. رغم أن الخبرة العمليّة تنحصر جُزءًا في تجربة الشخص، وكيف تجاوز إشكالاته، والتي يستطيع أن يُشاركها مع أخرين ممن يمرون بنفس حالته وتحديدًا في بداياتها، ويستفيدون منها في تجاوز هذه الإشكالية؛ فجزء من الخبرة العمليّة نجدها في الدراسات السريرية لعلم النفس على سبيل المثال، والتي تُقام على المرضى، وتختبر جودتها في معالجتهم، بعكس التأملات التنظيرية، والتي تُنظر بعيدًا عن كل هذه الأمور. يمكننا أن نتحدث عن العسل ولذته، وأنت لم تذقه أو تراه، وبين شخص ذاق العسل، وجربه. فالأول قد يصدق في بعض التفاصيل، ولكن لا يعرف حقيقة العسل من طعمه ولزوجته أو شكله، بعكس الثاني الذي يعرف كل تفاصيل العسل، من طعم، وشكل. كذلك من بين من قاد السيارة، وجرب القيادة، وبين من لم يجربها. يذكر المطيري عن القلق مستشهدًا بسارتر: “يضرب لنا سارتر مثال الوقوف في مكان مرتفع والنظر إلى الهاوية. في تلك اللحظة ندرك كبشر أننا أمام احتمال أن نقفز لذا نقلق من ذواتنا. بمعنى أننا في ذلك المشهد نشعر بأن إمكانية القفز موجودة وإن كنا نرفضها. لا شيء يمكن أن يلغي تلك الإمكانية رغم كل حبنا للحياة وخوفنا من الموت.7 ما قيمة هذه الإمكانية، لشخص اختار أن يفقز؟ ماذا عن القلق بالمعنى الوجوديّ أو بالمعنى النفسيّ، الذي يصاحب الإنسان في حياته، فما قيمة خياراته إن كان هذا القلق أو أي شعور سلبيّ يصاحبه لمدى حياته؟. ولكن لو اتجهنا لشخص عانى من هذا القلق، واستطاع أن يتفاعل معه، ويتجاوزه. فتجربتّه لها فائدة لمن يُعاني من نفس هذا القلق. وينطبق نفس الشيء مع الحب، فقال: “هذه الحالة من التناقض الكامن في الحب والفشل المحتم قد تجعل الفرد في حالة من اليأس والقنوط وتدفعه باتجاه أن يتعامل مع ذاته بشيئية كاملة. حالة من الحزن بسبب فشل الحب وشعور بالذنب بسبب التخلي عن حريتهالشعور بالذنب ليس بسبب الحرية، بل سبب فشله في الحب. لذلك يتعلم من هذا الفشل، لكيلا يفشل مرة أخرى، وله الحرية في أن يحب ويُجرب ويتعلم مرة أخرى؛ ومن هنا يكتسب التجربة الشخصيّة، والتي يمررها للأخرين لكي يتعلموا من تجاربه ولا يقعوا في الخطأ نفسه. وتطرق المطيري للتحليل النفسي الوجوديّ عند سارتر، ورَدَه على علم النفس المعاصر وتحديدًا السلوكيّة: “بهذا يكون التحليل النفسي الوجودي محاولة لتفسير كل ما تقوم به من خلال علاقة الكينونة لذاتها مع العالم ومع نفسها في مواقف محددة. كما يسعى لفك شفرة أنماط السلوك والدوافع والميول ومسائلتها. هذه المهمة تنطلق من مبدأ التحليل النفسي الوجودي الأساسي وهو شمولية الإنسان أي النظر للإنسان ككل بدون الوقوع في التقسيمات التقنية التي يدفع باتجاهها العلم الإمبيريقي الدقيق. أما بالنسبة للهدف الذي يسعى لتحقيقه التحليل النفسي الوجودي فهو كشف معنى كل فعل ونمط السلوك لكل إنسان9 نجد أن تقديم التحليل الوجودي على السلوكيّ؛ هو تأمليّ. فعلم النفس المعاصر، والطريقة السلوكيّة تراعي بعض جوانب العلم الإمبيريقي، لذلك تعطي نتائج، وتُفيد في العلاج النفسيّ. ومع مراعاة الجانب الإمبيريقي يتطور علم النفس، إلى أن يكون أكثر إنتاجية ومنفعة في العلاج. بعكس التحليل النفسي الوجودي، الذي يراعيّ التأمل في علاقة الإنسان مع نفسه والعالم. والذي سوف يفتح باب لتأويلات كثيرة لتفسير فعل ونمط السلوك عند الإنسان؛ كما رأينا في معارضة التأملات بتأملاتٍ أخرى. فيمكن معارضة تفسير التحليل النفسي الوجودي، بتفسير آخر، ولن يكون هناك مرجح يرجح إحداهما على الأخرى. بعكس العلم النفس المعاصر، الذي يعتمد ويستند على التجربة والدراسات والممارسة السريرية، لا مجرد التأمل في الوجود. كما يوجد دراسة عام 2016 في فعالية التدخل بالعلاج النفسي الإيجابي مع العلاج المعرفي السلوكي لطلبة الجامعة10. مع تطور علم النفس، ومراعتها الجانب الصارم من التجربة، والممارسة، والدراسة، والتكرار؛ فسوف تعطي نتائج حقيقية. مشكلة المنهج الفينومينولوجي عَرَّفها المطيري بأنها دراسة الوعي عن طريق الخبرة الذاتية11 أو الانفتاح على الخبرات الفردية12 ويقع الخلاف بين الفلاسفة عند استخدامهم للمنهج، كالدراسة لخبرة القراءة13 أو لخبرة الآخر أو لخبرة أيّ شيء. فنستطيع القول أن المنهج واحد، ولكن استخداماته مختلفة. المشكلة في المنهج جزء كبير منه تأمليّ، ويعود لوصفك الشيء استنادًا على خبرتك بهذا الشيء، كإدراكك للكوب، وخبرتك تعتمد على ما تختبره في الخارج والباقي يجري فيه الاحتمال والتخمين، هل بهِ ماء أم شاي إلخ. فلن تصل لليقين، فقط لما هو ظنيّ وهذا ما وضحه المطيري عندما قال: “هذا يعني أن خبرتنا مع الأشياء الخارجية ذات الأحجام كالكتاب والمنزل وغيرها لا تحيط بالشيء بشكل كامل. أي أننا حين ننظر للمنزل فإن خبرتنا في الواقع ليست إلا مع واجهة المنزل. باقي الأجزاء نخمنها. هذا التخمين بطبيعته احتمالي وليس يقينيّ. بدليل أننا نخطئ أحيانا في تخميننا للأجزاء الأخرى التي لا نراها مباشرة وبالتالي نحتاج إلى خبرات إضافية تضاف للخبرة الأصلية. الخبرات الإضافية بدورها تعاني من ذات المشكلة وبالتالي فالعملية لا تنتهي.14 أما الوقيان فيرى أن الفينومينولوجيا يمكنها تأسيس الفلسفة والعلوم على أسس راسخة ولا تقبل الشك15. قد نلمح معارضة بين القوليّن، ولكن المطيري يريد بتعدد الخبرات الإضافية تفيد الاحتماليّة والظن في الرد الفينومينولوجي، أما في الرد الماهويّ، قد يُفيد اليقين. وكذلك الوقيان، يريد بالماهيّة، التي تؤسس للأسس المعرفة. رغم أن القوليّن، لا يخرجان عن التأملات، كتأمل هذه الكُليات في الذهن، ودعوى بأن لها علاقة بالموضوع الخارجي16. رغم محاولة الوقيان لجعل المنهج شبه صارم عند دراسة الوجود أو علاقة الوعي والوجود، والذي سوف يجعل بذلك الوجود واجب. لكي يخرج من معضلة مفهوم العدم، وهي نفس المشكلة التي وقع فيها المطيري، عند تفسيره لمعنى العدم متجاوزًا المعنى اللغوي إلى علاقتها بالعالم. وكل هذه الإشكاليّات توضح لنا أن المنهج الفينومينولوجي قاصر حتى في دراسة الوجود، وهذا ما سوف نناقشه بالتفصيل في مقالة أخرى. إذًا هذا المنهج تأمليّ لا يخضع للحوادث التجريبية أو الاستنباط المنطقي أو الرياضيّ. أو كما ذكر الوقيان عن هوسرل: “والدراسة الفينومينولوجية ليست بحثا في العلل أو استقراء للحوادث التجريبية أو استنباطا من مسلمات مقررة مسبقا17. ولكن قد يقال بأنها تعتمد على التأمل في الأشياء كما تبدو لنا أو ما نعرفهُ عنها استنادًا على خبرتنا الذاتيّة. حتى لو كان كذلك، فما لا يستند، على الاستنباط أو استقراء؛ فهو مجرد تأملات، كما أن التجربة أو الخبرة الشخصية في هذا المنهج ليست مستندها عمليّ، فلا يستفيد منها الآخرون، لأنها تخص تأملاتهم الشخصية والمحضة. أيّ أنها تجربة لا يشترك بها مع الآخرين، وإن هذه النتائج من التجربة لا تفيدهم بشكلٍ عمليّ، فلو عانى من قلق وشخص انتهى لنتيجة بتجاوز فيها هذا القلق، هذه النتيجة تفيد كل الناس، لأن النتيجة مستندها الخبرة والتجربة العمليّة، لا التأمليّة. قد تنجح التجربة معه أو تفشل، لذلك توجد نتائج كثيرة في تجاوز القلق، والتي يستطيع أن يختبر نتائجها بنفسه بشكلٍ عمليّ. أما الخبرة في الطريقة الفينومينولوجية تخضع للتأملات الفردية والذاتيّة، والتي تختلف من شخص إلى شخص، وكل شخص له تجربته وتأملاته الشخصيّة، وهذا ما نجده عند المطيري، أن الأمر يدور في دائرة الاحتمال، وأما الوقيان فيرى إمكانية هذا المنهج ليكون أساسًا للفلسفة. وهذه الخلافات كلها، مستندها التأملات التنظيرية؛ والتي نجدها أيضًا بين سارتر وليفيناس-مع المطيري- أو هوسرل-مع الوقيان- فأسس هذا البناء تأمليّ، لا يعتمد أسسه على المنطق أو التجربة، فيصعب حصول أيّ استفادة منه، إلا بمحض الصدفة والتوافق كما هو الحاصل مع التأملات التي نجدها عند أصحاب التنميّة الذاتية ما بين علم النفس والفلسفة الوجوديّة والتنميّة الذاتيّة لو أن شخصاً يعاني من قلق شديد، ويحاول أن يجد حلًا لهذا القلق، في ثلاثة كُتب الأولى كتاب في علم النفس، والذي يتطرق لتجارب عمليّة، أعطت نتائج جيدة مع المرضى، واعتمدوا طرق علاجية معينة -لنقل السلوكيّة-، تساعد المصاب بالقلق، في تخلص منها. والكتاب الثاني للتنميّة الذاتيّة، والذي يتكلم عن كيفية التخلص من القلق، بإتباع طريقة معينة، كالقول: “أنا لا أعاني من القلق” تكررها عشرة مرات كل ما تقوم من النوم في الصباح الباكر. والكتاب الأخير، عن فلسفة الوجودية، والذي يٌركز على مفهوم القلق، وتفاصيل كثيرة من قبيل “الجحيم هو الآخر”. وتظن أنك وجدت الحل للقلق عن طريق تقبل الآخر والانفتاح عليه مع تجنب العلاقات المضرة والسامة. من خلال هذا المثال نجد كتاب التنمية الذاتية والفلسفة الوجوديّة، تأمليّة، بل إن التنميّة الذاتية أكثر وضوحًا ومباشرة في محاولة التخلص من القلق، رغم سخافة الطريقة. أما كتاب الفلسفة الوجوديّة، الذي يحكي لك عن مفهوم القلق وتاريخه وتفاصيل خارجية، وتنظيرات كثيرة. كلاهما غارقان في التأمل. بعكس كتاب علم النفس، الذي يعتمد على تجارب ودراسات عمليّة، ونتائج مع المرضى، حتى لو كان يوجد بها جانب تأمليّ وتنظيريّ فيه. ولكن الجانب الأكبر هو للنتائج التجريبية والعمليّة، والأهم من ذلك كله الفائدة الحقيقية لا الوهميّة التي نجدها في التنمية الذاتية. لكن لعل تصدق بعض المسائل في الفلسفة الوجودية على الواقع، مثل حُب الذات أو معرفة النفس، والانفتاح للحوار وللآخر. وهذا ينطبق أيضًا على التنميّة الذاتية، حُب النفس، وتقبل الحياة إلخ. التوافق بمحض الصدفة، لا يغيّر من حقيقة البناء التأمليّ، أو النتائج الوهمية الكثيرة، التي نجدها في التنميّة الذاتية؛ وكذلك نجدها في الفلسفات الوجوديّة. من أجل تجاوز هذا الإشكال هو بإعادة النظر في البناء التأمليّ، وتحديدًا في المنهج الفينومينولوجي، وتعديله لكي يسمح بإدخال الجانب التجريبيّ، وهو ضروري، لمعرفة الأنفع والأصلح للإنسان من الناحية الذاتيّة. نجد أن علم النفس تطور وأصبح يعتني بحيز كبير من التجربة، ليست كالعلوم الطبيعية، ولكنه جانب كبير، بما أن علم النفس، علم مرن؛ بالإضافة إلى الجانب الإحصائيّ، وهو لا يقل أهميّة اليوم في أيّ دراسة سواءً في العلوم الطبيعية أم الإنسانيّة. لأن البيانات الإحصائيّة، تُساعدنا في تفسير جوانب كثيرة، من التجارب النفسيّة أو الاجتماعيّة؛ ومن دونها لا نستطيع أن نرى العلاقة بين على سبيل المثال العلاج (س) مع الذين يعانون من القلق الشديد. وتقسيم التجربة إلى مجموعة عاديّة -بشروط عادية-، لم تتأثر بأيّ تغيّير، ومجموعة أخرى تخضع للتجربة، بالتأثير عليها عن طريق العلاج (س)، لنرى التغيرات التي تطرأ عليها، لكي نتجنب الوقوع في الوهم، ومشكلة العلاقات الوهميّة بين العلاج والمجموعة. وكل هذه المسائل المهمة اليوم في العلم، لا تُراعيها الفلسفات الوجودية أو التنميّة الذاتية. ومراعاتها تدور حول التأمل. التجربة السابقة، تُعلِمنا بأن العلاج (س) المستخدم على هذه المجموعة والتي تعاني من قلق مزمن أو وسواس قهريّ، بأنها هل هي بالفعل تُعطي نتائج فعالة أم لا. وهل الأمر مجرد وهم أم لا؟ بالإضافة إلى إمكانية إعادة هذه التجربة، وتكرارها، وتوسع هذه الدراسات لدراسات أخرى. وكل هذه الأمور تدور حول البحث عن إجابات وحل الإشكالات المطروحة، لذلك علم النفس يتطور، ويتطور سريعًا. مقارنة تاريخية بسيطة بين زمن فرويد وعصرنا الحالي، نجد بأن علم النفس، تطور جدًا، رغم أنه مازال بهِ مشاكله الخاصة، والتي نجدها في كل العلوم. ولكن أصحابها، يحاولون تطوير هذا العلم، وتوسعه، لكي يكون أكثر دقةً وإنتاجيّة؛ وهذا ما لا نجده في الفلسفة عمومًا. ولكن في آخر عشر أو عشرين سنة، نجد محاولات في جعل الفلسفة تنحصر على الجانب التجريبيّ، كطريقة المثال السابق. وهو علم جديد نسبيًا. ليست كالفلسفة التجريبيّة القديمة. ولكنها على طريقة المناهج التجريبية التي نجدها في دراسات العلوم الإنسانيّة، كالنفسيّة والاجتماعية.18 وهي فلسفة تحاول أن تبتعد عن التأملات البحتة. الخاتمة في الختام، لعل هذا النقد يساعدنا في إعادة النظر في هذه المسائل المطروحة، بطريقة يتم تجنب فيها الغرق في التأملات الصرفة؛ وإعادة النظر في المناهج والدراسات الحديثة، الموجودة في العلوم الإنسانيّة عمومًا. أو في الفلسفة التجريبيّة الحديثة المعتمدة على طريقة دراسات علم النفس والاجتماع أو حتى منهج أو طريقة جديدة، كتعديل المنهج الفينومينولوجي وضمه مع بعض جوانب المنهج التجريبيّ، لكي يُعطي نتائج لها مصداق في أرض الواقع، نتائج حقيقية لا وهمية. وألا تكون مُنحصِرة في التأملات الاحتماليّة. ذكر المطيري في الفصل السادس من الهامش عن تأليفه لكتاب جديد متعلق بفلسفة الضيافة، أتمنى أنه يراعي هذه النقودات السابقة، ويأخذها بجديّة، من باب “الانفتاح للآخر” أو من باب “الضيافة”. بعكس الصديق الوقيان، الذي غض النظر عن أكثر اعتراضاتي ونقوداتي، قبل نشره لكتابه، والتي لم يذكرها أو يجاوب عنها في كتابه الأخير، وهي تطعن في صميم منهجه وفكرته الأصليّة عن الوجود؛ والتي لعلي سوف أتطرق لها في مقالة آخر بالتفصيل لاحقًا. لو أردنا حراك فلسفيّ، علينا أن نأخذ التفلسف بجديّة, ونتفاعل مع الحورات والنقاشات المتنوعة في الساحة المعرفية، من نقودات وغيرها على قدر المستطاع. وألا تكون مجرد ترفًا فكريًا، ومن ثم لا أحد يهتم بدفاع عن أفكاره “الفلسفية” وأن المصطلحات مثل : الآخرية والضيافة أو الاختلاف السلبي. تصبح مصطلحات بلا معنى. أتمنى ألا تكون كذلك. الهامش والمراجع 1- عبد الله المطيري، فلسفة الآخرية: الآخر بين سارتر وليفيناس وبهجة الضيافة (الرياض: دار مدارك، 2021) ص18 2- المصدر السابق، ص24 3- المصدر السابق، ص142 4- الوقيان لا يستخدم العدم في المثال السابق، بمعنى الغياب، ولكن لها علاقة بالزمان والمكان، فالحضور والغياب عنده موجودان؛ فيظهر إن الوقيان ليس لديه مفهوم العدم أصلًا، إذًا مفاهيم السلب هي ذهنية -أي في الوعي- والمشكلة في هذا التحرير إن  المفاهيم لن يكون لها معنى بما أن ليس لها أصل مفهوميّ ميتافيزيقيّة؛ بالإضافة إلى أن المنهج المستخدم عنده الفينومينولوجي وهو تأمليّ https://saudiphilosophy.com/articles/phenomenological 5- المصدر السابق، ص148 6- المصدر السابق، ص263 7- المصدر السابق، ص144 8- المصدر السابق، ص200 9- المصدر السابق، ص215 10- Marrero, R. J., Carballeira, M., Martín, S., Mejias, M., & Hernandez, J. A. (2016). Effectiveness of a positive psychology intervention combined with cognitive behavioral therapy in university students. anales de psicología, 32(3), 728-740. 11- عبد الله المطيري، فلسفة الآخرية: الآخر بين سارتر وليفيناس وبهجة الضيافة (الرياض: دار مدارك، 2021) ص84 12- 84المصدر السابق، ص 13- المصدر السابق، ص91 14- المصدر السابق، ص105-106 15- شايع الوقيان، الوجود والوعي استئناف الفينومينولوجيا (بيروت: دار الرافدين، 2020) ص30 16- عبد الله المطيري، فلسفة الآخرية: الآخر بين سارتر وليفيناس وبهجة الضيافة (الرياض: دار مدارك، 2021) ص110 17- شايع الوقيان، الوجود والوعي استئناف الفينومينولوجيا (بيروت: دار الرافدين، 2020) ص19 18- Knobe, Joshua and Shaun Nichols, “Experimental Philosophy”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.), https://plato.stanford.edu/archives/win2017/entries/experimental-philosophy/