2025-09-18
٢٥ ديسمبر ٢٠١٧
قبل بضعة أسابيع، اكتشفت سطرًا مفاجئًا في ملاحظات محاضرتي. لا أعرف منذ متى كان هناك أو كيف وصل إليها. لا أتذكر كتابته أو حتى رؤيته من قبل. كان السطر يقول: “هدف الحياة عند باسكال، ليس السعادة أو السلام أو الإشباع وإنما العيش”. أعتقد أن هذا السطر قد يكون كتبه معلمي وصديقي هيوبرت دريفوس. توفي بيرت في إبريل عن عمر يُناهز ٨٧ عامًا.
يبدو غريبًا ولو ظاهراً على الأقل، التفكير في أن بيرت قد يكون يتحدث إليّ من القبر. ولعل الأكثر غرابة أن يطل علي من ذلك المكان غير المثالي ليخبرني عن هدف محتمل للحياة. ولكن لو عرفت كيف أكتب ملاحظات محاضراتي فقد يصبح الأمر أقل غرابة.
كما ترى، فأنا أقوم بتدريس بلايز باسكال وهو أحد فلاسفة القرن السابع عشر الفرنسيين، وأدرّس كذلك التقليد الوجودي الذي كان هو من رواده، منذ أن قدّمني بيرت إليهما منذ ما يقارب الثلاثين عامًا. بدأت ملاحظات محاضراتي التي أستخدمها كملاحظات كتبتها عندما كنت طالبًا في دروسه. وعلى مر السنين، نمت هذه الملاحظات وازدادت نضجًا، ليس فقط استجابة لما تعلمته من طلابي، ولكن أيضًا وخصوصًا استجابة للعديد من المحادثات المستمرة مع بيرت. تعقيدات التأثيرات في تلك الملاحظات كثيرة ومتنوعة للغاية لدرجة أنها أصبحت غامضة منذ فترة طويلة. أحيانًا يكون من المفاجئ، حتى بالنسبة لي يكون، اكتشاف ما تحتويه.
مثل هذه المفاجآت رائعة، ولكنها أيضًا محيّرة أحيانًا. في نهاية المطاف، ماذا يمكن أن يعني هذا؟ أن هدف الحياة هو أن نكون على قيد الحياة؟ يبدو ذلك مبتذلًا بعض الشيء، أو حتى مكرراً. ولكن ربما بعد شيء من التفكير، يجد صدى في النفس.
تأمل مثلا كيف يمكن أن تصبح الحياة بلا حياة حقًا. أنت تعلم كيف تكون هذه الحياة: أن تستيقظ وتذهب إلى عملك وتعمل ثم تتناول الغداء ثم تعود للعمل، ثم تتناول شرابًا باردًا وتذهب للنادي الرياضي، ثم تُشاهد التلفاز. لفترة من الوقت قد يعود عليك الروتين بالفائدة والاستقرار، فهو مريح لانتظامه وإمكانية التنبؤ بأحداثه. ولكن سرعان ما تبدو الأيام وكأنها تمتد في خط لا نهائي، من خلفك وأمامك. وفي النهاية، تبدأ في الذبول في داخلها. فهي ليست فقط خالية من المعنى، بل قاسية في إصرارها على كونها كذلك. الحياة التي تعيشها تُعلن أنها لم يعد فيها شيء من الحياة.
هناك على الأقل استجابتان طبيعيتان لهذا الإعلان، لكنها خاطئتان على حد سواء: إما السعي المستمر وراء الجديد أو البحث عن معنى ثابت وأكثر عمقًا لروتينك الحالي. في القرن الثامن عشر، كانت الاستجابة الأولى متمركزة في إيطاليا والثانية في ألمانيا. وما زال أحفادهم مثابرين على نفس النهج حتى اليوم.
يقرر الإيطالي – حيث كان كازانوڤا نموذجًا – أن ما يفتقده في حياته هو العفوية: لقد مات داخل روتينه لأنه يقتل كل رغباته الطبيعية. ليستعيد حياته، يلتزم بشغف بمتابعة رغباته أينما أدّت به. يشرع في علاقات عشق عديدة—علاقات مثيرة ومفترسة!—لكنه في النهاية يترك كل واحد منها إلى غيره. يعيش اللحظة دون أن يهتم بالالتزامات السابقة أو الفرص المستقبلية. تتحول حياته من إثارة جديدة إلى أخرى. وفي النهاية، يصبح معزولًا ومتقلبًا وخاويًا. يؤذي من حوله. يصبح غير قادر على التواصل الحقيقي مع أي شخص وغير متأكد من هويته الحقيقية. ثم يُصاب باليأس.
أما الألماني فيتخذ نهجًا مختلفًا. هل نسميه كانط؟ يقرر أن ما يفتقده هو السبب وراء روتينه. يبحث عن ذلك السبب. يروي لنفسه قصةً، يقدم تبريراً معنوياً لحياته اليومية. ثم يعود إلى الروتين مرة أخرى، مصممًا هذه المرة على العيش مهما كانت الحياة مميتة، ففي الحياة ما يبررها وما يدعو إلى مواصلتها. واجبه أن يفعل ذلك. ولكنه على الرغم من معرفته بالسبب وراء ما يقوم به، لا يستطيع أن يفلت من الشعور بأنه لا يعيش عندما يفعل ذلك. تُعيد الرتابة نفسها. ولا يستطيع الهروب من تأكيدها على نحو لا يرحم على عدم أهميتها. ثم يُصاب باليأس.
نرى ماذا تهدف هذه الاستجابات إلى تحقيقه – الحياة التي يأملون في عيشها – من خلال ملاحظة كيف أنها في النهاية تفشل في تحقيق هدفها. أن تعيش يعني أن يكون لديك شغف كازانوڤا دون عزلته وعدم استقراره ويأسه، أو أن يكون لديك يقين كانط الحازم، دون رتابته وقلة قيمته. في الواقع، ربما أفضل ما يمكن أن نأمله هو أن نشير إلى الظاهرة في غيابها: الحياة هي ما نفتقده عندما يدفع الروتين بنفسه إلى الأمام. ولكن هل يمكننا أن نقول شيئًا إيجابيًا عن ماهيّة الحياة؟
تقديم تعريف كامل لهذه الظاهرة هو بلا شك خارج نطاق تصورنا. ولكن هناك سمتين مميزتين لعدم وضوحها أعتقد أنه يمكن تحديدهما. الأول أن كل مصدر ظاهري للعيش يختفي عند فحصه– فالأرض التي فيها الحياة تتوارى عن أنظارنا. لنأخذ مثالًا بسيطًا: الحب الذي تشعر به وأنت تنظر إلى وجه حبيبك. عندما تكون في حالة حب، أنت حي، أنت على قيد الحياة، العالم بأسره ينبض بالقيمة والمعنى. من الطبيعي أن تريد الإبقاء على تلك الحيوية. لجعلها تستمر إلى الأبد، للعثور على مصدرها. وأين يمكن أن يكون ذلك إلا في وجه حبيبك؟ لذا تظل تنظر. ولكن احترس! أمعن النظر وسينهار شيء ما.
فكلما زاد الحب الذي يثيره ذلك الوجه، وزادت تجربتك المفارقة مع ذلك الشخص، يزداد اعتقادك أنه من غير الممكن أن يكون الوجه، الوجه المتجسّد أمامك، هو في الواقع مصدر الحب. هذه الظاهرة مليئة بأعمق الأسرار، مثل أن يكون الإنسان هو الإله أو الدماغ هو العقل. في نهاية المطاف، كيف يمكن لهذا الشيء اللحمي المادي المكوّن من جلد وأوردة وعضلات ودهون، كيف يمكن لهذه المادة والجوهر البسيط أن يولّد هذه النشوة والإحساس بالحب؟ بالطبع هو يفعل ذلك! لكن كلما نظرت إلى ماهية وجه الإنسان، بدا من الصعب أن يمتلك هذه القدرة على القيام بهذا الأمر المفارق. فموضوع الحب، كموضوع حب، يتلاشى عند النظر إليه. وأساس الحياة يتوارى عن أنظارنا.
السمة الثانية غامضة بالقدر نفسه. عندما تشعر أنك حي حقًا، يبدو أن لماضيك وحاضرك ومستقبلك معنى ماداموا يشكّلون وحدة واحدة كما يفعلون على الدوام. أحيانًا أشعر أنني حي حقًا عندما أقوم، على سبيل المثال، بتدريس طلابي. عندما تسير الأمور على ما يرام، عندما نكون متصلين ومشاركين وتكون القاعة نشطة، ولا أشعر بالحياة لمجرد أننا نتشارك لحظة خاصة معًا. بالنسبة لي، تتميز تلك اللحظة بطابع خاص لأنها تحقق وعداً خفياً منذ أيام طفولتي وشبابي. إنها تصديق لما حدث لي من قبل بنفس القدر الذي هو استعداد لما يأتي بعد ذلك. عندما ترى في طلابك الإحساس بأن ما يحدث الآن سيظل معهم، وسيبقى حيًا كذكرى مستقبلية يمكن أن تدعمهم في لحظة أخرى مختلفة تمامًا عن تلك التي نشاركها الآن، ثم تنبض اللحظة بطاقة لم تكن لتبض بها لو لم نفعل ذلك.
هذا على الأقل معنى من معاني ما كتبه بيرت دون شك عن الحياة في ملاحظاتي حول محاضراته، لأنه جسّد الظاهرة نفسها التي اتحدّث عنها. لقد كانت فصول الدراسة مع بيرت بالنسبة لي أكثر الأماكن حيوية على وجه الأرض. السطر في محاضراتي الذي استدعى انتباهي بعد ثلاثة عقود—ذلك السطر لم يكن كيانًا معزولًا، يشير ويتجه إلى ظاهرة الحياة نفسها التي قدمها بيرت لنا. ذاك السطر هو تجسيد للحياة التي كان تدريس بيرت يحققها ويعدنا بها.
ولكنني بدأت مؤخرًا أتساءل عما إذا كان هناك معنى أكثر حرفية في أن بيرت كان كاتب هذا السطر أيضًا. لا تفهموني بشكل خاطئ. لا أعتقد أنني سمعته يتحدث عن الحياة من قبل، ولا أربط هذه الفكرة بأي أفكار أعرف أنه كان يقول بها. بل لا يبدو لي أنها ترتبط بالسطور الأخرى الموجودة حولها في الملاحظات. ولكن رغم ذلك فأنا متأكد بأن هذا السطر ينبعث منه. لأنه وعلى الرغم من مفاجأة سماع أن هدف الحياة هو أن نبقى أحياء، فإنني الآن أرى أن هذه الرؤية فرضتها علي الحياة التي عاشها بيرت. وفي نهاية المطاف، أليس هذا هو الحال في بعض الأحيان؟ هناك أمور تعلم أنه يجب قولها، وأنها ضرورية، حتى وإن لم تعرف السبب. ولا يتضح إلا في سنوات عمرك اللاحقة ضرورة تلك العبارات وأهميتها. فأنت تنمو فيها أو هي تنمو فيك. أو كليهما.
أليس هذا، في نهاية المطاف، وسيلة أخرى لتكون حيًا؟ إننا نفيض بالكلمات والأفعال والأفكار، في كل لحظة نقول ونفعل ما يبدو أنه واجب علينا، ولكن نادرًا ما نفهم عمق ذلك بشكل كامل، لماذا هو مطلوب منا؟ وفي بعض الأحيان نخطئ فنقول أو نفعل أشياء خاطئة. ولكن في أحيان أخرى نكون على صواب، بل قد نكون بعمق على صواب—فنقول ما هو بالفعل حقيقي—دون أن نعلم أننا على صواب أو نفهم لماذا. وعندما نفعل ذلك يكون لكلماتنا وأفعالنا حياتها الخاصة. فهي تنبع منا ولكنها تتجاوزنا، بل تتجاوز الكلمات حدودها هي.
لذا لو كان بيرت حقًا كاتب هذا السطر، فليس ذلك فقط لأنه كتبه. بل لأنه كذلك دفنه بطريقة ما في ملاحظات محاضراتي، منذ زمن بعيد، ككنز سري. وبقي الكنز هناك لسنوات، لعقود، في انتظار الوقت الذي يمكن أن يبرز فيه ويظهر للحياة. هدية. هدية من بيرت.
وها أنا أعلن عن هديته.
الكاتب: أستاذ فلسفة في جامعة هارفارد ومؤلف بالاشتراك مع هيوبرت دريفوس لكتاب “All Things Shining: Reading the Western Classics to Find Meaning in a Secular Age.
المترجمة: أستاذة مساعدة في الأدب الإنجليزي في كلية الجبيل الصناعية. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
المراجع: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
Waking Up to the Gift of Aliveness
Sean D. Kelly
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”