2025-09-28
١٥ سبتمبر ٢٠١٦
يتفق أغلب الناس على بديهيتين أزليتين: أن علينا السعي جاهدين لبناء حياتنا وفقًا لمقتضيات العقل، وأن الشعور بأن للحياة معنى شرط أساس للحياة الطيبة، ويا حبذا لو تحقق الأمران معًا. فنحن ندرس التاريخ ونقرأ الفلسفة ونلجأ للحكماء سعيًا لتعلم دروس الحياة، ولكن هذه المعارف المكتسبة لا تعادل شعور المرء بأن لحياته معنى.
ومع استحالة تعريف المعنى إلا أننا ندركه عند غيابه، فمن مرت به نوبة اكتئاب يعرف القنوط الناشئ عن شعوره بأن الحياة ليس فيها ما يستحق السعي وراءه وأن كل الحجج مهما كانت ملهمة عاجزة عن ملء هذا الفراغ. ولا تخفى على أحد حكايات بعض الشخصيات الدينية اللذين “ضلوا الطريق” رغم تمسكهم بمعتقداتهم الرسمية الظاهرة.
لا بد لأي بحث فلسفي في القيم والغايات أن يأخذ هذا الواقع النفسي بعين الاعتبار: وهو أن الإحساس العميق بمعنى الحياة هو حالة عقلية لا إرادية كالفرح والاشمئزاز مستقلة عن أقوى الحجج ومقاومة لها، وإذا رامت الفلسفة تحسين الحياة فعليها سد هذه الفجوة بين الشعور والفكر.
يسعى علم الأعصاب إلى التخلص من فكرة العقلانية الخالصة والتأكيد على سيادة النشاط العقلي الباطني فيما يشبه “براعم التذوق العقلي الذاتية”. إذ لا يعتمد الذوق على قوة الحجة بل يتأثر بعوامل مختلفة مثل العوامل الوراثية (يحدد أحد الجينات إذا كنا سنجد طعم ملفوف بروكسل مرًا أم حلوًا) أو العوامل الثقافية، كتلذذ بعض الحضارات بأكل الجنادب المقلية وأدمغة القردة المشوية، وكل من حاول إقناع طفله بأكل طعام لا يحبه يفهم صعوبة التأثير في الذوق. فلو أن للأفكار نكهات متنوعة كالأطعمة يغلب الذوقُ العقلَ في الميل إليها لوقعت الفلسفة في مأزق لاعتمادها أساسًا على العقل وسعيها لاكتساب المعرفة الموضوعية.
ومع جهلنا بطرق تكون الأفكار في الدماغ إلا أننا متأكدون أن كل فكرة تصاحبها حالة عقلية ترتبط بها، فبعض الأفكار جذابة وبعضها مقززة وقد تكون صحيحة أو خاطئة أو واضحة أو سخيفة أو رائعة … إلخ. وهذه الصفات جزء لا يتجزأ من الأفكار مع أنها تنشأ من آليات عقلية مختلفة عن تلك التي تنتج الأفكار ذاتها. فعلى سبيل المثال، تنشأ مشاعر الاشمئزاز والتعاطف والمعرفة من مناطق مختلفة في الدماغ وقد أمكن استثارتها عند متطوعين بالتحفيز الكهربائي حتى دون أن يعي المشاركون حضور فكرة معينة في أذهانهم. وتظهر هذه العلاقة بين المشاعر والأفكار – والتي تشبه علاقة البيضة بالدجاجة – بوضوح في النهج الذي نسلكه عند إصدار الأحكام الأخلاقية.
بيَّن جوناثان هايدت وغيره من علماء النفس أن مواقفنا الأخلاقية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بدرجة تحفيز المناطق الدماغية المسؤولة عن إثارة الشعور بالتقزز والاشمئزاز. فيرى هايدت أن العقل يقدّم تفسيرًا بعديًا للقرارات الأخلاقية المسبوقة بمشاعر إيجابية أو سلبية لا إرادية. تأمّل مثلًا موقفك من الاعتداء الجنسي على الأطفال، أو الامتناع عن زرع كلية لقاتل متسلسل، سيولد كل سيناريو في نفسك درجة من الاشمئزاز أو التعاطف قبل أن يتكون لديك موقف أخلاقي.
ويظهر التأثير العظيم لتكويننا البيولوجي على طريقة تفكيرنا في مجال فلسفة العقل المليء بالمفارقات، فحتى علماء الإدراك الذين كان لهم دور كبير في الكشف عن تحيزاتنا الفطرية ما يزالون مؤمنين بسيادة العقل. لنأخذ مثلًا فرضية بول بلوم أستاذ علم النفس بجامعة ييل، إذ يرى أن الإنسان لا يمتلك إرادة حرة ولكنه مسؤول عن أفعاله لقدرته على التفكير العقلاني الواعي.
ومع ميلي الشديد للنتيجة التي توصّل إليها إلا أن حجّته تحيرني فالدليل المؤيد لقوله بعدم امتلاكنا إرادة حرة ينفي فكرة الاستدلال العقلاني الواعي. أظهر بِن ليبيت، عالم الفيزيولوجيا العصبية في جامعة كاليفورنيا بولاية سان فرانسيسكو، في الثمانينات أن الدماغ يولد نشاطًا كهربائيًا يخص الفعل قبل نصف ثانية تقريبًا من اتخاذ الشخص “قرارًا” واعيًا بتنفيذه. ومع وجود جدل كبير حول تفسير النتائج إلا أن دراسات لاحقة أكدت أن الوعي بإرادة الفعل مسبوق بنشاط دماغي باطني يحتمل أن يشير إلى استعداد الدماغ لتنفيذ الفعل.
ونرى مثالًا على هذا الوهم الزمني في الرياضات السريعة مثل البيسبول والتنس، فيتوهم الضارب أنه لا يتخذ قرار ضرب الكرة إلا إذا رأى الكرة تقترب من اللوح ولكن ضربته في الحقيقة تبدأ بعد مدة قصيرة من انطلاق الكرة من يد الرامي. وينطبق الأمر نفسه على لاعب التنس عندما يعيد كرة مرسلة إليه بسرعة 225 كلم في الساعة، فيسبق الفعل الإدراك الواعي لرؤية الكرة وهي تقترب.
ولعل من المستبعد أن هناك فرقا جوهريا بين الطريقة التي ينشئ فيها الدماغ الفكرة والطريقة التي ينشئ فيها الفعل، فنحن نتعلم عملية التفكير بالتدريج، فنكتسب المعارف اللغوية والمنطق والمعلومات العامة والعادات المجتمعية مثلما نتعلم الأفعال الجسدية كالتحدث والمشي والعزف على البيانو. وإذا تصورنا أن الفكر مهارة حركية عقلية تخضع لتنظيم زمني مشابه للرياضات السريعة فلا يسعنا إلا أن نستنتج أن حرية الاختيار (الإرادة) والاستدلال العقلاني الواعي ليسا أكثر من وهمين مولََّدين بيولوجيًا.
كيف نتعامل مع مفهوم العقلانية إذن؟ من المؤسف التخلي عن مصطلح مفيد في وصف الاستدلال الواضح. فنحن ندرك أن “العقلانية” تتضمن محاولة التجرد من التحيزات والذاتية الفطرية بغية اتخاذ القرار الأفضل، ولكن ماذا لو قادتنا كلمة “عقلاني” لاستنتاجات خاطئة علميًا؟
إننا نصف قرار الضغط على المكابح عند رؤية طفل يركض في الشارع بأنه قرار عقلاني، مع إدراكنا أنه فعل لا إرادي. ولكن لو قامت سيارة ذاتية القيادة بنفس الفعل فلن نصف تصرفها بالعقلاني. فمن الواضح أن الاختلاف في وصف الأفعال بالعقلانية لا يعتمد على الطريقة التي اتُخذ بها الفعل ولكن بالصورة التي نرغب في رؤية أنفسنا بها في علاقتنا بالمخلوقات الأخرى، بل وحتى بالآلات الذكية.
من الصعب تخيل مصير الفكر الحديث إذا تخلينا عن مفهوم العقلانية. قد يملأ المنهج العلمي جزءًا من الفراغ. لقد تمكن العلماء في فيزياء الكم من إثبات نظريات معارضة للحدس، لكن الأساليب التجريبية تقف عاجزة أمام المفاهيم المجردة غير القابلة للقياس والغامضة لغويًا مثل الغاية والمعنى، فلا عجب أن عالمًا بارزًا مثل ستيفن هوكينج Stephen Hawking قد أعلن مبتهجًا “موت الفلسفة”.
فالتحدي الأكبر أمام الفلسفة من الآن فصاعدًا هو أن تواكب الركب مع اعترافها بأننا نحن البشر – كغيرنا من مخلوقات المملكة الحيوانية – كائنات تتخذ قرارات ولسنا فاعلين عقلانيًين، وأن أكثر استنتاجاتنا منطقية حول الأخلاق والقيم مستحيلة الإثبات علميًا أو البقاء في مواجهة الزمن. (وكل من تسول له نفسه الاعتقاد بثبات الحقائق غير القابلة للاختبار أن يأخذ العبرة من تاريخ العلم).
إلا أنني مع ذلك أكره التخلي عن بديهيات مثل “اعرف نفسك” أو “الحياة دون اختبار لا تستحق العيش”. فالعقل يمنحنا منظورًا جديدًا، مثلما يكشف لنا الاستماع لمقطوعة موسيقية عن ألحان وإيقاعات كانت مجهولة ومثلما تمنحنا مراقبة أعشاش النمل تقديرًا مفاجئًا لتناغمات الطبيعة. ولا تعتمد صور التفكّر هذه على المنطق والإثبات ولكنها من ضروب الإدراك.
الكاتب: الرئيس السابق لقسم طب الأعصاب في المركز الطبي لجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو—ماونت زايون. ومؤلف كتاب “حول اليقين: الاعتقاد بأنك على حق حتى عندما لا تكون كذلك” وكتاب “دليل إلى المتشكك إلى العقل: ما يمكن لعلم الأعصاب أن يخبرنا به وما لا يمكنه أن يخبرنا به عن أنفسنا”.
المترجمة: مترجمة حاصلة على ماجستير في دراسات الترجمة من جامعة أدنبرة، متخصصة في ترجمة النصوص الفلسفية، وعضوة في جمعية الفلسفة.
المراجع: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
A Life of Meaning (Reason Not Required)
Robert A. Burton
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”