٩ يونيو ٢٠١٣
قال يوجي بيرا Yogi Berra لاعب كرة البيسبول ومدرب الدوري الرئيسي السابق ذات مرة: يستحيل أن تضرب وتفكر في الوقت نفسه، ولكن بما أنه قال أيضًا: “لم أقل حقًا كل ما قلته”، فلا ندري إن كان من المناسب الأخذ بتصريحاته، ومع ذلك فإن وجهة النظر الشائعة – في المجلات الأكاديمية والصحافة الشعبية – هي أن التفكير أثناء العمل يؤثر في الأداء، فإذا أتقنت عزف لحنٍ على البيانو أو رمي كرة جولف أو ركن السيارة في موقف طولي فسيؤدي بك الانتباه إلى أفعالك إلى ارتكاب الأخطاء أو العجز التام عن الأداء، وكما كان يقول مصمم الرقصات العظيم جورج بالانشين لمتدربيه: “لا تفكر يا عزيزي، افعل فحسب.”
ولعلك اختبرت هذه القوة المدمرة بنفسك، فكّر في كيفية حمل كوب مليء بالماء دون سكبه وسينتهي بك الأمر إلى إهراقه. كيف تبدأ محادثة هاتفية؟ إذا انشغلت بالتفكير في الأمر فلن يسمع متلقي المكالمة سوى أنفاسك المتسارعة وسيغلق الخط. يقول الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي إن لأفعالنا كفاءة “سحرية” ولكن ما إن نركز عليها حتى تتحول إلى مهزلة، وقد صاغ ديف هيل – وهو لاعب جولف فاز 13 مرة في جولة جمعية لاعبي الجولف المحترفين – الفكرة كما يلي: “يشبه لعب الجولف ممارسة الجنس، إذ يستحيل التفكير في آليات الفعل أثناء الأداء.”
ولكن لمَ لا؟
كثيرًا ما يُستشهد بدراسة كلاسيكية أجراها تيموثي ويلسون وجوناثان شولر لدعم الفرضية القائلة بأن الخبراء يؤدون أفضل أعمالهم إذا تصرفوا بتلقائية تابعين حدسهم دون التفكير في أفعالهم أثناء أدائها بل بفعلها فحسب. قسمت الدراسة المشاركين وكانوا طلابًا جامعيين إلى مجموعتين، ثم طُلب من المشاركين في كلتا المجموعتين تصنيف خمس علامات تجارية من المربى من الأفضل إلى الأسوأ، وطُلب من إحدى المجموعتين بيان أسباب تصنيفهم. اتسقت أحكام المجموعة التي طُلب منها التصنيف فقط فيما بين أعضائها وبالمقارنة مع أحكام خبراء في تذوق الطعام، أما تصنيفات المشاركين في المجموعة الثانية فلم تكن متسقة فيما بينها ولا بالمقارنة مع تفضيلات الخبراء. ما تفسير هذا؟ افترض الباحثون أن المشاركين الذين شرحوا أسباب اختياراتهم فكروا فيها أكثر، ولكن خبراء تذوق الطعام قدموا تصنيفات دقيقة مع توضيح أسباب اختياراتهم، لذا نستنتج أن سوء الاختيار لم يكن بسبب التفكير بل الافتقار إلى التدريب على كيفية التفكير.
ومع حاجة الرياضيين المبتدئين إلى التفكير فيما يفعلونه إلا أن عالمة النفس سيان بيلوك من جامعة شيكاجو في كتابها Choke تقول إن على الخبراء في المواقف العادية أن يمتنعوا عن ذلك لأن “التفكير العميق يمكن أن يوقعهم في ورطة”، واستنادًا إلى التجارب التي أجرتها وزملاؤها خلصت إلى أن الأوضاع التي يتعرض فيها الخبراء للضغط تدفعهم للتفكير في أفعالهم مما يؤدي بهم إلى العجز أو “الشلل التحليلي paralysis by analysis” وللحيلولة دون وقوع هذا تنصح سيان “باللعب دون تفكير.”
ولكن خلافًا لنتائج بيلوك، بدل أن يتوقف الخبراء عن التفكير في أفعالهم يظهر أنهم أحيانًا على الأقل يتفادون مشاكل الأداء الناتجة عن الضغط العالي بالتركيز العميق على تفاصيل حركاتهم، فعندما يركز العقل تركيزًا تامًا على زاوية الضربة أثناء لعب الجولف لا يترك مجالًا لتوتر الأعصاب المؤدي للعجز عن الأداء.
تشير الدراسات إلى أن الخبراء يزيدون تركيزهم على المهمة التي يؤدونها حتى يتأقلموا مع الضغط، فخذ مثلًا الدراسة التي أجراها آدم نيكولز عالم النفس الرياضي بجامعة هال، حيث طلب من نخبة من الرياضيين المحترفين أن يدونوا الضغوطات التي يتعرضون لها واستراتيجيات التأقلم التي استعملوها أثناء اللعب، ومع ضيق نطاق هذه الدراسات إلا أنها تبين أن مضاعفة التركيز والجهد من الطرق الشائعة للتعامل مع الضغط، وقد أخبرني نيكولز لما سألته عن هذا الموضوع “إن زيادة الجهد استراتيجية فعالة تعين اللاعبين.”
ولنا أن نتساءل ما إن كان الرياضيون أو غيرهم واعين تمامًا لما يحدث في عقولهم، تتفادى بيلوك غالبًا هذه المشكلة لأن أساليبها موضوعية نسبيًا، فمثلًا في إحدى الدراسات قاست بمساعدة فريقها البحثي دقة رميات الجولف عند تشتت اللاعبين مقارنة بدقتها بعدما طلب منهم أن يركزوا فيما يفعلونه، ولا يعتمد هذا الإجراء على تقارير ذاتية، إلا أن هناك مقايضة بين زيادة الموضوعية وما يدعوه الباحثون “الصلاحية البيئية ecological validity”. فعمل نيكولز وإن كان أقل موضوعية إلا أنه أصلح بيئيًا لأنه يدرس الخبراء في بيئة واقعية، ولا يطلب منهم إلا أن يتصرفوا على عادتهم، أما بيلوك ففي دراسة خلصت إلى أن “الأداء المُتقن الناتج عن التدريب قد يتأثر بالتفكير في تنفيذ المهارة” كانت قد طلبت من المشاركين أثناء رميهم لكرات الجولف أن يقولوا “توقف” بصوتٍ عالٍ في اللحظة التي يتمّون فيها الضربة، وبالطبع أثر هذا على أدائهم، ولكن خبراء الجولف لا يركزون عادة على اللحظة التي يتمّون فيها الضربة، بل إنهم إذا ما فكروا في أفعالهم يركزون على الأمور المهمة، ولعل هذا الطلب في الواقع شتتهم أكثر من أي مشتت آخر متعمد في تلك الدراسة.
إضافة إلى ذلك وعلى العكس من دراسات بيلوك التي كان مشاركوها طلاب الجامعات، عمل نيكولز مع خبراء مهنيين، وتكمن أهمية هذا كما رأينا في تجربة ويلسون وسكولر في أن الخبير يملك القدرة على التفكير واللعب في الوقت نفسه على العكس من طالب الجامعة الذي لا تزيد خبرته عن سنتين بل ساعتين أحيانًا.
ومع أن فيلسوف جامعة كاليفورنيا في بيركلي هوبير دريفوس يستلهم أفكاره من ميرلو بونتي ومارتن هايدجر أكثر من الدراسات التجريبية إلا أن استنتاجاته تتفق مع بيلوك، فقد صرح منذ زمن طويل بأن “الفكر عدو الخبرة” وأن ذروة الأداء البشري تظهر في الأعمال السلسة العفوية التي تتلاشى فيها الذات. وفي مناظرة نشرت في مجلة “إنكوايري Inquiry” مع جون ماكدويل وهو فيلسوف بجامعة بيتسبرغ، يقول دريفوس: أن هوميروس كلما وصف أبطاله في وليمة فإنه لا يقول إنهم يمدون أيديهم لأخذ الخبز من السلال أو الكؤوس للشرب بل يقول إن “أيديهم انطلقت قاصدة الطعام الممدود أمامهم.” وهذا ما يحدث مع لاعب الشطرنج الماهر فإن “يده تمتد وتنفذ الحركة قبل أن يدرك أماكن القطع على الرقعة.” ومثل الرامي المحترف في كتاب يوجين هيريجل “الزن وفن الرماية Zen in the Art of Archery” فلا أوديسيوس في حفل العشاء ولا لاعب الشطرنج الماهر يحركان يديهما بل إنها “تنطلق”.
لعل أفعالنا المعتادة مثل الأكل – خصوصًا عند اشتداد الجوع بعد المعركة – تحدث لنا بمعنى من المعاني، ولكن ماذا عسانا نقول عن محترف الشطرنج وهو ينهي لعبة محكّمة؟ يقول دريفوس أننا نتعلم من ميرلو بونتي وهايدجر “أننا لسنا منفتحين مباشرة على العقلاني أو المفاهيمي… [ولكن] على “إغراء القدرة” – مثل إغراء تفاحة في حالة الجوع.” ولكن عيب هذه الصورة بالنسبة للشطرنج هو أن التفاحة المغرية مسمومة على الأغلب، وفي هذه الحالة سيقودك التخلي عن العقل إلى فخ الخصم مباشرة.
يشير كتاب “كل الأشياء المتلألئة: قراءة الكلاسيكيات الغربية للعثور على المعنى في عصر علماني” إلى أن الأداء المثالي يحدث ولا يُحدثه الفرد، وفيه يقول المؤلفان دريفوس وشون كيلي من جامعة هارفارد أن ترك النفس تنجرف مع الأفعال هو مفتاح عيش حياة ذات معنى، فالحياة تسمو وتعلو مكانتها في الحالات التي تسيطر علينا فيها الأوضاع، ولكن هل هذا صحيح؟ لا شك أن سؤال “ما معنى الحياة؟” سؤال كبير، ولكن إذا تضمنت الإجابة تطوير إمكانات الإنسان وهو ما ذكره إيمانويل كانط في “تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق” على أنه واجبنا لتنمية “استعداداتنا حتى تكمُل” وهو واجبٌ ينطوي على صراع حسب رأيه، ففي هذه الحالة لا ينفع الرأي القائل أن على الخبير ان يقف متفرجًا ويترك الأفعال تحدث.
أتذكر كيف بدت لي الفلسفة صعبة عندما كنت طالبة في جامعة بيركلي، كنت أدرس نظرية المعرفة على يد باري ستراود حينها وكنت محبطة فذهبت إلى مكتبه وسألته: هل سيصبح الأمر أسهل؟ فأجابني: كلا، فكلما تقدمت أكثر ستتعاملين مع مشكلات أصعب. ومع أنها لم تكن الإجابة التي تمنيتها إلا أنها كانت إجابة منطقية، فقد التحقت بالجامعة بعد عملي راقصة باليه وكنت أعلم أن رقص الباليه لا يصبح أسهل بل أصعب لأنك كلما تطورت زادت معاييرك صرامة لما يرضيك من أداء وقدرتك على تقييم رقصك فتجد عيوبًا لم تلاحظها سابقًا، وكما في محاورة الدفاع لأفلاطون الذي تظهر فيه حكمة سقراط لعلمه بجهله، فإن ما يسمح للراقصين بالتقدم إلى مستويات عالية هو قدرتهم على التعرف على مواطن النقص.
ولكن لا تفيد هذه القدرة إلا إذا امتلك الإنسان رغبة قوية ومستمرة في التحسن، ولعل هذه الرغبة التي يسميها اليابانيون “كايزن Kaizen” تفوق المهارة أهمية في تحويل المبتدئ إلى خبير، وقد امتلكت كمًا هائلًا من الكايزن، أنا وجميع الراقصات اللاتي عرفتهن، كانت محفورة في جسدي وعقلي حتى أن كل درسٍ وتمرين وأداء كان يهدف جزئيًا إلى تطوير ذاتي، ويتطلب التطوير جهدًا هائلًا خاصة بعد اكتساب مهارة عالية، وأحيانًا يكون الجهد جسديًا – فالرقص ولا شك يتطلب جهدًا بدنيًا يفوق الفلسفة – ولكنه أيضًا يتطلب التركيز والتفكير والتروي وقوة الإرادة.
يعترف الفلاسفة وعلماء النفس الداعين إلى شعار “افعلها فحسب” بأن على المؤدين والرياضيين في الحالات النادرة التي يحدث فيها خطأ أن يركزوا على أفعالهم، ولكن مع ندرة الأخطاء من وجهة نظر الجمهور إلا أن المحترف يراها كثيرة جدًا. تقول لين سيمور وهي راقصة سابقة في فرقة الباليه الملكية أنها عندما رقصت مع رودولوف نورييف في فيلم “أنا راقصة” لم تجرؤ على مشاهدته: “تقتلني مشاهدة رقصي”.
إننا نرضى عن أدائنا المتواضع عندما نصنع قهوة الصباح أو نربط أحذيتنا أو نقود السيارة إلى العمل، ومن السهل أن نرى الميزة التطورية لدى الناس القادرين على التفكير في أشياء مهمة أثناء الأنشطة الروتينية مثل التزين، ولكن توجد فروقات هائلة بين الأفعال اليومية وأفعال الخبراء، فبالنسبة للاعب جولف في بطولة الولايات المتحدة المفتوحة أو راقصة على خشبة دار الأوبرا الملكية لا شيء أهم من المهمة الحالية.
لعل ادعاء ديف هيل بأن لعب الجولف مثل ممارسة الجنس وأن الانتباه إلى الأداء يعيق أفعال الخبراء صائب، ولكن فقط لأن كلًا من الرغبة الجنسية ورغبة الخبير في التفوق طاغيتين، والتفوق في مثل هذه المجالات التنافسية مثل الجولف الاحترافي لا يتطلب فقط تكرار ما يفعل عادة بل تقديم أداء يتفوق على أي أداء سابق، ولكن يتعذر أن يكون هذا الأداء تلقائيًا.
يقال إن “نايكي” قصدت من استعمال شعار “افعلها فحسب” معنى قريبًا من “كفاك مماطلة، تحرك وأنجز العمل” وأنا أؤيد هذا الشعار بهذا المعنى، ولكن إذا فسِّر بمعنى “يؤدي الخبراء أداء أفضل عند امتناعهم عن التفكير في أفعالهم” تبدو لي الفكرة أسطورية.
ولو كان الأمر كذلك فإن الشعبية الهائلة للكتب التي تعلمنا إتقان الشطرنج أو إبرام صفقة تجارية أو التفوق في التربية دون جهد أو تفكير أو انتباه تستند إلى تفضيلنا للكفاءة “السحرية” بدل العمل الجاد، فقد وصلت هذه الكتب إلى قوائم أفضل الكتب مبيعًا للسبب نفسه الذي نجحت فيه كتب الحمية الداعية إلى تناول الكميات التي تريدها من الطعام طالما امتنعت عن فئة عشوائية من الأطعمة، وذلك ليس لنجاح هذه الطرق ولكن لسهولة تطبيقها.
أما بالنسبة للادعاء القائل بأن بالانشين طلب من راقصاته الامتناع عن التفكير فإني سألت فيوليت فيردي عن هذا الأمر، وكانت راقصة رئيسية في فرقة باليه مدينة نيويورك لمدة 18 عامًا تحت إشراف بالانشين، فقالت: ” ما كان يقول هذا إلا إذا شعرت إحدى الراقصات بالعجز التام، مثل مصعد عالق بين طابقين.”
الكاتبة: أستاذة مشاركة في الفلسفة في جامعة مدينة نيويورك، ومؤلفة كتاب سيصدر قريباً عن دار نشر جامعة أكسفورد يتناول التفكير والجهد في العمل المتقن.
المترجمة: مترجمة حاصلة على ماجستير في دراسات الترجمة من جامعة أدنبرة، متخصصة في ترجمة النصوص الفلسفية، وعضوة في جمعية الفلسفة.
المراجع: مؤلف ومترجم سعودي.
“The Myth of “Just Do It
Barbara Gail Montero
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”