تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٦ أكتوبر ٢٠١٠
في سنة ١٩٧٤ سبق الفيلسوف الشاب من هارفارد روبرت نوزك فيلم الماتركس قائلًا:
تخيل أن هناك آلة للخبرة يمكن أن تمنحك أي خبرة ترغب فيها. يستطيع عالِم أعصاب خارق القدرة أن يُحفِّز دماغك بحيث تُفكِّر وتحسّ بأنك تكتب رواية عظيمة أو تتعرف على صديق جديد أو تقرأ كتابًا مثيرًا للاهتمام. ستكون طوال ذلك الوقت تطفو في حوض والأقطاب الكهربائية موصولة بدماغك. هل سترتبط بهذه الآلة لما تبقّى من حياتك بحيث تبرمج خبرة حياتك كما تشاء؟ مع العلم أنك لن تعلم أنك في الحوض حين تكون فيه، ستعتقد أن تلك الخبرة تحدث فعلًا.. هل ستشبك دماغك في تلك الآلة؟ (الأناركية والدولة واليوتوبيا، صـ٣).
تشير تجربة نوزك الذهنية -أو حتى فيلم الماتركس- إلى فرضية مثيرة للاهتمام: السعادة ليست حالة ذهنية. سؤال: ما السعادة؟ هو أحد الأسئلة الغريبة التي يسألها الفلاسفة ومن الصعب جدًّا الجواب عليه. لا تتفق الفلسفة، باعتبارها مجالًا معرفيًّا، على هذا السؤال. ولا ننسى أن الفلاسفة مجموعة من الناس الذين لا يتوقفون عن الاختلاف بطبيعتهم وبطبيعة تأهيلهم الفلسفي. ولكن صعوبة السؤال تكمن في نوع من الانحياز حول قضية: لأيّ أنواع الأشياء تنتمي السعادة. أودّ هنا أن أشخِّص المشكلة وأقترح تصحيحًا لها.
تطلب منّا تجربة نوزك الذهنية أن نتخِذ قرارًا حول ظرف محتمل. إذا كانت الأمور بهذا الشكل أو ذاك ماذا ستفعل؟ هل ستشبك دماغك في الجهاز؟ يتجاهل بعض الناس هذا المثال باعتبار أنهم يعتقدون أن فكرة مثل هذا القرار المتعلقة بالمواقف الافتراضية غامضة ولا تكشف عن شيء. “كل هذه الأفكار افتراضية ولا تهم أحد! لا بد أن نكون واقعيين”. ولكن واقعة أن السيناريو افتراضي لا تجعل منه غير قابل للتقدير أو أنه بلا قيمة. قارن مع هذه الحالة البسيطة: لنفترض أن هناك حريقًا في المبنى الذي تعيش فيه وأنت بين خيار إما أن تنقذ جيرانك الذين سيعلَقون في الحريق لو لم تنقذهم بجرّهم للخارج أو أن تنقذ قلمك بالإمساك به بقوة وأنت في طريقك للهرب. الفرضية هنا أنك لا تستطيع أن تقوم بالأمرَيْنِ معًا. ماذا ستفعل؟ أتمنى أن تكون الإجابة سهلة. وهذا هو المقصود: بإمكاننا أحيانًا الإجابة على تلك الأسئلة الافتراضية بشكل سهل. يُعرض عليك موقف وتُسأل هل ستفعل هذا أم ذاك؛ تقوم أنت بالتعاطي مع الموقف الافتراضي وتعطي إجابتك. هذه هي الحالة مع مثال نوزك.
هل ستشبك دماغك في الجهاز؟
أعتقد أنه بالنسبة إلى كثير منّا ستكون الإجابة بلا. مورفيوس ونيو وجماعة الثوّار هم أبطال فيلم الماتركس. وسايفر الذي يُنجِز الاتفاقات مع العناصر هو الخبيث. وكما هو الحال في مثال الحريق أعلاه وما ستكون أولوياتنا فيه وكيف يساعدنا ذلك على فهم معايير القيمة لدينا فإن مثال جهاز نوزك يمكن أن يساعدنا على معرفة شكل السعادة التي نبحث عنها.
إذا رفضنا ربط دماغنا بآلة نوزك فإننا نعبّر عن اعتقادنا العميق بأن ما سنحصل عليه من تلك الآلة ليس هو القيمة الأعلى التي يمكن الحصول عليها. ليست هي ما نريده فعلًا بغض النظر عن ما نعتقد فيما لو ربطنا أدمغتنا بتلك الآلة. لن تُحقِّق لنا الحياة في تلك الآلة ما نسعى له عندما نبحث عن الحياة السعيدة. هناك فرق مهمّ بين أن يكون لديك صديق وبين أن تحصل على خبرة أن يكون لديك صديق. وهناك فرق بين كتابة رواية عظيمة وبين الحصول على خبرة كتابة رواية عظيمة. في الآلة لن نقوم بتربية أطفالنا ولن نشارك حبنا مع شريكنا ولن نضحك مع صديق ولن نبتسم للأغراب ولن نرقص ولن نسجل الأهداف التي نحب ولن نركض في الماراثون ولن نتوقف عن التدخين ولن نخفف من أوزاننا في الصيف. إذا شبكنا أدمغتنا بالآلة سنحصل على شكل من الخبرة التي يحصل عليها الناس الذين حققوا بالفعل تلك الأمور ولكن تلك الخبرة ستكون بطريقة ما غير حقيقية وكأنها سراب فكري.
بالتأكيد إن الفَرق سيضيع عليك فيما لو ربطت نفسك بالآلة، ذلك أنك لن تعلم أنك لست صديقًا لأحد. لكن اللافت هو أنه حتى تلك الحقيقة ليست مطمئنة بشكل كافٍ. على العكس فهي تضيف إلى رعب ما هو محتمل. سنكون جهلةً بشكل عميق ومخدوعين. لن نعاني من ألم الوحدة وهذا أمر جيد. ولكن سيكون من الأفضل لو لم نكن مضللين بشكل كامل إذا كان خبرتنا في الصداقة كانت هي الأمر الأصيل.
لتبسيط هذه الفكرة أقول: إن مشاهدة ابنك يلعب كرة قدم لأول مرة أمر عظيم ليس لأنه يُنتِج خبرة ممتِعة بل على العكس إن ما يجعل الخبرة ممتعة بالعادة هو أنها خبرة مشاهدة ابنك يلعب كرة قدم لأول مرة في حياته. صحيح أنها خبرة ممتعة بشكلٍ يُفقِدك توازنك ولكنه من المهم أن ذلك الشعور هو استجابة للواقع: الشعور بحد ذاته هو النوع الخطأ من الأشياء الذي نربطه بالحياة السعيدة.
السعادة أشبه بالمعرفة منها بالاعتقاد. هناك كثير من الأمور التي نعتقد بوجودها ولكننا لا نعرفها. لا تتعلَّق المعرفة بك أنت فقط، فهي تتطلب تعاون العالَم المحيط بك باعتبار أنك قد تكون مخطئًا. إلا أنه حتى ولو كنت مخطئًا فإنه بإمكانك أن تعتقد ما تعتقد. المتعة مثل الاعتقاد في هذا الأمر. ولكن السعادة لا تتعلَّق بك أنت فقط فهي تتطلب تعاون العالَم من حولك. تشبه السعادة المعرفة وعلى خلاف المتعة والاعتقاد فهي ليست حالة ذهنية.
هنا إحدى النتائج المثيرة لهذا المنظور عن السعادة. إذا لم تكن السعادة حالة ذهنية، وإذا كانت السعادة شكلًا من أشكال رقصة التانقو بين مشاعرك من جهة والأحداث والأشياء في العالم من جهة أخرى فإن هناك إمكانية أن يكون هناك خطأ في كونك سعيدًا. إذا كنت تعتقد أنك تمر بخبرة لذّة أو ربما ألم فإنه من المحتمل جدَّا أن ذلك صحيح. ولكن رؤيتنا عن السعادة هنا تتيح إمكانية أنك “تعتقد أنك سعيد ولكنك لست كذلك”.
إحدى الطرق المناسبة للتفكير في السعادة وهي الطريقة التي نجدها بالفعل عند أرسطو هي في مفهوم “الازدهار Flourishing”. انظر إلى أحد الناس المزدهرين في أعمالهم الجديدة أو المزدهرين بمناسبة تخرجهم من الجامعة. دلالة التعبير هنا ليست أن لديهم مشاعر جيدة ولكن أنهم على سبيل المثال أنجزوا أمرًا ما وأنهم يحصلون على المتعة المناسبة لذلك الإنجاز. لو كانوا جالسين في البيت يلعبون ألعاب الفيديو طوال اليوم، حتى ولو كان هذا الأمر يعطيهم شعورًا ممتعًا جدًا وحتى ولو لم يشعروا بالقلق، فإننا لن نقول عنهم إنهم في حالة ازدهار. لن تؤسِّس تلك الحياة على المدى البعيد للحياة السعيدة. أن تعيش حياة سعيدة يعني أن تزدهر.
على النقيض تمامًا نجد حياة مدمن المخدرات. يحصل المدمن كثيرًا على خبرات من اللذة المكثفة ولكن حياته ليست الحياة التي نقدّرها فهي في الغالب وجودٌ مثيرٌ للشفقة. قد يعتقد البعض أن في تلك الحياة آلامها باعتبار أن هذا الشخص مدمن للمخدرات. هناك العلامات الانسحابية وما إلى ذلك وقد يشعر بالضيق بسبب عدم قدرته على التخلص من تلك العادة. ولكن لنفترض أن هذه ليست هي الحالة. لنفترض أن المتعاطي لم يعانِ أبدًا من تلك المنغِّصات وليس لديه ميلٌ إلى أيّ حياة بديلة. بأيّ مقدارٍ سيجعل هذا الأمر حياته أفضل من حياة المدمن العادي؟
قد تكون هذه حياة أفضل ولكنها لن تكون حياة سعيدة. قد تكون حياة أفضل من أشكال أخرى من الحياة المليئة بآلامٍ غير حادة وغير منتهية. اللذة البسيطة أفضل من الألم بالتأكيد. ولكن المشكلة في حياة مدمن المخدرات ليست فقط شعوره بالقُنوط الذي يصيبه مع الإحباط. بل مشكلتها كذلك أنه حتى عندما يشعر المدمن باللذة فإن تلك اللذة ليست واقعةً ذات دلالة بالنسبة إلى المدمن؛ فاللذة ليست سوى شعور يُمكِن أن نتخيّل أن الحيوان قد يستمتع به. الحصول على السعادة أصعب من هذا. تستمتع بالسعادة بعد القيام بعمل ما أو في حضرة آخرين تحبهم أو بعد الاتصال بعمل فني بارز. تلك الحالات التي تتطلَّب منّا أن ننخرط في أنشطة حقيقية خاصة نلتقي فيها بأشياء حقيقية نستجيب لها. وحتى حينها فإنه لا يجب علينا أن نتجاهل السعادة المتواضعة التي ترافق الفخر في الانخراط الصافي حتى مع الظروف الصعبة جدًّا.
نكره أن نتخلى عن سيطرتنا على الجوانب الأكثر أهمية في حياتنا. والنظر للسعادة على أنها موضوع لمؤثرات خارجية يحُدّ من تحكُّمنا ليس فقط بمعنى أن العيش بسعادة مرتبط بكيفية سير الأمور، ولكن كذلك بمعنى أن معنى السعادة مرتبط جزئيًّا بكيفية سير الأمور فيما يتجاوزك. يمكن أن نقوم بكل ما نستطيع لنعيش بسعادة ونقوم بكل ما يتطلَّبه الأمر من جهتنا لتحقيق تلك السعادة من الأفكار المناسبة والمشاعر المناسبة ولكن الأمر قد لا يتحقَّق ودون أن نعرف سبب ذلك. تلك الفكرة خطيرة ولكن يجب علينا أن نكون شجعانًا فالشجاعة الفكرية على ذات أهمية أنواع الشجاعة الأخرى.
الكاتب: أستاذ لوان ولاري تمبل للإنسانيات في جامعة تكساس في أوستن، حيث يترأس قسم الفلسفة. وهو محرر لمجلة الفلسفة التحليلية ومؤلف لعدة مقالات. حاليًا يعمل على إتمام كتاب بعنوان “جدول محتويات” حول كيفية إدراكنا للعالم.
المترجم: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.
The Spoils of Happiness
David Sosa
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”