2025-06-09
سلطان الخالدي
من بين مختلف المنظومات أو الرؤى الأخلاقية ربما تكون الأخلاق المتعالية هي أسوأ نموذج أخلاقي، ما الذي أعنيه بـ “أسوأ” هنا؟ ما أعنيه هو بالضبط ما يشير إليه حدسك، ما يثير الإرباك في هذه الأخلاق المتعالية -كما سنرى- يأتي من حقيقة أنها متوهمة على نحو خطير. الآن علينا أن نشير للمعنى الذي أقصده حين أقول “أخلاق متعالية” إني بذلك أشير لمجموعة من النُظم الأخلاقية التي تتجاوز الواقع وما يدور في فلكه من نتائج مؤكدة أو محتملة ولا تستمد مشروعيتها منه حين تؤسّس للأخلاق، لذلك دعونا نضع الفلسفات الأخلاقية التي يصعب تطبيقها لشدة مثاليتها جانباً، إذ أنها يمكن أن تكون ذات صلة بالواقع.
في المنظومات الأخلاقية هنالك صنفان أساسيان لهما اتصال بما أسميه “الأخلاق المتعالية”، الصنف الأول هي بعض الأخلاق الدينية حيث ما هو صواب وخطأ أخلاقي وكل ما يجب علينا أن نقيّمه يأتي من خارج هذا العالم؛ من بُعد ميتافيزيقي وعلى شكل قيم عليا، أما الصنف الثاني من الأخلاق المتعالية كذلك تحضر القيم وما يُعد صائباً وخاطئاً أخلاقياً مما هو خارج واقعنا ومنفصل عنه، لكن هذه المرة أصبح العقل الحر هو من يقود التصورات الميتافيزيقية،كما هو حال الأخلاق عند إيمانويل كانت، وكلا الصنفين يمتازان بالصفة الأخلاقية المطلقة التي لا تقبل أي استثناء أو تطوّر.
لنتخيّل مشهدًا سأطلق عليه اسم “مشهد الأضحية البشرية” حيث يلتقي شخص يحمل أخلاقاً من الصنف الأول شخصاً آخر يعتقد بالصنف الثاني من الأخلاق المتعالية، لنسمي الشخص الأول (ف) والثاني (ك). هذا المشهد يحدث في القرن الخامس عشر، تحديدًا في ما يعرف حالياً بدولة المكسيك، في ذلك الزمان كانت الديانة الرسمية لدى الشعب هي الأزتك، في هذه الديانة يطالب إله المطر والخصب (Tlaloc) تقديم الأطفال كقاربين، وفي وقت عمّ فيه الجفاف تصاعدت طقوس التضحيات على أمل استدعاء المطر واستقرار المحاصيل، امتازت تلك المدة بالاضطرابات؛ حيث هرب أثناءها كثير من اليافعين من مصير التضحية، في خضم هذه الأجواء التقى المدعو (ف) بالمدعو (ك) وسأله إذا ما كان قد شاهد يافع بعمر العشر سنوات هارب في هذا المكان من الحي، أدرك المدعو (ك) الأمر برمته، فبلحظة تذكر ما رآه قبل بضع دقائق حين مرّ يافع راكض، وبلحظة أخرى لم تعتر خلجات نفسه ذرة شك بأن هذا اليافع -كآخرين- كان هاربًا من قدره، من طقوس التضحية، لكن لم يكن لهذا الإدراك أن يغير المعادلة الأخلاقية لأن المدعو (ك) يؤمن على غرار كانط بأن الصدق خير مطلق، لذلك كان قد أخبر المدعو (ف) بمراده، أشار بإصبعه على الموقع الذي ولج إليه اليافع، دعونا نحسن النية فالمدعو (ك) كان بالواقع قد فكّر بإيقاف هذا الرجل بنفسه بعد أن يصدق معه، لكن من سوء حظه أن امتلك بنية جسدية هزيلة للغاية، مقابل (ف) الذي امتاز ببنية جسدية قوية، هكذا قدّر أن وقوفه بوجهه ربما سيضيف ضحية جديدة على قائمة هذا الرجل البربري قليل الصبر، لم تكن إلا لحظات حتى عاد المدعو (ف) من ذات الطريق حاملاً بيده اليافع غارقاً في بكائه، وبحضور هذا الفتى اكتمل العدد المطلوب، لبدء طقوس التضحية،التي كان يُرغم اليافعين والأطفال فيها على البكاء؛ لأن دموعهم كانت ترضي إله المطر والخصب. دعونا نلاحظ أن “مشهد الأضحية البشرية” الدموي هذا الذي سمح بإقامة طقوس التضحية برمتها لعدد كبير من الأطفال واليافعين ليس -على أقل تقدير- مشهدًا محايدًا، إنه مشهد أخلاقي من منطلق اعتقاد الشخصين من كلا الصنفين؛ حيث يؤمن المدعو (ف) أن أوامر إله المطر والخصب هي الأخلاق وهي تأمره بالتضحية بالأطفال، في حين يعتقد المدعو (ك) بأن الصدق خير مطلق بغض النظر عن الواقع وما يدور في فلكه من نتائج مؤكدة أو محتملة، هكذا فإنه لو قّدر لهذه القصة أن تُروى من وجهة نظر أخرى، ربما من طرف المدعوّين (ف) و/أو (ك)، لَمَا كانت لتسمّى بـ “مشهد الأضحية البشرية” وإنما بالأحرى “المشهد الأخلاقي”.
توضح هذه القصة كيف يمكن أن تتحول الأخلاق المتعالية لما يشبه الأيدولوجيا، تكون فيه هذه الأيدولوجيا هي القيمة العليا التي يجب الحفاظ عليها، ويكون الإنسان وسيلة وضحية للحفاظ على هذه الأيدولوجيا. أتساءل إن تبقى بعد ذلك أي كرامة إنسانية أو معاملة للإنسان كغاية في ذاته؟ ومثلما أُريقت دماء الإنسان واُستخدم كوسيلة لمصلحة غاية إقامة مجتمع مساواتي بلا طبقات في الشيوعية الستالينية، هكذا يكون مصير الإنسان في الأخلاق المتعالية وذلك لمصلحة المبادئ الأخلاقية المتعالية سواءً كانت تطبيق أوامر إله المطر في الصيغة الدينية أو تطبيق أوامر العقل في الصيغة العقلانية.
الحق أن الأخلاق الكانطية أقل انفصالاً عن الواقع وأقل فظاعة مقارنة ببعض الأخلاق الدينية، وربما لا يوجد ما يبرر وضعهم في مكانة واحدة، لكن حقيقة أن الأخلاق الكانطية ذات مبادئ مطلقة لا تقبل الاستثناء تجعلها دوماً قابلة للوقوع في منزلق من هذا النوع؛ ذلك المنزلق الذي يصبح فيه الحفاظ على المبدأ المطلق أكثر أهمية من أي شيء آخر، وهذا يحدث مهما كان المبدأ في ذاته مصمماً لخدمة الإنسان أو لمعاملة الإنسان كغاية في ذاته. ليس لدي أدنى شك في أهمية الصدق أخلاقياً، لكن حين يصبح الصدق مبدأ مطلقاً فلا مندوحة عن مواجهة حالات تستوجب عدم الصدق، ومع ذلك يكون الصدق هو القيمة العليا التي يجب أن نحافظ عليها مهما كانت النتائج مروّعة ومفزعة على غرار ما وقع في مشهد الأضحية البشرية، لاحظ أن ذلك قد حدث على الرغم من أن مبدأ مطلقا من قبيل “قول الصدق” هو مبدأ قد وُضع بالأصل مراعاة للإنسان؛ حتى لا يتلاعب الأشخاص بعضهم ببعض كوسائل لا غايات في حد ذاتها.
رغم كل ما تحظى به الأخلاق الكانطية من نفوذ فإن أيًا من ذلك لم يأتِ من طبيعتها المتعالية،لم يكن ذلك ليحدث لو لم يراعِ إيمانويل كانت النتائج بشكل رائع مع الالتفاف حول هذه الحقيقة، إن أي أخلاق تدعي عدم ارتباطها بالنتائج يجب أن تكون من حيث التعريف مصادمة للنتائج في معظم حالاتها؛ هذا لأن أي اتصال بالنتائج لا يمكن أن يحدث إلا من قبيل الصدفة، والصدف لا تتكرر كثيرًا، وذلك هو واقع الحال مع الصنف الأول من الأخلاق المتعالية -بعض الأخلاق الدينية-، فهي تتصادم مع الواقع ونتائجه أكثر مما تتوافق معه، لأنها -بالفعل- متعالية وغير ذات صلة بالنتائج (فكّر بالأوامر الأخلاقية الفظيعة التي يطالب بها إله المطر والخصب). يحدث عكس ذلك مع الأخلاق الكانطية؛ فحين نعمّم حالة معطاة باستخدام الأمر المطلق (تصرف وفق القاعدة التي تريد لها أن تصبح قانونًا عالميًا) نحصل دائماً على مبادئ ذات نتائج رائعة، ولا تحضر النتائج السيئة إلا في حالات استثنائية لذات المبادئ، كما كان الأمر مع الصدق في مشهد الأضحية البشرية، من منطلق حسابي فالأمر المطلق ذو دلالة إحصائية، فتكرار النتائج الرائعة رغم أن المبدأ الحاكم هو الصدفة -من حيث الارتباط بالنتائج- يقودنا للاستنتاج بوجود سبب حقيقي غير الصدفة خلف ذلك، وهذا السبب هو مراعاة الأمر المطلق للنتائج بالفعل، لاحظ جون ميل ذلك، يقول في مقدمة كتابة النفعية:
“غير أنه عندما يستنبط من هذا المبدأ (تصرف وفق القاعدة التي تريد لها أن تصبح قانونًا عالميًا) أياً من واجبات الأخلاق، نجده قد أخفق بشكل غريب وبشع في تبيان وجود أي تناقض، أي استحالة منطقية (ناهيك عن المادية)، في حصول تبني جميع الكائنات العاقلة قواعد السلوك اللاأخلاقي الشائن([1]).”
لفهم ما يحاول ميل قوله سنقوم بتطبيق عملي للأمر المطلق حيث نعمّم فعل الكذب لنرى ما إن كان فعلاً أخلاقياً أم لا،بحسب كانط لو عممنا الكذب ليصبح قانوناً عالميًا فإن الكذب نفسه سيكون متعذرًا؛ لأن إمكانية الكذب تستوجب احتمالية التصديق، وهذا الأخير لا يكون متواجدًا حين يصبح الكذب قانوناً عالميًا، بمعنى آخر إذا قرر الجميع الكذب دائمًا فلن يثق أحد بكلام أحد، بالتالي لن يكون فعل الكذب ممكنًا؛ لأن الكذب يعتمد على إمكانية أن يصدقك الناس، هذا ما أسماه كانط بالتناقض أو الاستحالة المنطقية التي تجعل فعلاً ما غير أخلاقي، أما ما حاول ميل إثباته هو فشل كانط في تأكيده على وجود هذه الاستحالة؛ لفهم هذا الفشل سنعمد على تقديم مثال: تخيّل أن العالم أصبح أصغر ولم يعد هنالك إلا أنا وأنت أيها القارئ، الآن تصوّر أن الكذب أصبح هو القانون العالمي لكلينا، فسيكون من الممكن أن يستمر كل منّا بالكذب على الآخر دون أن يصدق أحد الآخر، وعدم وجود الصدق لن يؤدي لاستحالة الكذب، هكذا بحسب ميل فإن كانط قد وضع التناقض أو الاستحالة المنطقية التي فشل في إثباتها ليغطي على حقيقة أن هنالك نتائج سيئة إذا ما أصبح الكذب قانونًا عالميًا، يمكن أن نقول الشيء ذاته عن كافة الأفعال السيئة الأخرى، فهي لا تؤدي لتناقض حقيقي لكنها تؤدي لنتائج غير مرغوبة.
علينا ألا نأخذ -بجدية- أي قول أخلاقي يدعي انفصاله عن النتائج لكنه في ذات الوقت يحقق نتائج رائعة باستمرار، وإنه لمن المؤسف أن تعمل الأخلاق الكانطية على النتائج بهذا الشكل الجيد لتُنفي لاحقاً هذا الاتصال ثم تُحسب هذه الأطروحة لمصلحة الأخلاق المتعالية وتشكّل إضافة لها، على الرغم أن كل ما هو جيد في الأخلاق الكانطية آتي من صيغتها العواقبية الضمنية، في حين أن الجزء السيئ الذي يثير النفور والنقد يأتي من تعاليها وانفصالها عن الواقع كما رأينا مع قول الصدق حتى في مشهد الأضحية البشرية. أخبرني صديقي أن كل ذلك غير صحيح، ولإثبات عدم اتصال الأمر المطلق بالنتائج بدأ يشرح الأمر برمته منذ البداية، أخبرني أن اعتراض إيمانويل كانت الأساسي على النفعية والذي جعله يكتب تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق هو أن النفعيين جعلوا الأخلاق تجريبية، بالتالي أصبحت نسبية ومتغيرة من شخص لآخر، وكانط يرى أن الأخلاق لا بد من أن تكون كونية وبالتالي، مطلقة. أتساءل هنا إن لم يكن هذا الاعتراض بمثابة قلق تجاه النتائج التي ستحدث لو أصبحت الأخلاق نسبية ومتغيرة فماذا عساه أن يكون؟
كانط كان محقًا لابد من أن تكون الأخلاق كونية لكنه قد أخطأ حين أعتقد أن ذلك ممكن التحقيق فقط إذا أضحت الأخلاق مطلقة لا تقبل أي استثناء، يمكن أن تشبه الأخلاق لعبة التنس: هنالك مبادئ يجب الالتزام بها عموماً لكنها تسمح باستثناءات مهمة، فإذا أردت أن تلعب التنس بجدارة فهنالك مبدأ اللعب بتقنية (Technique) صحيحة، لكن يمكن أن يكون اللعب بتقنية خاطئة هو الخطوة الوحيدة التي يمكن القيام بها لإرجاع الكرة وكسب النقطة، لكن الحقيقة الماثلة ستظل حاضرة؛ هنالك تقنيات (Techniques) سيئة وأخرى جيدة موضوعياً في التنس([2]).
الواقع هو كل ما هنالك، الواقع وما يدور في فلكه من نتائج مؤكدة أو محتملة هو المجال الوحيد الممكن لتقييم أي أطروحة أخلاقية، لا يوجد شيء في طبيعة مبدأ مثل “معاملة الإنسان كغاية في ذاته” يجعلنا نقبله أو نرفضه، فنحن نقبل هذا المبدأ لأن نتائجه رائعة وهو طريقة جيّدة لصون رفاهنا ورفاه الآخرين، ونرفض المبدأ القائل بوجوب “تقديم الأطفال قربان للآلهة” لأن نتائجه مروّعة، ليس ثمة أي صفة في طبيعة المبادئ الأخلاقية ذاتها تجعلنا نقبلها أو نرفضها، نحن نفعل ذلك بعرضها على الواقع وما تسفر عنه من نتائج أكيده أو احتمالية.
يبدو أن الأخلاق المتعالية مغرمة بمقصلة هيوم (Is and Ought Problem) وتستمد جزءًا من شرعيتها منها، فالواقع لديها ليس دليلاً موثوقاً نستمد منه أخلاقنا كما حاجج هيوم، لذلك تجاوزته لما يُعد أكثر موثوقية من الواقع بالنسبة لها، وعلى افتراض أن هنالك تبريرًا كافيًا للفصل بين ما هو كائن وما يجب أن يكون -رغم أني لا أعتقد بصحة ذلك- فإن اللجوء إلى الميتافيزيقا كأساس للأخلاق لا يمثّل حل لتلك الإشكالية، إنه بالأحرى أقل موثوقية؛ فإذا كانت البيانات التي نستمدها من الواقع -على نحو ما- ليست كافية، وأن القفز منها نحو القيم والأخلاق ينطوي على مغالطة منطقية ومعرفية، فإن أي شيء آخر سيكون أقل كفاءة ومقدرة على التبرير المعرفي والأخلاقي، دعونا لا ننس أن محاجة هيوم موجهة بالأصل ضد التوفيقيين الدينيين الذين سعوا لاستنباط الأخلاق من وجود إله، رغم ذلك وعلى نحو غريب بات اجتياز الأخلاق المتعالية لمحاججة هيوم من المسلمات، في حين تُطالب باستمرار كل أخلاق متصلة بالمعرفة الإنسانية أن تقدّم تبريرًا معرفيًا!
تضمر الأخلاق المتعالية مزاعم حول ما يمكن معرفته، مزاعم لا تقل تعالياً وتوهماً عن مزاعمها الأخلاقية، فالصنف الأول من الأخلاق المتعالية -بعض الأخلاق الدينية- قبل أن تُفصح عن مزاعمها الأخلاقية كانت قد ساقت مزاعم معرفية من قبيل وجود إله المطر والخصب كما في مثالنا، وهذا الإله بحسب زعمها يتواجد داخل الشمس وهو يحتاج للدماء البشرية والقرابين ليستمر في حركة الشمس، لكن لا شيء مما نعرفه عن الطريقة التي يُنظم بها الكون تؤيد ذلك. أما الصنف الثاني من الأخلاق المتعالية -الأخلاق العقلانية، كانط نموذجًا- فهي تسوق كذلك مزاعمها المعرفية الخاصة، يبدأ كانط من التفريق بين الشيء في ذاته والظواهر، فكل ما يتبدى لنا وما نلاحظه هو ظواهر للأشياء، وهذه الأخيرة لا سبيل لنا لمعرفتها كما هي في ذاتها، بذلك يوجه كانط ضربة أولى للواقع والتجربة؛ حيث يُضفي بعدًا لا تجريبيًا للواقع، ثم يردف ضربته الثانية للواقع والتجربة حين يخبرنا بأن حتى الظواهر التي نلاحظها تتشكّل بواسطة العقل بما يتضمنه من فئات قبليّة، هكذا يكون للعقل أولوية على الواقع والتجربة. إذن يجب أن يكون العقل هو المشرّع في الأخلاق، ومهما يكن ما يشرّعه العقل في عالمنا متضادًا مع بديهياتنا الأخلاقية -كالصدق في مشهد الأضحية البشرية أو الصدق مع النازيين وهلم جرًا- لا يجب أن نقلق من ذلك، دعونا لا ننس أن ما نراه في هذا العالم مجرد ظاهرة لا تعكس البعد الأصيل لحقيقة الأشياء، إن هذا الواقع المروّع -الذي يموت فيه حتى الأطفال نتيجة صدقنا مع مقدمي القرابين أو النازيين- هو واقع منقوص في نهاية المطاف، وهذا الواقع للعقل أولوية في تأسيسه؛ لذا؛ علينا أن نكون مخلصين لأوامر العقل الأخلاقية، هكذا اكتملت حبة الدواء التي ستبدد مخاوفنا حيال النتائج المروّعة، لكنها لن تفعل ذلك إلا حين تُصيبنا بهلوسة. يقوّض الادعاء الميتافيزيقي (الأشياء في ذاتها) نفسه، فلا يمكن أن ندّعي وجود شيء في ذاته إلا إذا كشف عن نفسه كظاهرة لنا، وإذا فعل ذلك فإنه لن يعود شيئاً في ذاته بل ظاهرة، هكذا يكون التسليم الأعمى هو الخيار الأخير لإنقاذ الادعاء الميتافيزيقي، ولا أظن أن حجة كهذه مقبولة، هذا إن صحت تسميتها بحجة.
كيف أضحت هكذا نظريات مقبولة أصلاً في السياق المعرفي؟ فضلاً على أن تكون أساساً للأخلاق؟ تخيل فقط أن مريضاً عقلياً مصابًا بالهلوسة يزعم أن هنالك مؤامرات كونية وكائنات لا نراها، باستثنائه هو ربما ستجمع البشرية على تفاهة ادعاءاته المعرفية تلك، بل وخطورته إذا ما حاول فرض ادعاءاته علينا فيما يتعلق بما يجب أن نفعله بصددها (مثل ضرورة نشر الوعي بالمؤامرة والتصدي لها)، رغم ذلك ومن حيث الدليل لا تختلف الادعاءات المعرفية للأخلاق المتعالية عن ادعاءات هذا المهلوس بشيء، سوى أنها أصبحت تتناقل عبر الأجيال بقدسية في الصنف الأول، أو أنها قد وُضعت في قالب عقلاني جعلت حتى الأذكياء ذوي الخيال الخصب يُفتنون بتلك الفكرة التي تسمّى شيئًا في ذاته متجاهلين تبعاتها الأخلاقية كما في الصنف الثاني. هكذا فإن الأخلاق المتعالية هي وهم على وهم، توهّم معرفي يصحبه توهّم أخلاقي، ولا عجب بعد ذلك أن يصبح مشهد الأضحية البشرية مشهدًا أخلاقياً. كيف لا تزعجنا فكرة أن الإنسان يعاني لمصلحة ازدهار الأخلاق المتعالية؟ كيف أقنعنا أنفسنا بأن الأخلاق يمكن أن تكون منفصلة إلى هذا الحد عن الإنسان عوضاً على أن يكون غرضها الإنسان؟ إن أكثر ما يثير الدهشة في هذا الأمر، أن أحدًا ما لا يرى فيه ما يثير الاستغراب.
بودي لو أن كانط قد توقف هنا، ولو فعل لصحّ اعتبار مشروعه المعرفي والأخلاقي عقلي بشكل خالص، لكنه ذهب أبعد من ذلك حتى تماهى مع الأساس الميتافيزيقي للأخلاق الدينية -وهذا سبب إضافي لوضعه في مكانة الأخلاق الدينية-؛ حيث افترض في العقل العملي (الأخلاق) وجود ما لم يستطع العقل المحض في المعرفة أن يثبته، وهذه الافتراضات هي حرية الإرادة، خلود النفس ووجود الله، وقد افترضها كانط حتى تكون الأخلاق مُجدية ومنطقية، فالكانطي شخص لا يجد سعادته في أخلاق الواجب، بل يمكن القول إن ما يجده فيها هو التعاسة، بالتالي من الوارد أن تؤول هكذا أخلاق لضرب من ضروب العبثيّة لو لم يفترض كانط وجود الله الذي تتوافق عدالته مع الأخلاق، وخلود النفس لتلقى مصيرها بحسب عملها الأخلاقي، وحرية الإرادة كأساس للمسؤولية الأخلاقية. أما من الناحية المنطقية فإن هذه المسلمات الثلاث تُنقذ سردية كانط الأخلاقية من مأزق منطقي يواجه كل أخلاق تقوم على المبادئ: إن أي مبدأ لا يستطيع تبرير لِما لا يكون هنالك مبدأ أعلى منه، بالواقع حين نُلقي نظره على المبادئ الأخلاقية نجد أنها تضمر مبدأ آخر أعلى، مشتقة منه، فمبدأ من قبيل “كل إنسان هو غاية في حد ذاته” يفترض مبدأ أعلى من قبيل أن للإنسان كرامة لا يصح أن تُمتهن وأن الإنسان هو كائن مميّز عن غيره. يظل ذلك صحيحًا حتى ولو لم يَظهر أن المبدأ يتضمّن وجود مبدأ أعلى منه؛ لأنه سيكون من الجائز دومًا أن نسأل: لِما معاملة الإنسان كغاية في حد ذاته أهم من غيره من المبادئ؟ سنرى أن المبدأ لا يجد تبريرًا ذاتيًا من نفسه، بل يحتاج لمبدأ أعلى لتبريره، وهذا يؤكد أنه ليس بالمبدأ النهائي. هكذا نكون أمام تسلسل هرمي للقيم والمبادئ لا يتوقف ما لم نضع حدًا لذلك بافتراض مبدأ أو خير أسمى تكون كل المبادئ الأخرى مشتقة منه ولا يكون هو كذلك، بالنسبة لكانط كان الخير الأسمى هو افتراضاته الثلاث: وجود الله وخلود النفس وحرية الإرادة.
حتى الآن أرجو أن تكون قد لاحظت كيف حوّلت الافتراضات الثلاثة أخلاق الواجب الكانطية إلى صيغة عواقبية صريحة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المسلمات الثلاث قد أفضت إلى تحقيق الكمال الأخلاقي، هكذا أدرك كانط أن الأخلاق بلا اعتبار للنتائج لا تجد تسويغًا كافيًا وستكون بالضرورة بعيدة عن الكمال، ولم يكن أول من أدرك ذلك، فالصنف الأول من الأخلاق المتعالية (الأخلاق الدينية) فهمت ذلك من قبله؛ فمن الصعب أن يتخيل المرء أن تقود تلك الأخلاق اتباعها في اقتناع تام لتقديم أطفالهم كقاربين دون أخذ النتائج بالاعتبار، لكن أهم النتائج تحدث بعد الموت. هكذا فإن نظرتنا لما بعد الموت تؤثر على تصرفاتنا تجاه بعضنا البعض في هذا العالم، وبمعنى آخر تقود مزاعمنا المعرفية بوصلتنا الأخلاقية، تخيّل أن الوالدين في حضارة الأزتك كانوا يضحون بأطفالهم فقط لأنهم اعتقدوا أن إله المطر موجود أولاً وأنه يحتاج دماء الأطفال ليستمر العالم يعمل كما هو ثانياً، بل قد فعلوا فعلتهم بكل فخر؛ هذا لأنهم اعتقدوا أيضًا أن الأطفال المضحَّى بهم سيذهبون للجنة. هكذا فإن كل منظومة أخلاقية تنطلق من مزاعم حول ما يمكن معرفته، ويجب أن تقودنا ملاحظة وهن هذه الادعاءات المعرفية بالضرورة لرفض ما يتمخض عنها من أخلاق. ولهذا السبب يقع على عاتقنا التزام أخلاقي بأن تكون معتقداتنا المعرفية مقترنة بالأدلة.
ربما تعجّب بعض القرّاء من وضعي للأخلاق الكانطية في مكانة بعض الأخلاق الدينية تحت مظلة “الأخلاق المتعالية” موجهًا لهما ذات سهام النقد رغم كل ما يتمايزان به من اختلاف (على الأقل من حيث النتائج)، آمل أن يكون موقفي قد اتضح بعد أن استعرضنا هذا التشابه -بين الصنفين من الأخلاق المتعالية الدينية والعقلانية- حد الوصول لوحدة الأساس الميتافيزيقي.
ربما يكون الأمر الوحيد الذي يمكن أن نتفق عليه حين نتحدث عن الأخلاق، هو أنها ذات صلة بالوعي، ودون الوعي لن يكون هنالك أي مجال للحديث عن الأخلاق، لهذا السبب تغيب الاعتبارات الأخلاقية حين نتعامل مع الجمادات (الصخور مثلاً)، وما نعرفه اليوم عن الوعي يُعد ضئيلاً للغاية، ومن البديهي أن يكون لتقدمنا المعرفي في حقل الوعي (فلسفة العقل وعلم الأعصاب) اعتبارات ذات شأن فيما نسميه “الأخلاق”، كان الأمر هكذا دائمًا: جادل ديكارت معتبرًا الإنسان وحده من يملك الروح والوعي، وبالتالي، القدرة على الشعور بالسعادة والألم، ورأى أن الحيوان بمثابة آلة حيّة تفتقر للروح والوعي والقدرة على الألم، وقد ذهب بعيدًا حين جادل بأنها حين تصرخ أو تبدو متألمة فهي لا تشعر بالألم كما نفهمه، إنما تستجيب لقوانين فيزيائية داخلية، تمامًا كالآلات التي تصدر أصوات حين نضغط عليها. من نتائج هذا الاعتقاد أن كان تعذيب الحيوانات وحرقها ورؤيتها تتصارع حتى الموت مظهر من مظاهر التسلية والاحتفال، لاحقاً كان لتطور معرفتنا في حقل الوعي وإقرارنا بوجود وعي حيواني وقدرته على الاستجابة للألم أثر أخلاقي حاسم؛ حيث أضحت مظاهر التسلية بحياة الحيوانات مثار نفور واشمئزاز لإنسان اليوم، لكن الأخلاق المتعالية (أو المتعالمة) ترفض هذا الأساس البديهي؛ هذا لأنها قد رسمت الخارطة الأخلاقية بالكامل قبل أن نعرف بمئات وربما آلاف السنين كل ما يمكن معرفته عن الوعي، وبالنسبة لها لا شيء مما سنعرفه عن الوعي سيغيّر المعادلة الأخلاقية، لقد أصبحنا في مواجهة شوفينية أخلاقية([3]).
رغم كل ما تحمله النتائج من بداهة إلا أنه من المدهش بالمقابل أن نرى العواقبية منحسرة في الدوائر الفلسفية، ليس لدي شك في أن النفعية الكلاسيكية سبب ولو جزئيًا في هذا الانحسار؛ هذا لأنها كانت تراعي بشكل فج النتائج القريبة والسطحية والأنانية، ولأنها لم توسع مفهوم النتائج ليشمل النوايا والأفكار باعتبارها ذات ارتباط وثيق بالسلوك، والعديد من المشكلات الأخرى التي تلقفتها النفعية طوال تاريخها. من سوء طالع العواقبية أن النفعية قد حملت لواءها، فكانت بمثابة محامٍ سيئ لقضية عادلة، لكن أيًا من ذلك لا يعني أن هنالك شيئًا آخر يمكن أن تؤسس عليه الأخلاق سوى معرفتنا الإنسانية عن الواقع وما يدور في فلكه من نتائج مؤكدة أو محتملة، كل ما يتطلبه الأمر أن نعثر على صيغة أعمق للنتائج؛ تلك الصيغة التي تصون رفاهنا ورفاه الآخرين، وحينها لن يكون هنالك ثمة أي أمر مهم علينا أن نقلق بشأنه؛ لأنه من حيث التعريف سيكون أمر رفاه شخصًا ما.
[1] النفعية، جون ستيوارت مل، ترجمة: حيدر إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ص17.
[2] تم اقتباس أساس فكرة هذا التشبيه من (The Moral Landscape by Sam Harris)
[3] من مظاهر هذا الاعتلال في فلسفة كانط الأخلاقية هو غياب حضور الحيوان عن مملكة الغايات، ومن السهل أن نرى تأثر الأخلاق الكانطية هنا برؤية ديكارت للإنسان ككائن مميز (ذو روح أو وعي أو عقل)، في الواقع لم يكن ديكارت مؤسسًا لهذا الاعتقاد؛ فكل ما فعله كان إعادة صياغة -بصوره عقلية- للاعتقاد الديني (المسيحي) الذي يعطي الإنسان تلك المكانة المميزة، لذلك نرى ذات الإشكالية حاضرة في بعض الأخلاق الدينية؛ فالتضحيات الحيوانية تُلازم معظمها، ولنفس الأسباب التي صاغها ديكارت: الحيوان ليس لديه روح، بالتالي، لا يتألم كما نفعل. أياً من ذلك لم يكن ليحدث لو لم تكن الأخلاق المتعالية بصنفيها الاثنان قد قالت كلمتها الأخيرة والمطلقة قبل سنوات من معرفتنا عن الوعي، وبالتالي، تجاهلها لكل ما يمكن معرفته في هذا الشأن مستقبلًا (كما تجاهلت معرفتنا بوجود وعي حيواني واستجابته للألم واستمرارها بإقصائه من مجال اهتمامنا الأخلاقي). ولنتصوّر هذا الخطأ الفادح تخيّل أن مجموعة من البشر قد وضعوا معتقدات مطلقة لكيفية نشأة الكون وعمله قبل مئات أو آلاف السنين، من الواضح في ظل غياب الأدوات العلمية آنذاك أن معظم تلك التصورات ستكون خاطئة، لأنها لا يمكن أن تكون صحيحة إلا من قبيل الصدفة، هكذا مهما كانت الاكتشافات التي تتراءى للفيزياء لاحقًا حول نشأة الكون وعمله فإنها لن تكون محل اعتبار بالنسبة للوارثين الجدد لتلك المعتقدات المطلقة، من السهل أن نرى هنا كمْ هم مشوّشون ومخطئون حيال رؤيتهم للعالم، بل يصح وصف موقفهم -لو ظلوّا متمسكين بمعتقداتهم- بالدوغمائي، لكني لا أعلم كيف يمكن أن يكون أقل من ذلك كل من وضعوا معتقداتهم الأخلاقية المطلقة منذ مئات أو آلاف السنين وقبل معرفة أي شيء حيال الوعي، ولا يمكنني حتى أن أفهم كيف أصبحنا سائلين إزاء هذه الاختلافات الأخلاقية؟ يمكنني -بلا تردد- أن أصف الأخلاق المتعالية أخلاقاً دوغمائية بامتياز بل وخاطئة، وهذا الوصف بحسب ما يتراءى لي صحيحًا موضوعيًا.