2025-08-30
٢٧ ديسمبر ٢٠١٤
كغيري من الناس، أشعر دائماً بانزعاج. إني قلِق من الفشل في أن أكون أفضل مما أنه عليه: فيلسوف أفضل، عضو أفضل في أسرتي، شخص أفضل. وأعرف أني لو ابتعدت قليلاً عن الأحداث اليومية التي تنغص عليّ، فلربما أن أكون أفضل في كثير من تلك الأمور إن لم يكن كلها. وهذه المعرفة تذكّرني بتلك الفلسفات التي تنصحنا بأن نتعالى على الأشياء المزعجة لكي نبلغ إلى حالة توازن عقلي هادئ. هذه الفلسفات مثل البوذية والرواقية والطاوية، وربما الأبيقورية (بمعناها القديم، وليس المعنى المعاصر الذي يربطها باللذات الحسية) تقدم لنا طرقاً مغايرة لبلوغ تلك الحالات العقلية الهادئة، وهذا ما جعلها طرقاً مغرية. وبكل حال، فإني أعتقد أنه، بالنسبة لمعظمنا، فإن هذه الطرق مزيفة، وربما خادعة.
البوذية، على الأقل في خطابها الرسمي، تحاجج بأننا إذا تحررنا من رغباتنا عبر فهم الطبيعة الحقيقية للكون، وغير اتباع القواعد الثمان النبيلة، فإن المعاناة سوف تتوقف. أما الرواقية، بالمثل (ولكن بشكل واضح) تحثّنا على تحرير أنفسنا من المشاعر، وتقدم لنا بالمثل (وبشكل واضح كذلك) طريقاً يجعلنا نعي مكاننا في الكون، لتخليصنا من المعاناة. لا أريد أن أقول إن هذه الفلسفات خاطئة، ولكن بدلا من ذلك أريد القول إن معظمنا، عندما يتدبر حياته، لن يرغب فيما تعرضه لنا تلك الفلسفات، بل في شيء آخر.
هذه الفلسفات في شكلها الرسمي هي أمثلة على ما سوف أسميه بفلسفات المعصومية، أي تلك الرؤى التي تقول إنه بإمكاننا أن نجعل حياتنا معصومة أو محصّنة من تقلبات العالم. وما هو جوهري في الرؤية المعصومية هو الاعتقاد بأننا يمكن أن ننزع أنفسنا من مجريات الحياة لكيلا نتأثر بها. فنحن قادرون على جعل أنفسنا محصنين من متع الجسد والفكر والبيئة، وأننا سنعيش حياة أفضل وأسعد وأكثر نقاء إذا سحبنا أنفسنا من مجريات الحياة. وسواء أكانت المهمة هو التخلص من الرغبات، أو إلغاء المشاعر، أو الاعتراف بوحدة الوجود، فإن الفكرة الأساسية هي أننا يمكن، بل ويجب، أن نجعل أنفسنا محصّنين ضد تقلبات العالم.
الرؤى المعصومية تعتقد أن ما يهم هو الحاضر. فرغم كل شيء، هذه الرؤية ترى أن كل ما هنالك هو فقط الحاضر، وبالتالي فهو الحاضر هو الوحيد الذي يؤثر فينا. وفوق ذلك، فإننا متأكدون فقط مما يؤثر فينا في الوقت الحاضر (= لسنا متأكدين مثلا من أثر المستقبل). مهمة الفلسفة المعصومية، إذن، هي أن نعيش في الحاضر كلياً بدون تحفظ، وأن نتحرر من ربقة الماضي ورغبات المستقبل. وفقط عندما نفعل ذلك، فإننا نجعل أنفسنا محميين من قسوة ميولنا النفسية، تلك الميول التي تربطنا مع الأمل، الندم، التوقع، والحزن (= هذه الميول مرتبطة بالماضي والمستقبل في الأساس: فالندم والحزن سببها الماضي، والأمل والتوقع سببه المستقبل).
المعصومية توصينا أن نوفّر مسافة بيننا وبين العالم حتى لا يستطيع أن يصيبنا بآلامه. وكمثال صريح على ذلك، كان الرواقيون يستشهدون بموقف للفيلسوف القديم إنكساغوراس الذي قال عند سماعه خبر وفاة ابنه: “كنت أذكّر نفسي دائماً بأن ابني فانٍ” (= الفكرة أنه كان يعوّد نفسه باستمرار على فقْد ابنه فلم يجزع لخبر وفاته). من الممكن القول إن القلة من الناس يستطيعون بلوغ هذه الدرجة من وضع مسافة بينهم وبين حوادث العالَم. لكن السؤال: هل هذا فعلاً ما نريده؟ أشك في ذلك، ولستُ وحدي ممن سوف يشقى لو مات ابنه، وربما يتدمر.
أغلبنا يريد أن يشعر بأنه منخرط في هذا العالَم، ويريد أن يظل متورطاً بما يفعل، وبمن يهتم بهم، وأن يبقى على صلة بهم، ويشارك معهم. وثمن هذه المشاركة والانخراط هو اللامعصومية، والاستعداد لمشكلات العالم. يجب أن نظل مستعدين للشعور بفقدان ما نهتم به، لأن هذا جزء من معنى الاهتمام. الاهتمام يتطلب أن نريد الخير للآخرين، ولكن، وبما أننا في عالمٍ هش غير يقيني، فما نريده قد لا يتحقق.
هناك من يرى أن مذاهب مثل البوذية ليست فعلياً تعتنق المعصومية التي ربطتها بهم هنا. وهناك كثير من البوذيين ممن يشعر بالعالَم بشكل عميق، وبنفس العمق يشعر بالتعاطف مع الآخرين. وهذا عموماً صحيح. وقد تعرفت في حياتي على شخصين يمكن القول إنهما “حكيمين”. الأول يصف نفسه بأنه بوذي، والآخر بأنه طاوي. والاثنان جعلا من نفسيهما عرضة للعالم من حولهما ولتقلباته. ومادام الأمر كذلك، فبماذا كنت أحاجج؟! الحقيقة أني أحاجج أن كثيراً من الناس ممن يصفون أنفسهم أو أهدافهم في الحياة بلغةِ الفكر المعصومي، فإنهم فعلياً لا يعيشون كذلك، أو لا يسعون إلى العيش بهذه الطريقة. فالمذاهب الرسمية، التي تزعم توفير خطة عيش مسالم وهانئ للشخص ومكان ثابت لا يتزعزع، هي في الأغلب حالات أساءت فهم طبيعة البشر وما يريدون. وبدلا من ذلك، فثمة شيء يحدث، شيء يتضمن بعض رؤى المذاهب المعصومية، لكنه لا يعتنقها في شكلها الذي أسميته: الشكل الرسمي.
حسب ما أرى، فهناك طريقة للتفكير في تلك الأشياء ليست مطابقة لما تروج له مذاهب المعصومية، وإنما، يمكن القول، يتم الاستعانة بها فقط لتقديم عزاء للنفس في حالات التعرض للمخاطر؛ بحيث يستطيع المرء أن يحمي نفسه من غمرات وحسرات ومرارات الحياة، إلا في حالات الفقدان القصوى. ربما هناك إمكانية أن يجمع المرء بين الانغمار في العالم وفي الوقت نفسه لا يخضع لما تشير إليه، بل وتدعمه بشكل مباشر، مذاهب المعصومية الرسمية.
يبدو لي أن الطاوية والبوذية والرواقية وغيرها لا تسعى إلى جعل المرء محمياً تماماً، ولكن إلى السماح له بأن يتخذ خطوة للوراء وينسحب من المواقف الحادة لكي يستطيع معرفة خبرات الألم والمعاناة على حقيقتها، أي بوصفها عناصر في حوادث طارئة، حوادث كان بالإمكان أن تؤدي لنتائج مغايرة بدلا مما أدت إليه. هذا، بالطبع، ليس ما تنص عليه المذاهب في شكلها الرسمي، وخاصة الرواقية التي ترى أن معرفة أو انكشاف الكون للمرء هو خيار عقلاني. (البوذيون، بشكل معهود، يقررون أن انكشاف الكون أمر عرضي أو طارئ؛ وبكل حال، فإن مفهوم النرفانا يحيل هذه العرضية أو الطروء لتصبح أمراً عقلانياً أو على الأقل عادلاً). لكن هذا يبدو لي أنه يقع بنا على الرؤية المشتركة بين تلك المذاهب وهي أن هناك الكثير في هذا العالم مما لا يمكننا السيطرة عليه، وأن محاولة ذلك هو ضربٌ من الوهم. ونحن يجب، بدلاً من ذلك، أن نتعلم كيف نعيش حياتنا بكل ما فيها من حوادث عرضية، حتى ولو كان لدينا أمل في تغييرها إلى ما هو أفضل. وأننا يجب أن نفهم أن المعاناة لأغلبنا هي أمر لا مفر منه.
يمكن استيعاب كل ذلك، ونتعزّى به، دون أن ننخرط في محاولات إلغاء رغباتنا التي قد تقود إلى المعاناة.
مثلا، أنا ولدت وترعرعت في نيويورك، وعشت جزءا من حياتي أجنبياً في العقدين الأخيرين في ضواحي كارولاينا الجنوبية. (أهل نيويورك، كما أظن، نادراً ما يعيشون طويلاً خارج مدينتهم، أو على الأقل في مدن كبرى). أحيانا أقول لنفسي (= معزياً إياها) إنه من المؤكد أن حياتي هنا أفضل من معظم الحيوات في أي مكان آخر على الأرض. وهذا بالتأكيد صحيح. لكنه نادراً ما يبدو لي أنه مفيد في هذه الفترات حيث أشعر بأني في منفى. بدلا من ذلك، فإنه يفضي إلى موقفٍ ينص على “أنه أمر سيئ لأي شخص، باستثناء القلة المحظوظين”. وهذا قلما يعد حكمة، ونادرا ما يقدم لي السلوان. لكن افترض أني أفكر فيه بشكل مختلف: الحياة عرَضية (طارئة، أو صدفوية)؛ فنفس المسار الذي قادني للعيش في كارولاينا الجنوبية، أعطاني في الوقت عينه أسرتي، وفرصتي لدراسة الفلسفة، والكثير من الأصدقاء، وغير ذلك.
الآن يمكن لمسار مختلف قليلاً أن يقود إلى حياة أفضل. (مهما يكن معنى “أفضل” لكل شخص، والذي بدوره موضوع محير). لكن هذا المسار أيضا قد يؤدي لحياة أسوأ. في الواقع، ها أنا ذا، بمسار حياتي وكل الخيرات وكل الآفات، وها أنت ذا. هذه هي الطريقة التي تسير بها الأشياء. فهي لم تجعلني معصوماً من الشعور بأني أجنبي، ولا يعني أني ينبغي أن أتوقف عن محاولة تحسين حياتي وحياة من حولي، بل هي تعطيني العزاء بأن المنفى ليس كل شيء في حياتي العرضية.
الآن طبق هذا الموقف على حالات أكثر قسوة مثل فقدان وظيفة، أو نهاية علاقة غرامية. يبدو لي أنه من المعقول أن تؤذي هذه الأشياء بشكل أكبر من مجرد الشعور بأنك في المنزل بعيداً عن مدينتك. ولا يعني هذا أن الشخص الذي يشعر بهذه الخسارات يفتقد للبصيرة. لكن ربما أن معرفة أن العالم عرّضي، وأن كل شيء يأتي ويروح، وأننا يمكن أن نسيطر على حياتنا قدر الإمكان … هذه المعرفة سوف تساعدنا على التخفيف من ألم الخسارة، ورغم أنها لا تلغي المعاناة، إلا أنها تخفف من الشعور الحارق الذي يصاحبها بالعادة.
هذا بالطبع لا ينجح في كل حالة. لا أدري كيف يتعامل المرء مع وفاة طفله، لكن الناس يفعلون ذلك. ولا أعتقد أن هذا ينبغي أن يكون عزاءً لمن يعيشون حياة ظالمة أو فقر مدقع. فحل الظلم والفقر مناط بالنظام السياسي العادل. لكن بالنسبة لأولئك الأشخاص الذين يجدون أنفسهم ليس في نعيم تام ولا حرمان تام، فهناك ما يمكن قوله بخصوص ما يصيبنا من مشكلات. فما أحاجج من أجله هنا هو أن وجهة النظر هذه ليست أن نجعل أنفسنا معصومين ومحصنين ضد العالم. يمكن أن يكون هناك من يحتاجون إلى هذه المعصومية، وهناك حتى من بلغها. لكن لأغلبنا من أولئك الذين يريدون شيئا غير الحصانة، فإن دروس الفلسفة المعصومية يجب أن تكون شيئا مغايرا لما ينصه عليه خطابها الرسمي. أو بعبارة أخرى، عند أخذ تلك الدروس، كالتركيز على الحاضر أو الاعتراف بعرضية الأشياء (= تفاهتها)، يجب النظر إليها كتمارين وليس كأهداف.
هذه التمارين سوف تساعدنا لكي نعيش وليس لكي نتجنب العيش الذي لا نستطيع السيطرة عليه، إنها تجعلنا نصل إلى تقبّل لتلك الأشياء الحتمية التي تحدد من نحن. لكن بالنسبة لأولئك الذين اختاروا أن يظلوا معرّضين للمخاطر، فإن الحياة ليست، ولا يمكن لها، السيطرة عليها، بل تظل مساراً محفوفا بالمخاطر ومطوّقاً بحوادث عرَضية لا يمكن صدها، مساراً قد يخلّف فينا ندوباً تصاحب متعة الحياة. وبالنسبة لأغلبنا، في معظم الأحيان، فنحن لا نريدها أن تكون على خلاف ما هي عليه.
الكاتب: أستاذ فلسفة في جامعة كليمسون. وهو مؤلف كتاب “حياةٌ ذات شأن: المعنى الإنساني في كونٍ صامت” المزمع صدوره قريباً، ويعمل على كتاب آخر عن هشاشة الحياة.
المترجم: فيلسوف، عضو جمعية الفلسفة السعودية، من مؤلفاته: ١- الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، ٢- قراءات في الخطاب الفلسفي، ٣- الوجود والوعي، ٤- الهرمنيوطيقا (ترجمة).
المراجع: مؤلف ومترجم سعودي.
Against Invulnerability
Todd May
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”