2025-09-06
١٧ مايو ٢٠١٤
كثيرا ما يزورني في مكتبي الطلبة الراغبين بالنصيحة، وهم يفركون أيديهم ويقطبون حواجبهم، ويريدون مني التفكير معهم بإزاء مصيرهم بعد التخرج. وكان أحد طلاب السنة الثانية قد طلب موعداً في الأمس لشعوره بالقلق حيال رغبته في أن يكون طبيباً أو أستاذاً للفلسفة. اعترف بعد مضي دقائق قليلة وبصورة متوترة بأنه يفكر أيضا بخوض كوميديا المسرح.
ردة فعلي المفاجئة بصفتي مستشاراً مهنياً كانت على الدوام: ” أين يكمن شغفك الأكبر؟” ولربما أعطيت موعظة عن أهمية التمييز بين ما يفترض أن نحبه وما نحبه بالفعل.
وماذا عن ” افعل ما تحبه”.. هل هي حكمة أم لغو فارغ؟
نشرت مطلع هذه السنة مقالة لميا توكوميتسو ذات نقاش أكثر عمقاً في مجلة جاكوبين، حاججت من خلالها بأن مُعتقد “افعل ما تحبه” فريد من نوعه في ثقافتنا وذو طابع نخبوي يحتقر العمل الذي لا ينبع من الحب، ويتجاهل فكرة أن العمل يستبطن بداخله قيمة موروثة، والأهم من ذلك أن هذا المعتقد يفصل الترابط المعتاد بين العمل، والموهبة، والواجب.
حين أخرج من حرم الجامعة أقوم بإرشاد الأولاد من ذوي الدخل المحدود في نورثفيلد بولاية مينيسوتا، وهي مدينة يسكنها عشرون ألفا. هناك لا تسود فكرة” افعل ما تحبه” فكثير من هؤلاء الأولاد معتادون على تسليم الصحف في الخامسة فجراً ورص ألواح الخشب طوال اليوم أو تحميل البضائع في الشاحنات طيلة الليل. لقد اعتادوا على فعل كل ما يضطرون للقيام به كي يساعدوا عوائلهم. إن فكرة اعمل ما تحبه، أو اعثر على المعنى، ليست الفكرة التي ترد إلى أذهانهم للوهلة الأولى، بل ولا ينبغي أن تكون. علينا أن نفكر معاً ونسأل: “مالذي تبرع بعمله؟” أو “ما العمل الذي سيحسن من أوضاع عائلتك؟” فقد يكون نيل رخصة اللحامة أو الكهرباء؟ أو الخدمة العسكرية؟ وقد يدخل الشغف والمعنى في أحاديثنا لأجل شحذ التركيز والمزيد من النجاح.
لم يعمل والدي فيما يحبه. عمل فيما يكره لأجل الإنفاق على دراسة أبنائه في الكلية. هل كان جاهلاً ومخطئاً وهو يجعل سعادة الاخرين مقدمة على اهتماماته الخاصة؟ قد يجادل أحدهم بأن الشعور بالامتلاء النفسي يغمره وهو يعتني بعائلته، ولكن مثل غيره من قليلي الحظ كان يكره عمله ويكافح وينجح.
ولربما كان والدي ممن حولوا الضرورة إلى فضيلة، وأن الاعتناء الكبير بالعائلة هو شكل من إرضاء الذات. لكن الخروج من ذاتك بما يكفي، والتخلي عن شغفك لأجل منفعة دائرة أوسع كالعائلة أو المجتمع، هو أمر لا يحدث تلقائياً عند الجميع. لا يخوض كل الناس هذا الطريق، ولعلكم اطلعتم على قصة جون كيتشن (المعروف باسم سلومو Slomo) والذي استقال من الطب لأجل شغفه في التزلج بممشى شاطئ سان دييغو. لكن هل من الأخلاقي لهذا الطبيب أن يتخلى عن سماعته الطبية كي يربط حذاء التزلج؟
انشغل بهذا السؤال مفكرون كبار لا يقلّون عمقاً عن كانط. ففي الأيام الخوالي وقبل (موت المقدس) اعتقد المؤمنون أن مواهبهم هي هدية من الأعلى، وأنها مرتبطة بواجب خدمة الآخرين. وفي مقالة “تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق” فكر كانط بالتالي: افترض أن رجلا “يعثر في نفسه على موهبة تهيئه للقيام بالعديد من الوظائف، لكنه يجد نفسه في ظروف مريحة ويفضل الانخراط في المتع بدلا من احتمال الآلام لأجل إنماء قدراته الطبيعية” فهل ينبغي عليه التمتع؟
ينزعج كانط ويرفض، فلا يمكن للمرء أن يهدر موهبته ويتركها تصدأ لأجل المتعة، ثم يقال هذا قانون كوني. يكتب كانط أن هذا الشخص بموجب كونه “كائناً عقلانياً” ينبغي أن “يريد وفق ضرورة ملكاته التي طورها لخدمته، وأنها وُهِبت له لغايات شتى”. وسيكون من غير العقلاني وفقاً لكانط أن نرغب بعالم يلتزم بقانون “اعمل بما تحبه”.
ولعلك، بخلاف ما يقوله كانط، تعتقد بأن الكون لا ينسجم مع الغايات. حينها ستكون “اعمل بما تحبه” أو ” اعمل بما تجده مفعما بالمعنى” هي الأوامر الأولى والأخيرة لك. بيد أن هذا ليس ضرورياً. إن الإيمان المتعلّق بما أهواه وأكرهه، أو الإيمان بالمعنى الذي يخصني وحده وكونه ما يقرر أعمالي، هو جزء من كتاب تحقيق الذات “المقدس”. كانت الفلسفة محقة على الدوام وهي ترشدنا نحو أخطائنا حيال السعادة ونحو كل شيء آخر، والأمر نفسه ينطبق على فكرة تحقيق النفس. فلنفترض أن تحقيق الذات بشكل حقيقي يأتي عبر التطور نحو ” الإنسان الناضج”. ذلك بالتأكيد لا ينص على تجنب العمل الذي نحبه فقط لأننا نحبه، فهذا محض عبث. وبالنسبة لبعض الناس يتواجد الانسجام وينمو بين ما يجدونه من متعة في استخدام مواهبهم بشكل مسؤول وموجه نحو الآخرين.
النماذج المثالية التي يدركها البشر كافة، كنيلسون مانديلا وديتريتش بونهوفر ومارتن لوثر كنغ، لم يؤسسوا حياتهم حول مبدأ تحقيق الذات أو تدوين قوائم مهام. لقد عثروا دون شك على شعور بالمعنى أثناء أعمالهم المليئة بالتضحيات، لكنهم لم يفعلوا ما فعلوه من أجل تحقيق ما شعروا به من معنى، وإنما فعلوا ذلك مثلهم مثل أبي وأولاد نورثفيلد، لقد شعروا أن هذا هو ما ” يجب” عليهم فعله.
علمنا دكتور كنغ أن كل حياة تتسم بأبعاد من الطول والعرض والارتفاع. يشير الطول إلى حب الذات، ويشير العرض إلى المجتمع ورعاية الآخرين، بينما يشير الارتفاع إلى المتعالي، إلى شيء أكبر من النفس. ستتفق الأكثرية مع وصفة الدكتور كنغ عن تحقيق الذات وما يتطلبه من قدرة على ربط نفسك مع ما هو أكبر منها. ووفق المأثور فإن هذا المتعالي هو رمزية الإله، ومهما كان هذا المتعالي فإنه يطلب طاعتنا، وإرادتنا في أن يغمرنا وتتكون رغباتنا من خلاله.
لعلك تستمع بالركض في سباقات الماراثون، أو لعلك تفكر بنظامك الرياضي وكونه شكلاً من تحسين الذات. لكن لو كانت العدالة والمساواة تحتلان جانباً علويا لديك، فإن هذه المُثُل توجب عليك أن تكرّس بعض الساعات الطويلة وتخصصها لتدريس الأولاد في مركز الشباب. لا يجدر برغباتنا أن تكون الحكم النهائي في مهنتنا، ففي بعض الأحيان ينبغي علينا أن نعمل بما نكرهه، أو نعمل بما تمليه الضرورة، ونقوم به بأفضل ما نستطيع.
الكتاب: أستاذ الفلسفة في كلية سانت أولاف ومحرر كتاب “منقولات من كيركجارد”.
المراجع: مؤلف ومترجم سعودي.
المُراجعة: أستاذة مساعدة في الأدب الإنجليزي في كلية الجبيل الصناعية. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
“A Life Beyond “Do What You Love
Gordon Marino
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”