2025-09-14
٢٣ نوفمبر ٢٠١٥
كثيرا ما تثير كلمة “النسبية” ردود فعل قوية رغم أنها تستخدم عادة دون أن يكون لها معنى واضح ومتفق عليه. في هذه المقالة أود أن أقدم مقترح محدد عن معنى هذه الكلمة مع رؤية للتعامل مع مشكلة “العالم الحقيقي” التي ناقشتها ألكس روزنبرق هنا في ستون في يوليو تحت هذا السؤال: ماذا يجب علينا أن نفعل حين نواجه ما يوصف غالبا بأنها خلافات أخلاقية لا يمكن حلها؟
في الخلافات هناك طرفان أحدها يؤكد وأحدهما ينفي ذات الأمر وباعتبار أن الطرفين يناقض بعضهما الآخر لا يمكن أن يكونا جميعاً على صواب، وباعتبار أنه لا يمكن أن يكونا جميعاً على صواب فإن هناك أمراً لا بد أن حلّه بينهما من خلال التعرف على المخطئ بينهما وسيبقى الخلاف قائما مادام كل من الطرفين يعتقد أن الآخر مخطئ وبالتالي فالقضية غير محلولة عندما لا يكون هناك منهج نحلها من خلاله.
هل هناك حالات خلاف لا يمكن حلها؟
سيجادل أصحاب النسبية الأخلاقية في الغالب بأن الخلافات الأخلاقية لا يمكن حلها لأن المعتقدات الأخلاقية ليست صحيحة أو خاطئة باعتبار أنه لا توجد وقائع facts في العالم تجعل منها صائبة أو خاطئة أي أنه لا توجد وقائع أخلاقية. وبالتالي فإن “الحقيقة” التي يقال أن المواقف الأخلاقية تمتلكها تتأسس على عناصر ذاتية وحالات ذهنية مثل رغباتنا ومشاعرنا. وباعتبار أن تلك العناصر الذاتية تختلف بين الأشخاص والثقافات فإنها تولّد خلافات لا يمكن حلها باللجوء إلى وقائع موضوعية حاسمة.
وبسبب أن هذا المفهوم “النسبية الأخلاقية” مرتبط بهذه الصورة الذاتية للأخلاق فإنه ينتج عداوة يمكن تفهّمها. كيف لنا أن نبقي على التزاماتنا الأخلاقية إذا تخلينا عن التطلّع إلى الموضوعية في ما يخص الأخلاق أي التأكد من أن التزاماتنا الأخلاقية صحيحة؟
أعتقد أن هناك طريقة أخرى لفهم ما يتضمنه القول بالنسبية الأخلاقية لا تتطلب التخلي عن التطلّع للموضوعية. هنا مثال للتوضيح.
تخيّل معي أني امرأة في الأربعينات من الطبقة المتوسطة نشأت في ولاية من ولايات وسط أمريكا. درست في الجامعة وبعد التخرج حصلت على درجة الماجستير في التجارة وبعدها عملت في وول ستريت وحصلت على الكثير من المال لدرجة مكّنتني من التقاعد مبكراً. لم أتزوج وليس لدي أطفال، وكان ذلك سبباً للحسرة عند والديّ رغم أنهما فخوران بي. جميعنا ملتزمون بالفردانية الليبرالية ونعتقد بأن كلًّا منا مسؤول عن حياته الخاصة بكل تفاصيلها المالية وغيرها.
بعد فترة بسيطة من التقاعد قررت أن أسافر وفي أثناء رحلتي لزيارة قرية في البنجاب التقيت بإمرأة في عمري تقريبا اسمها أنجالي. الوقائع الأساسية في حياتها كالتالي: رتّب والداها زواجها حين كانت فتاة صغيرة وتزوجت في بداية العقد الثاني من حياتها وأنجبت الكثير من الأطفال وهي الآن جدّة وحياتها مرتبة بالكامل حول مسؤولياتها الأسرية.
في البداية امتعضت أنجالي من قراري بعدم الزواج والإنجاب خصوصا أن ذلك كان بخلاف لرغبات والديّ. أخبرتني، من خلال مترجم، أننا مطالبون أخلاقياً بأن نستجيب لأمنيات والدينا. في البداية اعتبرت أني على خلاف معها باعتبار أنني أعتقد أنني لست مطالبة بالنزول عند رغبات والديّ بأن أتزوج وأنجب.
بالنسبة لكثير من الغربيين سيكون من السهل حل هذا الخلاف الأخلاقي لصالحي باعتبار أنني لم أفعل أي خطأ في البحث عن نصيبي كما أن أنجالي تملك ذات الحق. ولكن هذا الموقف الغربي لا يتغاضى عن هذه الحقيقة: بشكل عام ليس بوسع القوة البشرية أن تعيد انتاج ثقافة كاملة كيفما تشاء.
في الظروف الثقافية التي تعيشها أنجالي ليس من المتاح لها أن تنطلق بذاتها لتحقيق أحلامها الخاصة بنفسها بعيداً عن علاقاتها الأسرية، كما أنه ليس من المتاح لي تحمل الواجبات التقليدية المتعددة التي تتحملها عادة النساء في الأسر الكبيرة في ضواحي البنجاب. وبسبب هذه الاختلافات في الظروف الثقافية فكلانا، أنجالي وأنا، نحتاج إلى حقائق أخلاقية مختلفة في سبيل التعاطي مع الخيارات الأخلاقية التي نواجهها. هل هذا يعني أننا يجب أن نعيش ضمن قيم متضاربة وأننا نواجه خلافات أخلاقية لا يمكن حلها حيال سؤال هل من الواجب أخلاقياً أن نذعن لرغبات والدينا؟
لا. عندما تدرك أنجالي التزامها الأخلاقي تجاه تحقيق رغبات والديها فإنها تتصور ذلك كواحد من مجموعة واجبات خاصة تلتزم بها لوالديها بالإضافة إلى التزامات أخرى تجاه عائلتها الممتدة التي يجمعها اسم كاتاروفيا. في المقابل حين أنكر أن علي التزام أخلاقي يلزمني بتحقيق رغبات والديّ فأني لا أفكر في كاتاروفيا التي لم أكن أعلم بوجودهم في الأساس قبل أن ألتقي بأنجالي. حينما أقرر فأنا أفكر بالالتزمات التي يُعترف بها داخل إطار الفردانية الليبرالية حيث لا يعتبر ما فعلته من تحقيق لأهدافي الخاصة خرقاً للمعايير الأخلاقية. وبالتالي فإنه لا يوجد حتى الآن تناقض بيني وبين أنجالي فيما يتعلق بما يجب علينا تجاه والدينا. من جهتها كانت تؤكد على أنها ملتزمة لوالديها بالواجبات الخاصة التي تحددها كاتاروفا فيما كنت أرفض أن لوالدي الحق في اتخاذ القرار بشأن قرارات حياتي الأساسية.
وبالتالي فإننا هنا أمام نوع من الاختلاف الذي لا يعتبر خلافاً. كل منّا يرى أن له الحق بأن يعيش وفقا لمنظور مبادئه الأخلاقية بحسب الطريقة التي تتعاطى معها تلك المبادئ مع ظروفنا المعيشية والقضايا الأخلاقية الخاصة التي ترتبط بها. وفي حين أن كل منّا يعتقد أن المبادئ الأخلاقية التي يلتزم بها الآخر صحيحة ولا نعترض عليها إلا أن كلًّا منا لا يتبنى تلك المبادئ ليعيش بها حياته الخاصة. عندما يحدث هذا الوضع فإننا أمام فرصة لتبني موقف نسبوي مميز حيث لا نكون في حال من عدم التوافق ولكن في حال من الانفصال. ففي حين يتعرف كل منا على معتقدات الآخر الأخلاقية فإننا لا نكتسب بناء على ذلك رؤى حول كيف يجب علينا أن نعيش حياتنا الأخلاقية كما أننا لا نحاول أن نوجّه الآخرين حول كيف يجب عليهم أن يمارسوا حياتهم الخاصة.
النسبية الأخلاقية التي أقترحها تفهم هذا الموقف من خلال الاستنتاج التالي: صحيح أننا نلتزم بالحقائق الأخلاقية بشكل موضوعي ولكن بدون أن تكون حقائق كونية بالضرورة أي أنها موضوعية في سياقات محددة. وبالتالي فحين تتبنى أنجالي قيماً أخلاقية مختلفة لتعيش لها فإن هذا يعني أننا نعيش في عوالم أخلاقية مختلفة تتحقق فيها قيم أخلاقية مختلفة.
إلا أن هذا التصور للنسبية الثقافية لا يخلو من مشاكل. هذا يتضح إذا عرفنا أن هذا التصور مناسب لحالات مثل الحالة التي عرضتها أكثر من غيرها. خذ على سبيل المثال ممارسات من نوع حرق الأرملة وختان البنات وقتل الشرف. مواقفنا المباشرة تجاه هذه الممارسات ستكون غالباً هي الحكم عليها بأنها خاطئة ويجب أن تتوقف من خلال إقناع من يمارسها بأنها خطأ إن تمكنا من ذلك. أما حين نفشل في إقناعهم فإننا نواجه اختلافات أخلاقية غير قابلة للحل يجب علينا أن نواجهها من خلال الإصرار على أن تلك الممارسات خاطئة وأن علينا مواجهتها بالوسائل المتوفرة عادة في الدولة أي التشريعات وتدخل الدولة .. إلخ.
هذا الموقف الذي وصفته للتو مضاد للنسبية في جوهره ومن المهم أن نلاحظ أنه يعارض النسبية في كل من التصورين اللذين ناقشتهما حتى الآن. فهو من جهة يرفض أن يكون كل من الطرفين المختلفين على حق أي أن هناك شؤونا موضوعية يمكن أن نصيب أو نخطئ حيالها. كما أنه يصر على أنه لا يجب علينا أن ننفصل عن أولئك الذين يختلفون عنّا أخلاقياً وأنه يجب أن نبقي على الاختلاف معهم من خلال تقديم الحقائق الأخلاقية التي نعيش بها على أنها حقائق كونية مُلزمة للجميع.
ولكن قبل أن نرفض النسبية الأخلاقية يجب علينا أن نستكشف إمكانية أخرى. ففي حين نجد أن النسبي يريد أن يقول بشكل عام أن من يتبنون قيماً أخلاقية مختلفة هم في الغالب يستجيبون لظروف مختلفة إلا أنها ليست ملزمة بأن تقول أن من يمارسون إحراق الأرملة أو ختان الفتيات أو قتل الشرف على صواب. بإمكانها أن تقول أن تلك الممارسات خاطئة من منظور معايير تلك الثقافات نفسها. فقد تكون هناك قيم أخلاقية محليّة مشتركة بين كل الثقافات بما فيها تلك الثقافات التي تمارس فيها تلك العادات وبالتالي نحكم عليها بأنها خاطئة. وإذا كان الأمر كذلك فعلاً فإن من يمارسون تلك الأفعال قد أساؤوا فهم قيمهم الأخلاقية. هذه الطريقة مرشحة بشكل كبير لمساعدتنا على فهم كيف أدرك المجتمع الأمريكي أنه من الخطأ أن نعطي الحقوق المدنية للذكور البيض فقط. وسيكون من أشكال الاعتداد بالذات ضيقة الأفق أن نعتقد أن ما كان ممكناً في أمريكا ليس ممكناً في المجتمعات الأخرى.
لا شك أنه من الممكن أن نتصور أنه لا توجد قيم أخلاقية محلية ترفض إحراق الأرملة وختان الفتيات وقتل الشرف ولكن الفكرة هنا هي أن النسبي لن يضطر إلى اتخاذ موقف شبيه بموقفه من حالتي أنا وأنجالي بحيث يقول بصحة الموقفين المختلفين إلا في حال عدم وجود قيم أخلاقية محلية تعارض تلك الممارسات.
النسبية الأخلاقية كما أقترح معناها هنا تدعونا إلى موقف استكشافي فيما يخص المواجهات مع الاختلاف الأخلاقي. تحذرنا هذه النسبية التي أقترحها من التعاطي مع مظاهر الاختلافات الأخلاقية غير القابلة للحل بدون تمحيص وبدون أن نستكشف إمكانية ألاّ تكون الأطراف التي تبدو مختلفة فعلاً بقدر ما أنها تتعاطى مع ظروف أخلاقية مختلفة تتطلب حقائق أخلاقية مختلفة للتعاطي معها. وإذا وصلنا للنتيجة النسبية التي تتخلى عن الطابع الكوني للقيم الأخلاقية، فإننا لن نتخلى عن فكرة الموضوعية الأخلاقية فلا يزال من الممكن لكلا الطرفين أن يكونا على خطأ باعتبار أنهما أساءا فهم مبادئهما الأخلاقية الخاصة.
الكاتبة: أستاذة الفلسفة بجامعة كولومبيا ومؤلفة كتاب “ميتافيزيقا النسبوية الأخلاقية” و “حدود الإرادة: مقالة في الميتافيزيقا التنقيحية”.
المترجم: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابيّ فلسفة الآخرية و الفلسفة حين تنصت في الظلام.
المراجع: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
?Moral Dispute or Cultural Difference
Carol Rovane
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”