2025-05-11
محمد بن ماضي
يشكّل المسلسل الكرتوني القديم “هايدي” جزءًا حيًّا من ذاكرة الطفولة، لا لأنه يحكي حكاية خاصة، بل لأنه يفتح نوافذ على البراءة، وعلى حياة قروية تبدو أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. حين كبرتُ، لم تبهت تلك الذكرى، بل بقيت حاضرة في مكان ما داخلي، حتى أُتيح لي أن أشاركها مع ابنتي الصغيرة “ضي”، حين بدأت تشاهده بدورها. لم يكن الأمر مجرد متابعة لمسلسل، بل امتداد لذاكرة تُروى وتُعاش من جديد، وربما لهذا السبب بدا لي طلبها بالسفر إلى جبال الألب منطقيًّا. أرادت أن تصل إلى كوخ الجد، إلى مكانٍ ظلت الشاشة تُلمّح له كجنة صغيرة تحتضن الضعف ولا تحكم عليه.
لكن قبل أن يسعفنا الوقت للوفاء بهذا الحلم، طلبت “ضي” أن نقتني ماعزًا قزمًا صغيرًا، على صورة ما كانت تراه هايدي كل صباح. لم يكن في الأمر شيء يدعو للتردد، وإن كان ثمة خوف صامت. اشتريناه، وأسمته “يوكي”، كما في الحكاية. دخل يوكي إلى البيت لا كحيوان أليف، بل ككائن يُعيد ترتيب الحسّ، يُنبّهنا إلى وجوده من دون أن يطلب، ويمنح للأيام طقسًا مختلفًا من الحضور. لم يكن بحاجة إلى تعريف، فحركته كانت لغته، ونظراته كانت كافية لتقول: أنا هنا.
ثمة ما في يوكي يُوقظ الانتباه. ليس لأنّه غريب، بل لأنّه مألوف على نحوٍ يصعب شرحه. عندما ينظر إليك، لا تفهم ما إذا كان يُدركك، أم أنّه فقط يُصغي لصوت داخلي لا نسمعه. وعندما تسمّيه، يلتفت، يقترب، كأنّ بينكما عهدًا وُلد قبل اللغة. لا أستطيع الجزم بأنّه يعرفني، ولا أستطيع نفي ذلك. ما أستطيع قوله فقط أن يوكي يحضر، يحضر بقوة، بحساسية، وبيقظة لا تحتمل التجاهل.
في بعض اللحظات، يفزع فجأة، ويهرع نحو زاوية أو نحوي، فأجد نفسي أتساءل: ما الذي أزعجه؟ هل سمع ما لا أسمع؟ هل رأى ما لا أرى؟ حينها أشعر أن تجربته للعالم تختلف، أنّها لا تمرّ عبر بوابات إدراكي، بل تتشكّل من شبكة أخرى من المعاني التي لا سبيل لي إلى الإمساك بها، إلّا عبر الرغبة في الاقتراب. هذا الفزع ليس لحظة اضطراب عابرة، بل لحظة تذكير: بأنّنا لا نفهم كلّ شيء، وبأنّ في الكائنات الأخرى أفقًا من المعنى يتجاور معنا، دون أن يذوب فينا.
يوكي لا يندفع مباشرة إلى المكان الجديد. يتأنى، يُصغي، يتمهّل، كمن يتأمل قبل أن يسكن. لا يسكن بجسده فقط، بل بنبضه، بانتباهه، وبزمنه الخاص. وحين يطمئن، يعود إلى عاداته: يشمّ الأرض، يلتقط ما يُثير فضوله، يقفز بخفة. تلك العودة لا تُنهي التأمل، بل تؤكده. فهو لا يدخل المكان كما ندخله نحن، بل يختبره، وكأنّه لا يثق في الضوء ما لم يجربه.
حين يلعب يوكي، لا يبدو كمن يقضي وقتًا فارغًا، بل كمن يستعيد شيئًا من طبيعته الأصلية. يتحرك بخفة، يركض، يتوقف فجأة، يعود إلى القفز في الهواء كأنّ الأرض لا تشدّه. لا ينتظر أن أشاركه، لكنّه يلتفت نحوي بين لحظة وأخرى، كأنّما يدعوني بصمته لأن أكون جزءًا من هذه الخفة، ولو بالنظر.
في بعض الأيام، أجري خلفه، أو يسبقني، فنلهو معًا كما لو أنّ اللعب هو الطريقة الأولى لفهم بعضنا. لا يحتاج إلى تعليم، ولا إلى أمر. يكفي أن أحرّك يدي أو أركض قليلًا، فينطلق معي، وكأنّ بيننا اتفاقًا غير منطوق، اتفاقًا من نوع ما لا يُوقّع عليه بالكلمات، بل بالإيماء والاستجابة.
ثمة شيء يتبدّل في وجهي وأنا ألعب معه. يصبح وجهي أبسط، وروحي أقرب إلى الأرض. أحيانًا أنسى الزمن، وأنسى أنني “أكبر” منه، وأنني المفترض أن أوجّهه أو أعتني به. في لحظات اللعب، تنقلب الأدوار، فيصير هو من يقودني نحو لحظة لا تحتكم لأي شيء سوى الفرح الخفيف، والانتباه الحي.
لا يحب يوكي أن يكون وحيدًا. لا يأكل كما يأكل الجائع، بل كما يأكل من يطمئن أن أحدًا يشاركه المكان. حين يُترك في الفناء، نراه يذرع المساحة ذهابًا وإيابًا، يقترب من الأبواب المغلقة، ويطلق أصواتًا ليست مجرد ثغاء، بل نداء فيه عتاب خافت، وفيه شيء من الحنين. لا يستكين حين نغلق الباب خلفنا. لا يرضى بما توفّر له من ماء وغذاء في بيته الصغير. كأنّ الأشياء كلّها تفقد معناها إذا لم تُعاش مع أحد. يواصل نداءه، يعلو صوته، يحاول الخروج، كأنّ الجدران تُثقله، وكأنّ المكان مهما كان مريحًا لا يُعوّض عن دفء الصحبة.
وحين يغلبه التعب، يسترخي. لا لأنّه ارتاح، بل لأنّ جسده هدأ قبل أن تهدأ روحه. أعرف أنّه سينهض من جديد إذا سمع وقع أقدامنا، وأنّ صوته سيعود خفيفًا، ملوّحًا بالفرح، لا بالشكوى. يوكي لا يخاف الوحدة، بل لا يفهمها. لم يُخلق ليُعزل، بل ليكون مع أحد. وربما لهذا حين أراه يطوف قلقًا، أشعر بشيءٍ مني يتحرك، بشيء يعرف معنى أن يكون الباب مغلقًا دونك، ولو كان خلفه كل ما تحتاج.
أتعجب من طريقته في التعرف على بعض الأشياء، حين يعقف شفته العليا جهة أنفه، كأنّما يفتح بها طريقًا خفيًا للرائحة. لا أعلم ما الذي يدركه في تلك اللحظة، ولا ما تعنيه تلك الحركة بالضبط، لكنها تتكرر في لحظات معينة، وغالبًا حين يكون الشيء الذي يستكشفه قد خرج منه. كأنّ بينه وبين جسده حوارًا شميًا لا أفهمه، لكنّه جاد فيه تمامًا، ولا يحتمل المزاح. أقف مأخوذًا أمام هذا المشهد: كيف يصبح الكائنُ باحثًا في ذاته، كيف يتفحّص أثره كما لو كان شيئًا غريبًا يحتاج إلى دراسة.
ثم لا يلبث أن ينسى ما كان يتشممه، ويعود إلينا بروحه الخفيفة، يدفعنا بيده الصغيرة، يموّه، يتهيأ للهجوم، ثم ينقض برأسه الصغير في محاولة نطحة لا تؤلم أحدًا، لكنها تسعده. ينتشي حين نشاركه اللعبة، ويُمعن في التمثيل كأنّه جديّ بالغ. نقف أمامه ضاحكين، نحاول مجاراته، لكنّه دائمًا الأسرع، والأصدق، والأقرب إلى ما يُسمى الفرح النقي.
لم أكن مترددًا حين اشتريناه، أو هكذا خُيّل إليّ. لكنّي الآن أفهم أن شيئًا في داخلي كان يخشى هذا الحضور منذ لحظته الأولى. لم يكن خوفًا من الرعاية أو المسؤولية، بل من العلاقة التي ستنشأ، من المساحة التي سيملؤها في قلوبنا، ومن الفراغ الذي قد يخلّفه يومًا، إذا غاب.
أفكر أحيانًا: ماذا لو مات يوكي؟ ماذا لو ترك مكانًا فارغًا لا يُملأ؟ كيف سيبدو البيت بدونه؟ كيف ستبدو الأيام؟ ماذا ستقول “ضي” حين تبحث عنه بين الزوايا فلا تجده، وحين لا يناديها بصوته الخافت؟ بل ماذا سأقول أنا لنفسي، قبل أن أقول لها أو لإخوتها؟
كل ما فعله، منذ أن دخل بيتنا، أنه علّمنا أن الحياة لا تُقاس بحجم الكائن، بل بحجم الأثر الذي يتركه فينا. وأن الأشياء التي تبدو بسيطة في ظاهرها، قد تكون هي التي تهزّ أعماقنا، دون أن ننتبه.
ومع الوقت، أُدرك أن هذه اللحظة التي أخشاها، ليست استثناءً، بل جزء من الحكاية، جزء من طبيعة كل حضور نحبه. الحضور لا يكتمل إلا بإمكانية غيابه، ولا يصبح عزيزًا إلا لأننا نعرف أنه لا يبقى إلى الأبد.
أليس وجود يوكي بيننا هشًّا مثل وجودنا؟ أليس هذا ما يمنح لكل لحظة معه معنى؟ أننا لا نمتلكه، بل نرافقه، كما نرافق أنفسنا وأحبّاءنا في درب لا نعرف نهايته، ولكننا نُصرّ على أن نُحب فيه، ونضحك، ونركض، وننادي، كما لو أن النهاية لا تأتي.