2025-10-02
١٨ مارس ٢٠١٢
*ملاحظة: العبارات داخل الأقواس المتبوعة بعلامة يساوي (= ….) هي من إضافات المترجم لإيضاح العبارة السابقة عليها.
الموت كما يفترض حدثٌ يُعلَن لمرة واحدة. مع ذلك فبعض الميتات، ويا للغرابة، يتم تأكيدها مرة تلو أخرى كما لو أن المدفونين سوف يزحفون عائدين إلى الحياة لو لم يوارى على قبورهم التراب. أحد هؤلاء الموتى الأحياء، إضافة إلى كارل ماركس، هو سيغموند فرويد. كم مرة يسمع المرء، بفضل الهوس بعلم الأعصاب، أن التحليل النفسي صار اليوم مجرد هراء، وأنه غير نافع، وأن طريقته المنهجية منحلة وخطيرة، كما يشير إلى ذلك مؤخراً ديفيد كروننبرج في فيلمه (المنهج الخطر).
على مر السنوات، كان “العلاج بالكلام”- كما تسميه بيرثا بابنهايم (المعروفة باسم: آنا أو) وكانت من أوائل مرضى فرويد- يتعرض للتسخيف والتحوير. مع تطور الأدوية التي تغير سلوك الأطفال والكبار، فإن الكثيرين مرة أخرى أعلنوا دنو أجل التحليل النفسي. فمن منا لا يرغب (وخاصة شركات التأمين الصحي) في تناول حبوبٍ ذات مفعول سريع بدلاً من الاضطجاع على سرير التحليل النفسي لسنوات طويلة؟ من المحتمل، بعد النجاة من الفضيحة والتنقيح والوصف الشعبي، أن تؤدي الأدوية والمال إلى إيداع فرويد إلى مأواه الأخير.
إذا كان التحليل النفسي ببساطة طريقة لعلاج بعض الأفراد من السلوكيات غير المرغوبة اجتماعياً، فلن تكون لدي مشكلة لو اختفى التحليل النفسي. وبالمثل، إذا كان التحليل النفسي مجرد طريقة ملائمة للأشخاص الأثرياء لكي يتكلموا مع بعض عن مشكلاتهم الوجودية الباهتة، فلا بأس أن يزول ويتلاشى. وإذا كان التحليل النفسي، لا سمح الله، تحول إلى مجرد استراتيجية للتفكير النظري الأكاديمي في العلوم الإنسانية، فلنطلق رصاصة الرحمة عليه.
رغم ما سبق، فإني أعتقد أن هناك شيئاً ما في (العلاج بالكلام) ذو قيمة عظيمة وسيكون من المؤسف أن يزول ويفضي إلى موتٍ ثقافي. هذا الشيء له علاقة بمجالين في النشاط النفسي يسميهما فرويد: العمليات الأولية والعمليات الثانوية. المجال الأول غريزي وعنيد، إنه المخزون العميق للبواعث اللاعقلانية التي تكمن في باطن المظهر الخارجي الهادئ لذواتنا المتحضّرة. أما المجال الثاني فهو هذا المظهر نفسه وهو مجال خارجي قياسي وحسابي نشكّله بلاوعي عبر تفاعلاتنا مع بعض في حياتنا اليومية. ومع أن هذين المجالين غامضان، فإن الفرق بينهما مألوف وواضح.
نحن نعلم جيداً، على سبيل المثال، أن العمليات الثانوية (المجال الثاني) تفشل دائماً في احتواء ما يكمن في الأعماق، فيقوم بإرسال رسائل إلى السطح في صورة قلق، واكتئاب، وتحيزات، ونفاق. وكلما أكّدنا امتثالنا للمعايير الثقافية السائدة، تصاعدت حدة تلك البواعث الباطنية داخلنا، حتى ينتهي بها المطاف إلى التسرب عبر الشقوق بطريقة غير متوقعة. من هنا كان لا بد من مواجهة العمليات الأولية، وقد تم مناقشتها مؤخراً في إجابتين:
الإجابة الأولى تشدد على ضرورة أن تتغلب العمليات الثانوية على العمليات الأولية عن طريق “التعليم بالواقع”. في مرحلة مبكرة من عمر الإنسان، يطلب منا أن نتذكر الوقائع، وأن ندعم عباراتنا، وأن نجمع الحجج ونتوقع الحجج المضادة، وأن نتخذ القرارات، وإذا كان معلمونا وأولياء أمورنا يؤمنون بأهمية التنوع الاجتماعي، فسيطلبون منا أن نحترم آراء أولئك المخالفين لنا. ربما يحاول بعض النقاد الاجتماعيين إقناعنا بأن ثمة خطأ في هذه الصورة وهو انفصالها عن الواقع. قد يقولون: لو أن مدارسنا وعائلاتنا دربت النشء على الاستعمال الصحيح للعقل في مجالات الحياة العامة فلن تبلغ ديمقراطيتنا الحالة المهترئة التي هي عليها الآن.
مما لا ريب فيه أن ثمة بعض الحقيقة هنا. لكن هذا الموقف العام يعمينا عن رؤية العوائق التي يمكن أن تعترض طريق ممارستنا لقوانا المنطقية أحياناً. في إطار بيئة العمل مثلاً هناك حاجة إلى هذا التعاطي الموضوعي مع المشكلات واتخاذ القرارات بشكل جماعي، وهذا التعاطي له ثمرته المرجوّة. فعندما تكون هناك إجابة واضحة ومحددة لمشكلات معينة فإن مسار الإنتاج يستمر في عمله. بكل حال، لا شيء أكثر إضراراً لهذا النوع من الفهم المرغوب في وجودنا الاجتماعي من ذلك الاعتقاد الشائع الذي يرى أن كل المشكلات لها أجوبة (أو أن كل المشكلات هي مشكلات).
الإجابة الثانية تدعو ليس إلى كبت العمليات الأولية بل إلى تحريرها. فنحن كلنا، كما يقول المنطق، نحتاج إلى تقدير ذواتنا الداخلية. لذا فعلينا أن نتمتع بالإجازات، وأن نتناول الحبوب، وأن نذهب للسينما، ونشرب، وندخن، ونتسوّق. وعندما ننتهي من إرضاء ذواتنا وإشباع رغباتنا (هذا الشغف الأمريكي في القرن العشرين) فإننا نعود إلى سلوكنا العقلاني بشكل أفضل، متحررين ولو مؤقتا من الاضطراب الداخلي الذي يميزنا كبشر.
لم يقترح فرويد أياً من الإجابتين أعلاه، ولكنه ارتأى أن علينا الانخراط في محادثات معينة تجري على النحو التالي: أن يتحدث الشخص بدون أي شعور بالقلق من أنه يستعمل الكلمات بشكل “صحيح”، أي بشكل صالح وملائم، ويستمع إليه الآخر بدون إصدار أي حكم عليه أو يعتبر أن بعض ما يقوله أهم من بعضه الآخر. وبخلاف المحادثات العادية، والتي تراعي قواعد اللياقة الاجتماعية واللباقة الأدبية، فالمحادثة هنا ليس لها أية قواعد صارمة. إنها تذهب بشكل جريء إلى أماكن محرجة، وتصبح مكثفة جداً، وقد تصبح غالباً مملة مما يجعل الطرفين يلتزمان الصمت لفترة طويلة.
من وجهة نظر خارجية، قد تظهر المحادثة على أنها بلا أهمية، بل إنها مضيعة للوقت. لكن، في انفصالها عن روتين العلاقات الإنسانية اليومية، فيمكن للمحادثة أن تفتح فضاءً لحياتنا الباطنية المعقدة حيث هناك يتم تفكيك العُقَد تدريجياً. لذا يتم في المحادثة عزل كل عقدة ومقارنة وكذلك فحصها بغيرها من العقد. بعد فترة من هذه الممارسة، نكتسب ما يمكن تسميتها، مع هايدجر، بـ”علاقة حرة” مع كل جزء من أجزاء ذواتنا وعالمنا. وهكذا فتكلّس تلك الأجزاء يبدأ في التحلل والتحرك. بعض الأجزاء تظهر، وبعضها تختفي، لكن اللغز لا يمكن اكتماله أبداً. هدف المحادثة، بأية حال، ليس الاكتمال، ما دمنا أحياء، إنما القدرة على التغيير. لا يتضمن هذا التغيير انتصاراً للعمليات الثانوية، ولا هو تحرير للعمليات الأولية، بل انفتاح لخطوط التواصل والتفاعل بينهما.
لقد اعتدنا أن نضع، مؤقتاً، حياتنا الباطنية المعقّدة جانباً، وأن نعود إليها فقط كما هي بلا تغيير. “الواقع دائماً هو على ما هو عليه؛ يمكننا فقط أن نأمل بفترات راحة بين حين لآخر”. هذه عقيدة سيكيولوجية وسياسية معاً. ما كان فرويد يقترحه، وما ظل عنصراً ثورياً في فكره اليوم، هو أن البشر لديهم القدرة على التغير بشكل فعليّ وواقعي، وأن هذا التغيير سوف يلغي الآثار السلبية التي تلقيناها في التنشئة الاجتماعية والتعليم، وذلك لتجنب “الانعزال لفترة عن الحياة الواقعية” التي نختارها طوعاً أو كرهاً.
ما هو مفارِق في اقتراح فرويد هو أن العنصر الثوري يتطلب “عملاً” أقلّ (= وكلاماً أكثر). اليوم هناك ميل إلى القيام بالأفعال، كما لو كنا لا نعاني من هذه الإنتاجية المفرطة والآثار السلبية الناجمة عنها. محادثات (فرويد) طبعا هي ضرب من العمل المضني، مع ذلك فهو حتماً كما يقول الاقتصاد الكلاسيكي “عمل غير إنتاجي”.
وبدلاً من الانخراط في ثقافة الإنتاج، وما يلازمها من سمات ثقافية مثل “لننفس قليلاً عن التوتر”، يرى فرويد أن أفضل حلّ هو تجديد عالمنا نحو الأفضل عبر نمط جديد من المحادثات مع بعضنا بعضاً. هذا النمط الجذري من المحادثات يُفهم على أنه هراء مطول، شيء لا يمكن احتماله في هذا العالم السريع الذي نعيش فيه. فهناك كتب نريد قراءتها، وأفواه تحتاج إلى أن نطعمها، ومقابلات لا بد أن نحضرها، وشركات ندافع عنها أو نقاتل ضدها، وأماكن جديدة نريد زيارتها، وأطفال جوعى نريد إنقاذهم … فمن لديه الوقت لتلك المحادثات المطولة؟ مع ذلك، فلو لم نسمح لأنفسنا أن نكون “غير منتجين” أحياناً فسوف يظل الواقع كما هو غير قابل للتغير نحو الأفضل.
وفقاً لحنّة آرنت، العالَم، كنقيض للأرض، هو شيء صنعه الإنسانُ. لقد تم تخطيطه ورسمه عبر أفكار أتت من عقولنا، وتألف عبر أعمال يدينا. إنه، بدون هذا البعد الإنساني العميق، ليس إلا كومة من الأشياء، واقعاً صلباً نجري فيه ونحن نراوح في المكان نفسه. إن ما يعطي مرونةً للواقع، حسب آرنت، وكما أكد فرويد من قبل، هو إتاحة الوقت للحديث مع الآخرين بدون غايات مسبقة، وبدون التنقل السريع من موضوع لآخر، وبدون البحث عن حلولٍ، وأخيراً بدون تجنب المشكلات الفعلية للتواصل. إنه تواصل يأكد أهمية اكتشاف فرويد. إذا مات التحليل النفسي، أي: إذا توقفنا عن العناية بمشكلات فرويد، فإن القدرة البشرية على التغيير سوف تتوقف أيضاً.
الكاتب: مرشّح لنيل درجة الدكتوراه في فلسفة الدين بجامعة كولومبيا، وباحث منتسب في مركز كولومبيا للتدريب والبحث في التحليل النفسي. تتمحور أطروحته حول إعادة تقييم مفهوم الدافع نحو الموت في التحليل النفسي.
المترجم: فيلسوف، عضو جمعية الفلسفة السعودية، من مؤلفاته: ١- الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، ٢- قراءات في الخطاب الفلسفي، ٣- الوجود والوعي، ٤- الهرمنيوطيقا (ترجمة).
المراجع: مؤلف ومترجم سعودي.
Freud’s Radical Talking
Benjamin Y. Fong
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”