2025-10-09
٢٩ مايو ٢٠١٧
فور هزيمة إسبانيا المدمرة والسريعة من الولايات المتحدة عام 1898 م أعاد الفيلسوف الإسباني ميغيل دي أونامونو (1864-1936) إحياء القديس الراعي الإسباني للقضايا الخاسرة، ألا وهو دون كيخوته دي لا مانشا. إنه لمن المناسب أن أونامونو اختار عمه المجنون بطلاً لإسبانيا، الفارس الخيالي والمتشرد لثربانتِس، والذي رافقته هزائم سريعة ومدمرة.
من الناحية الفنية، خسر كيخوته معركته الأخيرة، الأمر الذي دفعه إلى استعادة حواسه لبرهة قليلة قبل موته، وكان محبوبا بسبب جنونه و”مبارزته طواحين الهواء” وخوضه الأحلام المستحيلة، وحتى أونامونو تراجع عن ذلك واحتفى بتحول كيخوته نحو العقلانية في فراش موته. لقد قدحت الحرب إدراك أونامونو أن الجنون الكيخوتي في أوقات اليأس يُنقذ الناس من الشلل الملازم للانهزامية.
حث أونامونو بقية حياته رفاقه الإسبان على مزاولة الكيخوتية التي تتبنى الشجاعة الأخلاقية الضرورية بغية القتال لأجل القضايا الخاسرة دون الاكتراث بما يفكر به العالم من حولهم. أما اليوم ففي كثير من عوالم المجتمع والسياسة، داخل وخارج الولايات المتحدة، تبدو وكأنها قضايا خاسرة بالنسبة لكثير من الناس، وقد نبلى بلاء حسنا حين نأخذ في الحسبان الطابع الكيخوتي للجنون.
حرر كيخوته نفسه عبر التخلي عن حواسه، أو بالأحرى تخلى عن الحس المشترك، من أجل الانخراط في مهام عديمة الجدوى كالهجوم على طواحين الهواء. كان مرافقه سانشو بانزا، في المشهد الأكثر شهرة في الكتاب، يحذره بقوله إن العملاق الذي يتحفز كيخوته لمجابهته ليس سوى طاحونة هواء ينبغي أن تُترك وشأنها. إن الحس المشترك عند سانشو يخبره أن المعارك التي تتأكد فيها الهزيمة لا تستحق أن تُخاض، لكنه نفس الحس المشترك الذي أبقى سانشو معزولا عن العالم: وبالمثل فإن هذا الحس المشترك يمنعنا من الانخراط فيما يمكن أن يكون أثرى القضايا: أي تلك الخاسرة.
وجد أونامونو أن سانشو من كان واهما وليس كيخوته، فهو متصلب في اعتقاده أن طواحين الهواء لا تستحق الهجوم عليها وأنه في عموم الحال لا ينبغي القتال في المعارك الخاسرة. إن نتيجة هذا النمط من التفكير عادةً ما تقود إلى الشلل، لأن معظم الأعداء يملكون حجم طواحين الهواء وليسوا بحجم البشر. اعتقد سانشو أن الهجوم على طواحين الهواء أمر خطير أما اليوم فسنصف ذلك بمضيعة الوقت، وبما أن الحس المشترك يخبرنا أيضا أن الوقت ثمين كالمال، فالأجدى بنا إذن أن ننصرف عما لا يجلب لنا الربح.
وفقا للمنظّر السياسي جوشوا داينستاج في كتابه (التشاؤم) الصادر عام 2006 كان فقدان كيخوته للحس المشترك قد منحه مقياسا مفعما بالمعنى، لكي يقرر أي المعارك تستحق أن تخاض، فلم يهاجم كيخوته طواحين الهواء لأنه اعتقد بإمكانية هزيمتها بل لأنه استنتج أن هذا هو الفعل الصحيح. ومثل هذا فإننا لو أردنا أن نصبح فاعلين حقيقيين في العالم سيخبرنا أونامونو أن من الواجب علينا قبول الهزيمة، وأننا لو تخلينا عن الاعتقاد بالحس المشترك الذي لا يجد سوى المعارك الرابحة وأنها وحدها ما يُستحق خوضه، حينها سنتبنى ” الشجاعة الأخلاقية” لأونامونو، ونصبح متشائمين كيخوتيين: فنحن متشائمون لأننا ندرك عقبات الهزيمة وكونها عالية، وكيخوتيين لأننا سنحارب على كل حال. إذن فالتشاؤم الكيخوتي يتميز برفضه أن تكون عقبات النجاح وحدها ما يُحدد قيمة معركتي.
في تأويل أونامونو الماركسي لمشهد طواحين الهواء، أدرك كيخوته أن الطواحين وإن بدت غير مؤذية فإن هؤلاء “العمالقة من ذوي الأيدي الطويلة” قد أبقوا سكان البلدة غافلين ومشتتين بما يكفي لينسوا اضطهادهم على أيدي مصانع الخبز الحديثة. احتج أونامونو، فبدلا من أن يتسائل السكان عن فائدة هذه المصانع للمدن، انتهى الأمر بالسكان أن يمجدوا ويبجلوا الكهرباء والمحركات البخارية. لعل الطواحين الهوائية في العصر الحالي تبدو مثل بلدة صغيرة تنال متجر والمارت، أو مثل أطفال الروضة حين توزع عليهم أجهزة آيباد مجانية. يفشل الحس المشترك هنا في مسارين: الأول وهو الأكثر حدوثا ويشمل المعتقدات المندفعة نحو التقنية ومساواتها بالتقدم. والثاني يقع حتى في الحالات التي يدرك فيها الناس الأذى المحتمل للمجتمع فإنهم عادة ما يعتقدون بعجزهم عن مقاومته، والحس المشترك يصم ذلك بمضيعة الوقت والجهد. رفض كيخوته هذه الحُسبة وفضل بدلا عنها المقياس الأخلاقي ليقرر من وماذا يُقاتل. لهذا تحرر كيخوته وتُرِك يقاتل في القضايا الخاسرة ويُهزم.
ثمة تحذير: وهو أن التشاؤم الكيخوتي لن يمر مرور الكرام لدى العامة، فإذا اخترت أن تعيش وفق نمط الحياة هذا، سيخبرك أونامونو أنك ستواجه الجحود وإصدار الأحكام نحوك والسخرية. كتب أونامونو أن الشجاعة الأخلاقية ” لا تواجه الإصابة الجسدية أو فقدان الثروة أو حتى بخس الشرف وإنما السخرية: أن يُنظر للشخص بأنه مجنون أو أبله”. وفي سياق الحياة الجارية فإن التشاؤم الكيخوتي سيبدو وكأنه وقوع على وجوهنا أمام العامة، ولهذا سنحتاج للشجاعة الأخلاقية لقبول ذلك. سيضحك الناس علينا كما فعلوا مع كيخوته، وسيسخرون من قراراتنا حين نحارب الآلات الكبيرة، لكن علينا القيام بذلك لا لأجل الفوز أو لإبهار الآخرين. سنعتاد في خاتمة الأمر على تجاهل انتقادات الزملاء والأصدقاء الذين يتبعون القول السائر: ” مالم تهزمهم، فاتبعهم”.
إن إنماء الشجاعة الأخلاقية يعلمنا إبعاد انتباهنا عن أولئك الذين يسيئون فهم النقد ويوجهونه نحو حكمنا على الأشياء التي نجدها جديرة بالاهتمام، والتي تعتمد على تفكيرنا حيال العالم الذي نرغب في العيش فيه ونوعية البشر الذين نرغب أن نكونهم. ومما يجدر ملاحظته أن كيخوته أصابه الجنون بسبب قراءته للكتب، وهذا بالتحديد هو نمط الجنون الذي أيده أونامونو، فقد لا يكون بمقدورنا أن نحسّن العالم، لكن يمكننا على الأقل أن نرفض المشاركة في عالم فاسد.
لقد قاوم أونامونو بنفسه وبطريقة كيخوتية دكتاتورية بريكو دي ريفيرا وانتقده ومؤيديه علانية، ونتيجة لذلك تم إبعاد أونامونو من منصبه كعميد للجامعة عام 1924 ونُفي إلى جزيرة فويرتيفينتورا. هرب أونامونو بعد ستة أشهر إلى فرنسا حيث أعلن عدم رغبته بالعودة إلى إسبانيا حتى يسقط ريفيرا أو يموت. سقط ريفيرا ومات بعد ست سنوات عام 1930 وعاد أونامونو إلى إسبانيا لكنه صدح بنقده لفرانسسكو فرانكو والذي أبعد أونامونو أيضا عن منصبه الجامعي وأبقاه تحت الإقامة الجبرية، وهناك توفي أونامونو بعمر الثانية والسبعين عام 1936 في منزله مثل كيخوته، لكنه على الخلاف منه لم يستعد حواسه.
قبل ثلاث قرون من أونامونو، كتب ثربانتس بصورة تفصيلية عن حياة عقيمة تقاوم عالماً فاسداً، حارب كيخوته العمالقة لأنه وبسبب ضميره الطيب لم يستطع الامتناع عن محاربتهم، ويمكننا على نحو مشابه تحويل أنفسنا إلى متشائمين كيخوتيين- من النوع الذي يطلق عليهم الحالمين والمثاليين أو حتى المجانيين- أن نقرأ أكثر، ونرفض الحس المشترك، ونعيد تأويل ما يؤسس لمضيعة الوقت. إذا حدث ونجح ذلك على نحو عالمي ربما سنتفاجأ على نحو سعيد، وإذا فشلنا فسنكون قد تأهبنا لذلك. سيكون المجد للنجاحات غير المتوقعة والفشل المحتوم سواء بسواء.
الكاتبة: أستاذ مساعد للفلسفة في جامعة تكساس ريو قراند فالي.
المترجم: طريف السليطي مؤلف ومترجم سعودي.
المراجع: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابيّ فلسفة الآخرية و الفلسفة حين تنصت في الظلام.
In Praise of Lost Causes
Mariana Alessandri
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”