2025-10-12
١٤ أغسطس ٢٠١٨
نحن بعيدون جداً عن رواقية سينيكا، لكن الحزن، وطريقة تعاملنا معه، لا يزالان جزءاً أساسياً من التجربة الإنسانية.
منذ ما يقرب من ألفي عام، كتب الفيلسوف الرواقي سينيكا الأصغر، رسالة تعزية إلى والدته، هيلفيا، بمناسبة نفيه من روما. كتب سينيكا، الذي تم إرساله إلى المنفى إلى كورسيكا بتهمة إقامة علاقة غرامية مع ابنة أخت الإمبراطور الروماني كلوديوس، أن “الرجل الذي يرفع رأسه من المحرقة الجنائزية لا بد أن يحتاج إلى بعض المفردات الجديدة غير المستمدة من الحياة اليومية العادية”. تعزية لتهدئة أحبائه. لكن الحزن العميق المهيمن يمكن أن يسلبنا القدرة على اختيار الكلمات، لأنه غالباً ما يخنق الصوت نفسه.
وعلى الرغم من أن معظمنا لن ينتج أبداً تحفة بلاغية تتجاوز المألوف كما يفعل سينيكا، إلا أننا نحاول مع ذلك الاستجابة للحزن للعثور على كلمات، في اللحظات أو الأشهر أو حتى بعد عمر من المأساة، التي تعبر عما نجده غير قابل للتفسير.
عندما كنت مراهقة في نيجيريا، كنت مترددة بشأن رسائل التعزية. كل محاولة للعثور على الكلمات المناسبة بدت عديمة الجدوى. كيف يمكن للكلمات أن تسد الفجوة التي أحدثها الفقد بين المكلومين وأولئك المعزين حسني النوايا؟ عندما فقد أحد زملائي والده، بدت الخطوط المنحنية على بطاقة التعزية التي اخترتها مثيرة للسخرية، بل فجّة. وحين عاد إلى المدرسة بعد أيام من الجنازة، ذهبت أنا وصديقاتي للجلوس معه، مستعداتٍ لنردد عبارات المواساة القلبية التي كنا ناقشناها سلفاً.
في النهاية، لم أستطع أن أعطيه البطاقة، وتمتمتُ بكلمات المواساة دون إيمان حقيقي بما أقول. شعرت وكأنني مخادعة، أواجه ألمه بعبارات مكررّة بينما كان واضحًا أن لا شيء سوى عودة الزمن إلى الوراء وإحياء والده يمكن أن يكون كافياً. كررت تنبؤاتٍ عن مستقبلٍ غامضٍ قد يحمل له غايةٌ ما تُخفف ألمه الحالي، مرددةً شبه حرفياً وعوداً جوفاء كنتُ أسمعها أنا نفسي منذ وفاة والدي.
كحال معظم الذين جلسوا إلى جانب صديق أو قريب أو حتى غريب مكلوم، أردت أن أقول شيئاً يخفف عنه، يواسيه. لكن ما كنت أعرفه كانت تفوح منه رائحة اليأس: كان الحزن عبارة عن برية بلا معالم، صحراء مليئة بالسراب، تجعل التقدّم فيها مستحيلاً قياسه. ولم أستطع كتابة ذلك على بطاقة؛ بدا الحديث عن أقواس قزحٍ تظهر بعد العواصف أكثر مقبولية. علاوة على ذلك، فإن ما ظننته أقرب إلى الحقيقة كان يبدو أيضاً شخصياً على نحو مفرط، نظراً لأن أياً من أولئك الذين تعاطفوا معي لم يتحدثوا عن الهاوية التي لا قرار لها التي يُخلّفها الحزن فقد خيّل إليّ أنني الوحيدة التي لم تر بعد قوس القزح، وأنّ ما مررتُ به لا يمكن أن يفيد أحداً سواي.
مرّت سنوات قبل أن يملأني سؤال سي إس لويس في كتابه “حزن متأمل” – هل أنا أدور في حلقات مفرغة، أم أجرؤ على أن أتمنى أن أسير في لولبٍ صاعد؟ بشيء من الراحة النابعة من التعرّف إلى ذاتي. وجعلني أتساءل عما إذا كان ينبغي لي أن أشارك زميلي هذا السؤال، بالإضافة إلى تنبؤاتي الأكثر تفاؤلاً.
في حين أن الكثير قد تغير في العالم منذ زمن سينيكا، إلا أن الحزن وطرق تعاملنا معه، سواء على المستوى الفردي أو كمجتمعات، يظل جزءاً حيوياً من تجربتنا الإنسانية، متشابكاً بشكل لا ينفصم مع أعلى مستويات الحب والمودة. في بعض النواحي، الحبيب هو أيضاً الثكل المنتظر، وكما نتمنى للناس التوفيق عبر سنين حياتنا عندما يتخرجون أو يتزوجون أو يصلون إلى مرحلة معينة أخرى، فإننا في النهاية سنجد أنفسنا نكافح من أجل إيجاد الطريقة المناسبة لمواساة أحبّتنا حين يبلغ أحد أفراد مجتمعنا تلك المحطة النهائية التي لا مفر منها.
يأتي العزاء في عدة أشكال، وعلى مر السنين أصبحت مفتونة بصورة معينة منه. تفتح العديد من العائلات سجلّ تعازٍ حين تفقد أحد أحبائها، وفي نيجيريا، غالباً ما تكون هذه السجلات عبارة عن دفاتر متواضعة ذات غلاف مقوى يملأها المعزّون بذكرياتٍ عزيزة عن المتوفى: زميل يشيد بذكائها، وعضو في الجوقة يستغرق في الحديث عن تلك المرّة التي أبكى فيها الجمهور بأدائه لأغنية “Amazing Grace”، وجار يتذكّر كيف ساعدته في دفع فواتير المستشفى. غالباً ما أخاطب المتوفى مباشرة في مثل هذه السجلات، لكن بطبيعة الحال أكون أنا من يشعر أحياناً بالتحرر الشافي بعد أن أدوّن امتناني بخط مرتجف. أكتب على أمل أن تمنح ذكرياتي الجميلة بعض السلوى للمكلومين إن عادوا يوماً إلى فتح السجّل من جديد. فأفعال الحداد التي نقوم بها، حتى عندما تهدف إلى تكريم الموتى، فإنها في جوهرها تواسي الأحياء في المقام الأول.
ربما يكون هذا الجهد حسن النية لمواساة الأحياء هو ما يدفعنا إلى تقديم عزاء لا يتجاوز حكايات مفعمة بالأمل تلقي نظرة خاطفة على المأساة، مركزةً بدلاً من ذلك على ما يقع بعدها، في نقطةٍ ما تتجاوزها. في رسالته إلى هيلفيا، يذكر سينيكا أمه بالكوارث البعيدة والقريبة، مثل وفاة والدتها أثناء إنجابها، وفقدان حفيدها، ونفيه هو نفسه. يكتب لها: “لم أخفِ عنكِ مصيبة واحدة، بل كومتها كلها أمامكِ. وقد فعلت ذلك بشجاعة، لأنني قررتُ التغلب على حزنكِ لا أن أخدعه”. إنها محاولته لمساعدة والدته المفجوعة على استعادة توازنها من خلال تبني المبادئ الرواقية التي يضعها. وفي حين أن فكرة إمكانية التغلب على الحزن تبقى موضع شك، فإن الاعتراف الصريح بالدمار الذي حدث بالفعل، والذي يبدو أن سينيكا يعتبره جزءاً أساسياً من محاولة التغلب على الحزن، يظل فكرة جديرة بالاعتبار.
من المتفهم أن نسعى لحماية الثكالى من خلال الرد بالأمل عندما يعبّرون عن يأسهم، ونعطي تأكيداتنا بوجود ضوء في نهاية النفق، وقوس قزح بعد العاصفة. وعلى خلاف ما كان يؤمن به سينيكا، فإن هذا الإلهاء قد يكون في بعض الأحيان جزءاً ضرورياً من عملية التعافي نفسها. ومع أنه لا توجد ضمانة بأن من ينجون من العاصفة سيرون قوس قزح، إلا أنه يجب عليهم على الأقل التعامل مع واقع الأرض المبتلّة الزلقة تحت أقدامهم، ومع جهد تعلّم كيفية السير في الطريق من جديد. وحتى لو لم نتفق مع مبادئ سينيكا، فإن تعزيته لهيلفيا ترينا أنه يمكننا أن نقدم أملاً يعترف بواقع اليأس.
إذا جاز لنا إعادة صياغة مقولة منسوبة إلى توماس مان، فإن موت شخص ما شأن يخص عائلته أكثر مما يخصّه هو نفسه، ولذا فإن هذا الحدث بالنسبة لمعظم العائلات كارثي ومغير للحياة. وحتى في لحظة تقديم التعزية، يبقى هناك مجال للاعتراف بهذه الحقيقة، إذ أن الاستعداد لتأمل هذا الواقع مع المفجوعين يمكن أن يكون هو بذاته شكلاً من أشكال العزاء.
الكاتبة: روائية، ومؤلفة رواية “ابقَ معي” (Stay With Me).
المترجم: كاتب ومترجم سعودي.
المراجعة: أستاذة مساعدة في الأدب الإنجليزي في كلية الجبيل الصناعية. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
Our Deepest Condolences
Ayobami Adebayo
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”