كتابة: براند إيفانز، ترجمة: هادي الصمداني، مراجعة: عبدالله المطيري

٢٣ فبراير ٢٠١٧
في كتاباتها أواخر الستينيات، استعادت حنة آرنت مصطلح ” العصور المظلمة” لتلتفت إلى مخلفات الحرب والمعاناة الإنسانية.
لم تكن آرنت مهتمة فحسب بتوضيح الأحوال الشمولية التي انحدرت إليها البشرية، بل كانت كذلك مدركة إدراكًا تامًّا لأهمية الأفراد الذين يقفون بنزاهة في وجه إساءة استخدام السلطة بشتى صورها القمعية. لقد فهمت أن مواجهة العنف تتطلب تعاطيًا فكريًا دائمًا: فكلنا حرّاس نسترشد بالدروس والتحذيرات التي تمليها علينا قرون من الدمار غير المبرر.
خلال العام الماضي، انخرطنا في سلسلة من المناقشات مع مثقفين بارزين ملتزمين كلٌّ منهم مهتمٌّ على طريقته بتطوير نقد للعنف يتناسب مع عصرنا.
ومن المؤسف أن العديد من التحذيرات المقدمة صارت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. نرى الآن في مختلف أنحاء العالم انطلاق موجات تعصب مدفوعة بسياسات كراهية وانقسام ظهرت لتثير بشكل مباشر المخاوف اليومية لدى أولئك الذين أغوتهم أشكال جديدة من الفاشية.
إن المهمة التي تضطلع بها مقالات ذا ستون تتمثل في استكشاف القضايا الراهنة والقضايا العابرة للزمن. لعل من الواضح أن العنف ظاهرة من هذا القبيل، ظاهرة تتطلب تفكيرًا تاريخيًا هادفًا ومدروسًا. ولكننا هنا أمام مشكلة، فإذا كانت مكافحة العنف تتطلب أشكالاً جديدة من التفكير الأخلاقي الذي لا يمكن تطويره إلا في سعة من الوقت، فماذا يعني هذا للحظتنا الراهنة التي يُوجّه فيها التاريخ وجهة أخطر وحركته تزداد تسارعًا كل يوم؟
ربما تكون إحدى الإجابات أن النقد الناجع للعنف لن يأتي من أكاديمي مستقل يقدم تفسيرات مختزلة لأسباب العنف ويقترح له حلولاً تقليدية. مثل هذا الموقف يفضي إلى تدجين الفكر، وجعله يقدم في الغالب خدمة سياسية لقلة من ذوي الحظوة. نحن بحاجة في الواقع إلى إجراء حوار جاد بين المفكرين والناشطين والفنانين وغيرهم، حوار يؤدي إلى فضاء خطابي جديد للبحث المفتوح، حوار يصير فيه الشعر منبرًا لمطالب الكرامة الإنسانية، وهذه الحوارات متعددة التخصصات ليست معنية فقط بالكشف عن أزمات الفكر السياسي المعاصر ولكنها تشجع على إعادة التفكير في معنى أن تكون إنسانًا في القرن الحادي والعشرين.
ولعل من المفيد إضافة إلى ذلك إعادة قراءة المقالات الواردة في هذه السلسلة لاستخلاص ما يهمنا من المواضيع والأفكار والاهتمامات المشتركة. رغم أن الحوارات المختلفة التي أجريناها ليست شاملة بأي حال من الأحوال، إلا أنها في الواقع تقدم لنا إطارًا محتملاً نبدأ من خلاله نقاشًا مثمرًا لمشكلة العنف وتصورًا لعلاقات أكثر سلمية بين شعوب العالم. هنا إذن أحد عشر درسًا جديرة بالاعتبار:
- أن للعنف تاريخًا. بدأ سايمون كريتشلي هذه السلسلة بدعوة جريئة للتعرف على سجلات العنف في تاريخنا المشترك وكيف أنه لا يزال بوسعنا الاستفادة من الماضي لفهم اللحظة الحالية فهمًا أفضل. من المهم جدًا فهم الطبيعة الدورية للعنف إن كنا نريد السيطرة على تجلياته المعاصرة ونتطلع إلى الشروع في عملية صعبة ومحفوفة بالمخاطر تهدف إلى كسر دائرة العنف هذه. لا ينبغي لنا أبدًا التفكير في العنف تفكيرًا مجردًا. إن العنف كما يقول كريتشلي “واقعٌ معاش” له “تاريخٌ ملموس” مرتبطٌ بموروث اسمه المأساة الإنسانية. ونحن في الواقع حين نسلط الضوء على مآسي التاريخ على وجه التحديد، فإننا نستطيع نحن البشر أن نتخيل عالماً يتجاوز المعاناة والتقصير. ولهذا السبب تأتي أهمية الفنون في مساعدتنا على تطوير رد فعل مدني على العنف.
- أن العنف ليس إلا انتهاكًا للأجساد وتدميرًا لحياة البشر. لهذا السبب، لا ينبغي لنا البتة دراسة العنف دراسة موضوعية خالية من العواطف. يحيل العنف إلى ضرب من العمل السياسي المرتبط بشعور عارم لا يمكن فصله عن اهتماماتنا الأخلاقية والسياسية. لقد واجهنا هذا الأمر مباشرة عندما أدلى جورج يانسي بشهادته عن تلقيه عددًا من التهديدات العنيفة ردًّا على مقال له سابق نشره بعنوان “عن العرق”، وهي تهديدات تكشف لنا عن ارتباط سياسات الاضطهاد العنصري بنفسية العنف. يتعلق العنف بتلك الأحوال التي يُنْبَذ فيها الفكر ويتم فيها تطبيع فكرة اضطهاد “الآخر” وجعل ذلك جزءًا من الوجود في الحياة اليومية. والكلمة بالتالي يمكنها دون مبالغة أن تترك في المرء جروحًا غائرة.
- أنه لكي يترسخ العنف لابد من محو السجل التاريخي للاضطهاد من الذاكرة. إن هذا الاستخدام لسلاح الجهل يشير إلى ممارسة العنف من خلال النسيان الجماعي، كما يوضح ذلك هنري جيرو. إننا نرى من يفعل ذلك في اللحظة المعاصرة، فالمطالبات بالعودة إلى “ماض عظيم” تمثل ما كان والتر بنيامين يعتبره في كتابه “نقد العنف” نداءً صريحًا للعنف الأسطوري، وهو نداء ناجم عن الرغبة في خلق وحدة زائفة بين الناس من خلال إثارة انقسامات بالغة الضرر فيما بينهم. في هذا السياق يقول جيرو إن الاستراتيجيات الفعالة لمكافحة الإرهاب تبدأ من التعليم على وجه التحديد، فالتعليم يعتبر على الدوام شكلًا من أشكال التدخل السياسي الذي ينتج إن كانت الأمور على ما يرام أفرادًا ذوي عقل ناقد وشجاعة على قول الحقيقة في وجه السلطة والوقوف إلى جانب المضطهدين في العالم، لأنهم يتذكرون العنف الذي يود الظلمة أن ينساه الناس.
- أن العنف ينطوي على تدمير للعادات والمساحات والإيقاعات التي تشكل حياة الإنسان. وعلى قول آرنت مرة أخرى، فإن الأمر كله يتعلق بخلق حالة من “إلغاء العالم”، وكما قال زيجمونت باومان فإن أكثر ما يتجلى فيه هذا الأمر هو محنة اللاجئين الذين يفرون من تدمير يفوق التصور – وهو في كثير من الأحيان تدمير لكل ما قد يرغبون في العودة إليه. صحيح أن محنة اللاجئين تكشف عن حدود مستوى تعاطف المجتمعات الأخرى مع الغرباء. لكن اللحظة المعاصرة تظهر بشكل خاص كيف يضع الانتهازيون السكان الضعفاء في مواجهة عمال محفوفين بالمخاطر في وجهاتهم التي هاجروا إليها، لذلك تترسخ حالة سياسية خانقة تكون فيها لغة الأمن، سواء الأمن الجسدي أو الأمن الاقتصادي، عبارة عن معادلة صفرية تقتات على المخاوف الإنسانية والأخلاقية. وعلى هذا النحو تفوت فرصة إقامة علاقات تعاونية متبادلة مبنية على حالة الضعف المشترك بين هؤلاء.
- إن التسييس العلني للعنف يمكن أن يجعل بعض أشكاله عقلانية ومقبولة في نظر العموم. وكما تقول غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك، لا ينفصل هذا الأمر عن السياسة القائمة على الهوية. في الواقع، قد يشتمل العنف على عمليات مهينة تهدف إلى حرمان بعض الأنفس أو طرق العيش من استحقاقها للأمن ونيل بعض الحقوق. إن العنف يصم البعض بأنهم بطبيعتهم أقل شأنًا من غيرهم وأنهم يمكن التخلص منهم. كما يمكن أن يقع العنف في كثير من الأحيان ضمن الأطر القانونية، التي لا تحمي الحقوق بل تضفي باسم النظام الشرعية على شتى أنواع الاعتداءات العلنية والممنهجة. وهذا يتطلب منا فهماً أفضل لما نعنيه بالعدالة، لا سيما ونحن نحاول حماية كيان الديمقراطية الهش.
- أن التصدي للعنف يتطلب منا بالتالي إعادة التفكير في ما يشكّل الجرائم ضد الإنسانية. وبما أن استدامة وجود الإنسان تعتمد بالضرورة على ازدهار الظروف البيئية، فإن مشكلة العنف توجهنا أيضًا نحو بيئة فكرية كاملة. وهذه المسألة عالجتها أدريان بار معالجة مباشرة حين سلطت الضوء على أهمية المجال الحيوي للكوكب، وطالبت بفهم جديد لمسؤوليتنا المشتركة عن الظروف البيئية الداعمة لحياتنا. كما طرحت سؤالاً حول المعنى الحقيقي للجريمة ضد الإنسانية في مثل هذا السياق. لقد اتضح أن هناك طرقًا عديدة يرقى فيها الضرر الذي يلحق بالبيئة إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. يطرح مثل هذا العنف أسئلة وجودية عميقة حول معنى أن تكون إنسانًا ومعنى الجرائم الأنطولوجية التي نشنها ضد بعضنا البعض، أي الجرائم التي نرتكبها بحق الإنسان نفسه.
- أن العنف لا يقوم به وحوش بلا عقل فحسب. معظم أعمال العنف للأسف ليست أعمالًا استثنائية أو منحرفة. ولآرنت عبارة شهيرة تقول فيها إن من يقومون بالعنف هم غالبًا أشخاص تافهون مطيعون لأوامر غيرهم وغير قادرين على التفكير بأنفسهم. وكما جادلت سيمونا فورتي في هذه السلسلة، فإن العنف في العصر الحديث لا يمكن تفسيره ببساطة على أنه سلب للحياة أو نزعة لاشعورية للقتل على الطريقة الفرويدية. لقد أثبت العنف مرارًا وتكرارًا أنه جزء لا يتجزأ في كل حضارة من مزاعم الحقيقة التي تسخر خطاب التقدم البشري لصالحها، مع مناداتها بالأمن والنظام، بل يمارس العنف باسم الحرية والعدالة. إن مثل هذا العنف غالباً ما يطمس الفروق بين ما هو صواب وما هو خطأ. والواقع أن الميل إلى تبرير العنف أو إدانته اعتمادًا على مصطلحات مطلقة كالخير والشر يخفي علاقات أكثر تعقيدًا ويتحاشى الإجابة على أسئلة صعبة لكنها ضرورية تتعلق بتسوياتنا المخزية.
- أن العنف يأخذنا مباشرة إلى العلاقات الأخلاقية. وأوضح ما يكون ذلك في الانتقالات الفكرية اليوم إلى ما بعد الإنسانوية والمطالبة بحقوق البشر وسائر الحيوانات، كما يقول كاري وولف. المسألة الرئيسية هنا هي تعطيل أشكال التسلسل الهرمي الأخلاقي التي تسمح بارتكاب أعمال عنف ضد حيوان معين، سواء كان إنسانًا أو غير ذلك، فالعنف قد يتم تطبيعه من خلال قبول بعض أطر التسمية البيولوجية. لذا فإن النقد الناجع للعنف يتساءل عن أشكال الحياة التي تقر الأيديولوجية السائدة قتلها، وأشكال الحياة التي تقر حمايتها ضمن نظام أبعد ما يكون عن الطبيعة كهذا النظام. إن مكافحة هذا الأمر تتطلب معالجة التصنيفات البيولوجية والعنصرية التي تسمح بحدوث عمليات القتل دون اعتبارها جريمة. المسألة هنا مسألة وعي كما هو الحال في كثير من الأمور.
- أن العنف يبدأ في أذهان الناس، وفي الأغلب الرجال. على هذا النحو، ستظل المشكلة غير مفهومة فهمًا جيدًا ما دمنا لا نفسر العنف إلا من حيث ماهية المقتول وكيفية قتله، وحجم الدمار الذي يحدثه العنف، أو أي مقياس كمي آخر. يزعم ريتشارد بيرنشتاين أن علينا ألا نغفل مسألة أن العنف مرتبط بمسألة إزهاق أرواح الناس، لكنه في الوقت ذاته مرتبط بالحط من كرامة الناس وعقائدهم بل والأوضاع الفكرية التي يعتبرها نظامهم الاجتماعي معقولة. وعليه فإن فهم الحالة الفكرية للعنف أمر بالغ الأهمية إذا ما أردنا أن تكون لدينا الأدوات الفكرية الضرورية التي تمكننا من كسر أغلال العنف. لئن كانت أشكال العنف العدمية في الواقع من سمات العقل الرجعي، فإن من المطلوب التغلب على سلبية الفكر.
- أن هناك مقاومة للعنف في كل مكان رغم مأساوية الوضع الإنساني. إلا أن المشكلة تكمن في التعبير عن قوة تلك المقاومة وهمجية العنف الذي تواجهه تعبيرًا يحث الناس على العمل لا على التمادي في الوضع الراهن. وكما أوضح نيكولاس ميرزوف، فقد بلغ التشبع الإعلامي مرحلة لم يعد معها وعي العامة يتأثر حتى بنقل ما لا يطاق من أشكال العنف البشعة. وإن كان من تأثير فإنه في الغالب يأتي بطريقة تمجّد الفرد على حساب المعاناة الجماعية أو تبرر عنف الدولة تجاه تلك الأقليات المضطهدة التي وجدت نفسها على هامش التاريخ. والأمر المهم هنا هو فهم قوة الصورة والوسائط المحسّنة للمعاناة عبر وسائل الإعلام المختلفة. لا يكفي مجرد لفت الانتباه إلى العنف، بل المطلوب هو الفهم المؤيد للمقاومة والقادر على تقديم صورة ذهنية بديلة وخلاقة عن أولئك المستمرين في إبادة الناس يوميًا.
- أننا من أجل هذه الغاية سنفوز بعالم مختلف لو اعترفنا بإنسانية الفنون، كما أوضحت براخا إيتنغر. الفن هو المساحة الأخلاقية التي نواجه فيها آلام الآخرين ونتأمل أهميتها لمجتمعنا الإنساني المشترك. الفن استجابة مباشرة وإبداعية لصدمات المعاناة. إنه رفض لصورة العالم، صورة تقدم لنا على أنها قدر كارثي. وبذلك يضع الفن نفسه إلى جانب الحياة، فهو يقاوم طقوس الموت والدمار مقاومة مباشرة. بينما نواجه في الواقع المزيد من مشاهد العنف المدمرة يوميا، يمكننا من خلال الفنون إقامة روابط أخلاقية قيمة ورقيقة تبرز أهمية الحب والرحمة وارتباط الناس بعضهم ببعض.
لا شك أن الإنسانية تقف على مفترق طرق خطير، ونحن مضطرون إلى التساؤل عما إذا كنا نمتلك الثبات الأخلاقي لإنقاذ أنفسنا من انقراض حقيقي. لا شك أن العام الماضي كان مليئًا بالتحديات في بحثنا عن الإجابات، ودعنا فيه خيرتنا إلا أننا شهدنا عودة قوى الكراهية والغضب المكبوتة من جديد. لكن دعونا نتذكر أن المستقبل لم يتقرر بعد. نحن بحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى إيجاد ما يدعونا إلى الإيمان بهذا العالم، فهو العالم الوحيد بين أيدينا. ونحن نتطلع إلى المستقبل، دعونا إذن نعترف بالمضطهدين الذين يرفضون قبول قمع التاريخ لهم، وبالكتّاب الذين تبكينا كلماتهم، وبالفنانين الذين يقاومون حلكة الوجود، وبالشعراء الذين يجرؤون على الكتابة عن حب لا يمكن وصفه بالكلمات، وبالموسيقيين الذين يهزون أرواحنا، وبالأطفال الذين لا تهزمهم حدود الحاضر أبدًا.
الكاتب: براد إيفانز، أستاذ العنف السياسي بجامعة بريستول في إنجلترا ومؤسس ومدير مشروع تاريخ العنف (@histofviolence) المخصص لنقد مشكلة العنف في القرن الحادي والعشرين. وقد ألف مع هنري جيرو كتاب «تضييع المستقبل: فتنة العنف في عصر الاستعراض» وكتاب «الحياة المرنة: فن عيش حياة المخاطر» مع جوليان ريد.
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
المراجع: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.
Humans in Dark Times
Brad Evans
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”