١٨ أغسطس ٢٠١٨
إن فناءنا ليس أمرًا يمكن التغلب عليه، بل هو جزء لا يتجزأ من إنسانيتنا.
لننظر في حقيقة تتعلق بحياتنا الحديثة: إن كل المنتجات التقنية التي نشتريها ونستخدمها تقريبا، مصممة وفق استهلاك مخطط له مسبقا. إنها مصممة على نحو خاص كي تفشل بعد مدة قصيرة نسبيا، بعد سنة أو اثنتين أو ربما خمس سنوات. لو كنت تشك في ذلك ففكر في عدد المرات التي اضطررت فيها لاستبدال جوالك الذكي؟ لقد صُممت هذه الأدوات كي تموت.
تقع المفارقة في أن ثقافة وادي السيليكون المنتجة لهذه الأدوات تبدو مهووسة بالحياة إلى الأبد.
تضم حركة “إطالة الحياة” هذه الأيام مجموعة من الرأسماليين المغامرين مثل ملياردير التقنية بيتر ثيل الذي يتدفق ماله على شركات ناشئة تخص مكافحة الشيخوخة وإطالة الحياة (اتضح أن الشائعة زائفة حيال السيد ثيل وتلقيه نقل دم دوري ممن أعمارهم ثمانية عشر عاما لكن ثمة بالتأكيد شركة حقيقية وهي أمبروزيا بلازما تزود نقل البلازما الشابة مقابل ثمانية آلاف دولار للتر الواحد) وأطلقت قوقل شركة كاليكو لزيادة “فهم البيولوجيا التي تتحكم بالعمر” وعززت هذا الهدف عبر إجراء الأبحاث على حيوان الخلد العاري ذو العمر الطويل، وهو نوع لا تظهر عليه أعراض الشيخوخة إلا نادرا.
صار إغراء منع الموت صناعة جاذبة في السنوات الأخيرة، وكان بول بينيت وهو شريك في شركة استشارات التصميم IDEO من ضمن أوائل من المستفيدين من ذلك، وقد وصف ملف في مجلة كالفورنيا صنداي عام 2015 لحظة إلهام أصابته: “أوه” .. أخبر نفسه: “عليك أن تعيد تصميم الموت”. ومنذ ذلك الحين انتعش سوق جديد بأكمله. صار الموت قنطرة للاختراعات ومعرضا للشراكات ومبدأ منظما لوجبات عشاء شبكات العلاقات. لقد صار الموت تطبيقا تقنيا.
ثمة أناس يدعون أنفسهم بـ” مستثمري الحياة الطويلة” ويرون أن الموت ليس مشكلة وإنما أمر يجب محوه. فبدلا من السعي خلف حياة صحية، لماذا يجب أن نموت من الأساس؟ يبدو أن ما يمكث تحت السطح في السعي خلف حياة خالدة هو عدم رغبة مؤيديها بتخيل عالم يخلو منهم.
هذه النزعة غير إنسانية بصورة جذرية تماما.
في كتابها الجديد (الأسباب الطبيعية: وباء الصحة ويقين الاحتضار وقتل أنفسنا لحياة أطول) كتبت باربرا إيرينرايك: ” تستطيع التفكير بالموت بمرارة أو استسلام فهو عقبة مأساوية لحياتك، ويمكنك أن تتخذ كل وسيلة لتأخيره. أو بصورة أكثر واقعية أن تفكر بالحياة بوصفها مقاطعة أبدية للخلود الشخصي، فتنتهزها كفرصة قصيرة لتتأمل وتتفاعل مع العالم الحي والمذهل من حولنا”.
كنت مأخوذة بصياغة السيدة إيرينرايك، وفكرة أن تجربتنا في الحياة برغم تفردها بالنسبة لنا، إلا أنها جزء من تيار أوسع. إن وقتنا الذي نعيشه ما هو إلا ومضة، وحين نرحل فإن عالما كبيرا يستمر بالدوران. وعلى هذا المنوال فإن تقديرنا لحيواتنا يرتبط بالوعي المتنامي باستمرار بقصرها النسبي. هذا الوعي والقبول بموتنا هو ما يجعلنا بشرا، وهذا ما أعتقد بأنه الدافع في عيشنا لحياتنا إلى أقصى حد.
ثمة فترة وجيزة من حياتي الشخصية – تقل عن عامين – قمت فيها بالزواج، وفقدت والدتي بسبب السرطان، ووقع لي الإجهاض، واشتريت منزلا، وأنجبت طفلا. مررت بكل هذا في زمن قصير وهذا ما جعلني أشعر بإنسانيتي للغاية. هذا التدافع من النهايات والبدايات جعلني واعية جدا بهشاشة الحياة بجانب كوني مفتتنة بكثافتها البهيّة: لقد خسرت بالتزامن مع الربح الوفير. وعيي اليوم بالطبيعة الوقتية للحياة هو ما جعلني مصممة على اقتناص ومراقبة الأيام المتبقية والتفاعل معها. إنها المعرفة بمدى سرعة تغير الأشياء أو اختفائها وأحيانا مأساويتها، هذا ما يوقد لدي الاستعجال أن أعيش في الحاضر.
أتذكر أثناء مراهقتي مدى أسفي على بشاعة الحياة وجورها، حتى أجابني والديَّ أن المرء لا يثمّن ما هو جيد دون تجربة ما هو سيء. وحينئذ كان سماعي لهذا مزعجا: وكشخص بالغ سيظل مزعجا برغم كونه صحيحا تماما.
سيكون من النادر أن نفكر بالتحديات التي نواجهها مالم تكن هنالك نهاية لأعمارنا على الأرض. هل ستكون حالة أجسادنا مؤثرة على أحوالنا العقلية؟ هل سيحيا الجميع إلى الأبد أم فقط من يملكون الموارد ينالون ذلك؟ هل ستنسحب من الحياة الأبدية؟ وهل ستتلاشى اللامساواة أم أنها ستصبح مشكلة متعسرة الحل؟ هل سيكون بمقدورنا كسب التعاطف والحكمة والبصيرة التي ترد إلينا مع تقدم العمر؟
يمكن للمنجزات التقنية أن تغير الحياة، لكن أعتقد أن إنسانيتنا تتعالق بصورة لا تنفصم عراها مع واقعة موتنا. ولا يمكن لينبوع الشباب العلمي أن يتسبب في تغيير ذلك.
الكاتبة: كاتبة رأي في صحيفة النيويورك تايمز متخصصة في التصميم والعمارة.
المترجم: مؤلف ومترجم سعودي.
المراجع: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.
.Life Is Short. That’s the Point
Allison Arieff
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”