تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢٩ يناير ٢٠٢٠
الفيلسوف الراحل الذي تحدّى الصور النمطية من خلال البقاء مخلصاً لحسّه الأخلاقي
السير روجر سكروتن، الذي مات مؤخرا عن عمر يناهز الخامسة والسبعين، كان صديقاً قديما لي وعزيزاً علي. ورغم أننا نمثل مدارس فلسفية مختلفة -حيث كان روجر يميل للتوجه الكانطي، وأنا منغمس في الأرسطية- إلا إن اهتماماتنا وخلاصات أفكارنا تتلاقى. لقد تعلمتُ الكثير والكثير من قراءة أعماله، وربما تعلمت أكثر من نقاشاتي وحديثي معه.
روجر معروف على نطاق واسع بأنه فيلسوف محافظ، وبالفعل هو أهم مفكري عصره المحافظين في الثقافة الأنجلو-أمريكية. كان صحيحاً أنه محافظ، وكان صحيحا أيضا أنه فيلسوف؛ فالعديد من رؤاه الفلسفية يمكن أن تعدّ “محافظة”. لكن من أجل الإنصاف يجب أن نشرحَ، فيما يتعلق بأية وجهة نظر لروجر، المعنى الذي نقول فيه إن أفكاره محافظة. ولفعل ذلك، سوف نتعرف على الأساليب المهمة التي تحدى بها روجر “الصور النمطية”.
مثله مثل بقية المحافظين، كان روجر سكروتن يمقت ويعارض “الشيوعية” التي كان يعدها جريمة مدمرة للروح البشرية (وليس أنها مجرد وعد فاشل بتحقيق الرخاء الاقتصادي). وهذا الكره ينسحب أيضاً على كل أشكال “الاشتراكية”. من ثم لم يجد ما يثير اهتمامه في بلده بريطانيا لسيطرة حزب العمال، حتى في عهد توني بلير، ولا في الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة حتى قبل أن ينحو نحو النزعة اليسارية مع مطلع القرن الحادي والعشرين.
مع ذلك، كان روجر بعيداً كل البعد عن الاقتناع بالفلسفة الاقتصادية لحزب المحافظين في بريطانيا أو للحزب الجمهوري في أمريكا (اللذين كانا يعبران عن التيار المحافظ في التقاليد الأنجلو-أمريكية). فروجر، أولاً وقبل كل شيء، يعتقد أن إيمان مارغرت تاتشر وميلتون فريدمان الحماسي لحرية السوق جعل السياسة الاقتصادية ذات أهمية مركزية مبالغة فيها، بشكل جعلها تعتمد جداً على حل المشكلات الاجتماعية وتشكيل المجتمع. وقد اعتقد أن هذا يجعل المحافظين ههنا يشاركون الماركسيين، خصومهم الألداء، الخطأ نفسه.
ثانيا، رغم أن روجر يسلّم بآليات السوق، ويعارض التخطيط المركزي وكل شكل من أشكال حكومة الرفاه التي تعزز التبعية، فإنه ينكر أن تضمن نتائجُ التبادل الحر العدالةَ بشكل تلقائي. فالحرية، رغم أهميتها، كانت بالنسبة له مجرد قيمة واحدة من بين قيم أخرى لا تقل أهمية كالاجتماع والتضامن والنظام والآداب والشرف والإيمان.
من هنا فقد اعتقد روجر بأهمية وجود مجموعة متنوعة ومبررة من التنظيمات؛ من أجل حماية الأشخاص والمؤسسات القيّمة للمجتمع المدني – تلك التي يسميها إدموند بيرك (وروجر يكاد يكون بيركياً = لتأثره به) بالزمر الصغيرة التي ينبغي أن تلعب دوراً رائداً في تعزيز قطاعات الصحة والتعليم والرفاه، وفي صياغة أجيال جديدة حائزة على فضائل تساهم في ازدهار المجتمع. هنا، يتفق روجر مع رمز المحافظين الجدد الأمريكيين إرفينغ كرستول في إعطاء الرأسمالية بعضاً من التقدير.
روجر كان يرغب في بعض الأوقات أن يصطف مع الليبراليين الكلاسيكيين، وحتى ليبراليي المدرسة النمساوية، في صراعهم ضد الشيوعية، وقد قام بكل شجاعة بإعطاء ندوات وساهم في إنشاء مؤسسات سرية في تلك البلدان الأوربية الشرقية التي يسيطر عليها الولاء للسوفيات. لكن تحالفهم مع الليبراليين يجب ألا يحجب عنا حقيقة اختلافه عنهم؛ فهو يرفض “الفردانية” بأي معنى من معانيها الجادة. ولا شيء أهم لمبادئه الأخلاقية والسياسية من الاعتقاد بكرامة الفرد الإنساني، ولكنه يدرِك أن ازدهار الأفراد يحدث في إطار العلاقات، ولا سيما تلك العلاقات التي تبدأ مع الأسرة.
كان الخلاف بين روجر وزملائه الليبراليين يتمركز حول اعتقاده بـ”الالتزامات غير المقرّرة بل والطبيعية” (= أي تلك القرارات التي لم نتخذها كأفراد واعين وأحرار كما يرى الليبراليون). هذه الالتزامات هي واجبات مفروضة علينا ببساطة لأننا بشر ولأننا مولودون في أسرة ومجتمع وأمة. من هنا، فنحن لم نأتِ للعالم أفراداً مجردين من أي شيء ثم نبدأ في اتخاذ هويات لنا من الصفر!
روجر كان من الفلاسفة الرواد المنافحين عن حب الوطن وحب الذات، أو ما أسماه بـ”الأوكوفيليا”. هو، كإنسانوي ومسيحي، يقرّ بأن علينا واجباً تجاه البشرية ككل، حتى واجب الحب (بوصفه جزءا من الإرادة أكثر منه جزءاً من العاطفة) يجب أن يعطى للبشرية: الكل إخوة وأخوات تحت مظلة الرب الذي جعلنا على صورته. لكن روجر لا ينكر كذلك أن من حق الفرد أن يؤمن، بشكل طبيعي وصحيح، بأن يمنح حباً خاصاً وواجباً خاصاً بأهله المقربين وبمن يشاركونه في نفس الدين ونفس المجتمع ونفس المدينة.
إيمان روجر بالأوكوفيليا، ورفضه للتعددية الثقافية (التي يعتبر أنها غير ثقافية من حيث إنها تصهر الاختلاف بين الثقافات في ثقافة واحدة ذات طابع أيديولوجي تقدمي) استفزّ الجهلة والمتحمسين حتى اتهموه بكره الأجانب والتعصب العرقي. في الواقع، روجر يحترم الثقافات الأخرى أكثر من احترام التقدميين الذين أعرفهم لها. لقد تعلّم اللغة العربية من أجل أن يقرأ القرآن، وأعجب بالإسهامات غير التقليدية التي قام بها فلاسفة الإسلام القدماء. كما أنه درس بعمقٍ العقائد الهندوسية والشرقية بحثاً عن الحكمة التي كان يرى أنهم يملكونها.
كان روجر أحياناً يشرح نزعته المحافظة بطريقة بالغة البساطة. فهو يروي ذات مرة أنه كان يشاهد جموع المتظاهرين في الشوارع من نافذة شقته في باريس إبان أحداث مايو ١٩٦٨. وقتها أدرك أن تأسيس أو بناء الأشياء ذات القيمة (كالمجتمعات والأمم والأنظمة القانونية والاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني) هي مهمة صعبة وتأخذ وقتاً طويلا، بينما هدمها عمل بسيط جداً ويتم في لمح البصر. عندها أدرك أنه أصبح محافظاً بل إنه كان محافظاً، كما يقول.
إضافة لما سبق، أدرك روجر أن أهم الأشياء التي يبنيها الناس (وهي أهم حتى من الكاتدرائيات وأعمال الفن الرائعة والموسيقى التي يعشقها) ليست أشياء ناتجة عن التخطيط، إنما تتطور بشكل عضوي عبر الزمان، ومن خلال المحاولة والخطأ، مثل الأعمال التي يتم إنجازها بشكل جماعي (مثل القانون العام في إنجلترا). من هذا المنطلق، يرى روجر أن على المحافظين أن يسعوا لحماية تلك الأشياء المهمة ضد أولئك الذين يهدفون لتدميرها بحماسةٍ طائشة تحت مسميات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وحتى حرية السوق.
يمكن للمحافظ أن يبارك الإصلاح المعتدل (فالأشياء بسبب طبيعتها العضوية تنمو وبالتالي تتغير)، لكن الهدف الأساسي للمحافظ هو “أن يحافظ”. وبالمناسبة، فهذه الروح جعلت روجر محافظاً معتدلاً متحمساً، ولكن على الطراز القديم. فهو مناصر لحزب المحافظين الخضر الداعي إلى المحافظة على البيئة والإيمان بأهمية الإشراف على النظام الطبيعي. كان روجر يعتقد أن الإشراف الجيد ينبغي أن بدأ بالمناظر الطبيعية المحلية وبالعمران المحلي.
يؤمن الفلاسفة اليساريون –وهم ورثة الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩ كما يمكن القول– بأن غاية الفلسفة هي إيضاح الكيفية التي ينبغي من خلالها إعادة صياغة العالم. وبعبارة ماركس الشهيرة “الفلاسفة حتى الآن اكتفوا بتفسير العالم، بينما الأهم هو تغييره”. وكما لو كان يلعب دورَ أحد رجال ماركس الصرحاء فيما يتعلق بأحد أكثر مساراته صرامة، سعى بعض الفلاسفة المحافظين إلى إيضاح النظام الاجتماعي كما هو (أو كما كان حتى مجيء اليسار فتغير) وذلك لأن النظام الاجتماعي كان يجب أن يبقى كما هو وأن يكون بشكل جوهري غيرَ قابل للتغيير.
كان روجر فيلسوفاً محافظا من نوع مختلف. ومن المقرر أنه لم يعتقد أن الفلسفة، أو أي شيء آخر، يمكن أن يخطط بنجاح أو يصلح العالم بشكل جذري. كما أنه لم يكن ماركسياً حتى ولو بمعنى محدود. ولم يكن متعاطفاً مع روح الثورات كثورة عام ١٧٨٩ أو عام ١٩٦٨. لكنه كان يعتقد أن الفلسفة يمكن أن تساعدنا لكي نرى قيمةَ الخير في الأشياء (كالمجتمعات والمؤسسات) حتى ولو كانت هذه القيم التي تطورت عضوياً ناقصة. ويمكن للفلسفة أن تبيّن لنا لماذا يجب أن نناضل من أجل المحافظة على تلك الأشياء الجيدة والخيرة، وأن نساهم في تطويرها عبر الإصلاح التدريجي المعتدل.
الكاتب: أستاذ فلسفة القانون في جامعة برينستون.
المترجم: فيلسوف، عضو جمعية الفلسفة السعودية، من مؤلفاته: ١- الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، ٢- قراءات في الخطاب الفلسفي، ٣- الوجود والوعي، ٤- الهرمنيوطيقا (ترجمة).
?Roger Scruton Was a Conservative. But What Kind
Robert P. George
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”