تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٦ مارس ٢٠٢٠
نحتاج أن نوازن من جديد بين ملذاتنا الشخصية و بقائنا جميعًا على هذا الكوكب
من الوارد مع استمرار فيروس كورونا في الانتشار، أن يجد أحدنا نفسه في الحجر الصحي. لا شك أنَّ مثل هذا الاحتجاز قد يدفعني إلى الجنون. أسبوعان يُؤخَذَان من حياتي. لكن مع ذلك، سأقرّ بعدالة ذلك؛ لأني أعلم أنَّ حريتي أصبحت تشكل خطرًا حقيقيًّا على إخوتي في الإنسانية.
الآن دعونا نضحِّ أكثر بحرياتنا. هب أنك ملزم قانونًا بتثبيت درجة الحرارة في البيت على 24 درجة في الصيف وعلى 19 درجة في الشتاء من أجل تقليل الانبعاثات الكربونية. والمبدأ نفسه، فقد يتبين أنَّ حريتك في العيش كما تشاء تشكل خطرًا على مصلحة المجتمع. ولكنني سأستشيط غضبًا؛ فأنا لا أستطيع تحمل حر الصيف. قد لا تبالي أنت بهذا الأمر. لكن ماذا لو طُلب منك أيضا أن تستبعد معظم اللحوم الحمراء أو كلها من نظامك الغذائي؟ ماذا لو أصبح النائب اليساري بيرني ساندرز رئيسًا للولايات المتحدة وأقنعَته الناشطة البيئية غريتا ثونبيرغ بأن يجعل لكلّ واحد منّا نصيبًا محددًا من الرحلات بالطائرات النفاثة؟ في مرحلة ما قد يخطر ببالك أنَّ العولمة المتزايدة لبعض الأمور السيئة كتغير المناخ والأمراض المعدية تشكل تهديدًا للمجتمع الليبرالي.
ستكون حينها على حق، فأساس الليبرالية الكلاسيكية هو مبدأ جون ستيوارت ميل القائل بأنَّ لكل فرد الحرية في قول ما يشاء وفعل ما يشاء ”ما دام لا يتدخل في شؤون الآخرين التي تخصهم، ولا يتصرف إلا في حدود ميوله وأحكامه في الأشياء التي تخصه هو”. يقول ميل على سبيل المثال إنَّ الإفراط في شرب الخمر أمر يستحق الاستهجان لكن لا ينبغي حظره؛ إنه تصرف شخصي. لكن هناك مشكلة في هذه الصياغة، فحتى في عصره تعرض ميل للانتقاد على هذا التمييز المصطنع إلى حد بعيد بين السلوك الذي يمس الآخرين والسلوك الذي لا يمسهم. ما يربط الناس اليوم بعضهم ببعض أقوى بكثير مما كان يربطهم في إنجلترا الفيكتورية. تُرى ماذا كان ليقول ميل لو كان في إنجلترا الفيكتورية نظام صحي – كالنظام الصحي الموجود حاليًّا – يتقاسم فيه الجميع تكلفة علاج المدمنين على الكحول؟ ماذا كان ليقول عن التدخين لو علم عن تأثير التدخين السلبي؟ فالتدخين السلبي في الواقع من العلامات الفارقة لزمننا هذا.
بدأت أشعر بالقلق إزاء هذا السؤال قبل أسابيع قليلة عندما ذهبت إلى مدرسة ثانوية في مانهاتن أعمل فيها متطوعًا لتدريس الكتابة. كنت أدرّس فتاة كانت قد كتبت مقالًا يدْرُس البراهين الدالة على أنَّ التحول إلى نظام غذائي نباتي يحد من ظاهرة الاحتباس الحراري. لقد عَلِمَت الفتاة أنَّ الميثان وأكسيد النيتروز المنبعث من الأبقار والأسمدة يجعل الثروة الحيوانية مسؤولة عن جزء كبير من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، أو ما يعادل سُبْعَ انبعاثات قطاع النقل بِرُمَّته (حتى النقل الجوي). مما يشمله هذا التقدير لنسبة انبعاثات الثروة الحيوانية تلك الانبعاثات الناجمة عن نقل اللحوم ومنتجات الألبان، وهي في الواقع انبعاثات ينبغي إدراجها ضمن انبعاثات قطاع النقل.
دعت هذه الطالبة -مراعاةً للضعف البشري، بما في ذلك ضعفها هي- إلى ما يُسمَّى “النظام الغذائي بنسبة الثلثين”، حيث يمكنك تناول اللحوم ومنتجات الألبان في وجبة واحدة في اليوم. سألتها عن هذه الوجبة التي سترتكب فيها هذه الخطيئة، فأجابتني أنها وجبة “الإفطار”.
“حقًّا، ماذا عن الغداء والعشاء؟”
فكان ردها: “أعتقد أني سأتناول السَّلَطات”.
ثم قلتُ لها: “لن أقوى على فعل ذلك”. لم أكن هازلًا. فأنا لم أقسم على ترك اللحوم، حتى بعد اطلاعي على القصص المروعة لتربية الدواجن والمواشي، وعلمي بما يسببه النظام الغذائي القائم على البروتين الحيواني من أضرار على الكوكب. ولكن ربما ينبغي عليّ فعل ذلك، أو ربما أضطر له.
هل أنا بذلك أثير المخاوف؟ ربما. في الواقع تضع المقترحات التشريعية الشاملة كالاتفاقية الخضراء الجديدة العبء كله تقريبًا على قطاع الخدمات والشركات، وليس علينا نحن المستهلكين، وذلك بجعل ثمن الكربون باهظًا مما يجعل هذه الشركات مجبرة على التحول إلى الطاقة المتجددة بحلول عام 2050م. يقترح قانون تغير المناخ الهولندي الذي تم تمريره مؤخرًا خفضَ الانبعاثات بمقدار النصف في غضون عقد من الزمان من خلال زيادة إنتاج طاقة الرياح في عرض البحر، ومن خلال التحول السريع إلى السيارات الكهربائية والترقيات التقنية لشبكات الكهرباء. لكن من غير المرجح أن يتمكن العالم من الوصول إلى صفر انبعاثات دون تغييرات جادة في سلوك الناس. توصي الاتفاقية الخضراء الجديدة أيضًا بـالزراعة المستديمة التي تتضمن عادة خفض انبعاثات الميثان من الماشية، بينما يستهدف القانون الهولندي لحم الخنزير وذلك من خلال فرض القيود على إنتاجه.
في الواقع سيأتي اعتراض على السيناريو الذي أقترحه، ويتمثل هذا الاعتراض في السؤال: ثم ماذا؟ فالتعديل الأول للدستور الأمريكي لا يضمن لك الحق في تناول شرائح اللحم، ولا يوجد في وثيقة الحقوق الأمريكية نص يحظر الحجر الصحي. كل ما ينشأ عن هذه القيود من إزعاج أو مضايقة لا يكاد يُصَنَّف على أنه انتهاك للحرية. لكنَّ هذا ليس صحيحًا تمامًا، فلا يهتم إلا القلة القليلة منا بحقهم في التعبير والاعتقاد. كان غضب الناس مبرَّرا عندما حاول العمدة ميشيل بلومبرغ حظر بيع المشروبات الغازية كبيرة الحجم فقد كانوا يدافعون عن حق من حقوقهم التي تهمّهم حقًّا.
لقد وضح هذه المسألة بنجامين كونستانت، وهو من ليبراليي القرن التاسع عشر الآخرين العظماء. شاهد كونستانت الثورة الفرنسية في شبابه، ثم شاهد الإرهاب ينتشر في سويسرا الآمنة، وخلص من ذلك إلى أنَّ أخطر الناس هم المتعصبون الذين يعلّمون غيرهم كيف يحيون حياتهم، أو هم أولئك الذين نسميهم الشموليين في القرن العشرين. وذكر كونستانت في محاضرة رائعة لا يكاد يذكرها أحد ألقاها عام ١٨١٩م، أنَّ الديمقراطيين في اليونان وروما وكذا الثوريين في عصره “قد سلّموا بأنَّ خضوع الفرد الكامل لسلطة المجتمع متوافق مع الحرية الجماعية”. وذكر كونستانت أنَّ الحداثيين على النقيض من ذلك “يهدفون إلى التمتع بضمان ملذاتهم الخاصة، ويرون أنَّ الحرية تكمن في الضمانات التي تمنحها المؤسسات للتمتع بهذه الملذات”.
لم يكن كونستانت يفكر في حق ماري أنطوانيت في لعب دور الراعي، بينما كان رعاياها يتضورون جوعًا، بل كان يفكر في حق الفرد في فتح متجر وبناء منزل بدلًا من أن يُجَنَّد في جيش نابليون لنشر قيم الجمهورية في عموم أوروبا. نحن -العصريين- نبني المؤسسات، ونؤسس الأنساق المضمرة، لضمان حماية هذه الملذات الخاصة. هذه هي الفردانية الليبرالية. ولكن ما الذي نفعله عندما نرى أنَّ بعض هذه الخيارات تهدد صحة الآخرين وحياتهم؟ سيتعين علينا الوصول إلى توازن جديد بين ما يحق للمجتمع أن يطلبه منا وما يحق لنا الاحتفاظ به لأنفسنا.
لكننا فعلنا ذلك من قبل. وأوضح مثال ما فعله الرئيس فرانكلين روزفلت عندما كبح فائض السوق حتى يستعيد الاقتصاد المدمَّر عافيته؛ فأثار غضب الكثيرين في قطاع الأعمال. لقد كان فرانكلين روزفلت ليبراليًّا، –وهذه هي الكلمة التي وصف بها نفسه– لكنه كان على استعداد لتقييد بعض الحريات من أجل النهوض بحريات أكبر. وكما قال ذات مرة: لا مانع لدى الليبرالي من استخدام الحكومة من أجل أن يضمن للمواطن العادي “حقوقه الاقتصادية والسياسية الخاصة وحريته وكذا حقه في السعي لتحقيق سعادته”.
باختصار، لطالما واجهت المجتمعات الليبرالية مشكلة التدخين السلبي، ولكن ما كان مرضًا استثنائيًّا في يوم من الأيام أصبح الآن مرضًا مستوطنًا. وكما قال فرانكلين روزفلت: طعام شخص سمٌّ لآخر. عندما حلت مصيبة الكساد كان الرئيس قادرًا على استدعاء الشعور بالهدف الجماعي اللازم للشروع في تغيير واسع النطاق. لكنَّ أزمتنا بطبيعة الحال تبدو لكثيرين بعيدة كل البعد عن أي دعوة من هذا القبيل إلى التضحية. ومما زاد الطين بلة أننا انتخبنا رئيسًا طائشًا لم ينذر نفسه لتعزيز روح الهدف الجماعي، بل كرس نفسه لإثبات حقه في فعل ما يشاء. ليس دونالد ترامب في واقع الأمر ليبراليًّا في أي جانب من الجوانب إلا في التزامه الأحادي والضيق بمصالحه الخاصة.
هل يمكننا إقامة توازن جديد قبل أن تصبح ميامي تحت الماء؟ أتمنى لو أننا نفعل ذلك ضمن عملية كبرى من المداولات الديمقراطية. تتوخى الاتفاقية الخضراء الجديدة مرحلة مدتها ١٠ سنوات من “التشاور الشفاف والشامل”، وهذا فيما يبدو لي هو الصحيح. لكني لاحظت أنَّ التزام الكُتّاب بَدَوا بالتشاور مع “المجتمعات الضعيفة” و “التعاونيات العمالية” التي لم أكن أعرف أنَّ لدينا هذا العدد الكبير منها، بَدَا أكثر من تشاورهم مع الوحوش الضارية، أعني: شركات الطاقة. وهذا الأمر أبعد ما يكون عمّا فعله فرانكلين روزفلت.
يمكن للهولنديين التوصل إلى توافق في الآراء حول المسائل الاجتماعية المؤلمة؛ لأنهم أمضوا الألف عام الماضية في العمل والتعاون على ما فيه مصالحهم. جاءت اتفاقية المناخ التي أُقرَّت العام الماضي بعد عام كامل من النقاش بين ممثلي جميع مجموعات المصالح. هذه ليست الطريقة التي تعمل بها الديمقراطية الأمريكية، وخاصة في السنوات الأخيرة. نحن في أمريكا نسمح لمجموعات المصالح هذه بالدخول في معارك ضارية ضد بعضهم بكل ما يستطيعون حشده من المال والنفوذ. لا تظهر التشريعات إلا بعد حروب استنزاف، وفي ذلك إعاقة لممارسة الأعمال التجارية؛ إذ يطلب من الأطراف كافة تقديم التنازلات. قد يتدهور الوضع في مرحلة ما بحيث تصبح النائبة أوكاسيو كورتيز رئيسة للولايات المتحدة وتتمكن من تمرير اتفاقية جديدة خضراء عبر الكونغرس. عندها سنضبط درجات الحرارة في بيوتنا ونتبنى النباتية بنظام الثلثين ونعتاد عليها كما اعتدنا على الفوضى والملل الذي اعتدنا عليه من الإجراءات الأمنية في المطارات: لن يكون لدينا خيار غير ذلك.
أو ربما نرتقي إلى مستوى المسؤولية: فنتعلم كيف نتعاون لبناء السدود أمام الفيضان الذي يتهدَّدنا.
الكاتب: جيمس تراوب مؤلف كتاب: “كيف كانت الليبرالية؟ الماضي والحاضر والوعد بفكرة نبيلة”.
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
Our “Pursuit of Happiness” Is Killing the Planet
James Traub
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”