2025-05-11
                                                          عبدالله الغانم
منذ اللحظة الأولى التي قرأت فيها “فلسفة الآخرية”، لم أشعر أنني أمام كتاب يطلب من قارئه أن يُعلن الحرب كما كان يفعل كبار قارئي التراث حين يقررون الخوض في المعارك المفهومية الكبرى: من أركون إلى الجابري، ومن العروي إلى غيرهم من الذين لم يكتفوا بمساءلة التراث، بل نصبوا أنفسهم شهودًا عليه، وأقاموا خطابهم بوصفه معادلاً نقديًا لما كان، وما لا يزال، يُمارس في اسمه. لم يكن عبد الله المطيري في هذا الكتاب مثخنًا بالجراح، ولم يظهر كمن عاش في خنادق المعرفة القديمة حتى خرج منها بوجه يحمل آثار الحريق. لكن، ولسببٍ لا أعرفه تمامًا، دفعتني نصوصه إلى الاستمرار في القراءة، لا من باب المتابعة الحماسية، بل من باب العودة المتقطعة، التأملية، التي تستأنف من حيث توقفت، وتفقد في كل مرة بعضًا من أحكامها الأولى.
في البداية، راودني انطباع بأن الكاتب يتجنب الاشتباك أو يتفادى الصدام، وكأن نصه لا يطلب أن يُقرأ كمعركة، بل كاقتراح. بدا لي أن المطيري لا يريد أن يُقنع، بل أن يُشير؛ لا يريد أن يُرغم، بل أن يُصغي. وهذا ما جعلني، في قراءاتي الأولى، أشكّ في أن يكون هذا النص قادرًا على أن يخلخل يقينًا، أو يوقظ سؤالًا، أو يفتح أفقًا لم نره من قبل. غير أن هذا الانطباع بدأ يتآكل كلما عدت إلى الصفحات، وكلما تأملت ما بين السطور. كان النص، في هدوئه الظاهري، يشتغل في الداخل. يهمس لا يصرخ. لكنه، بهذا الهمس، كان يفتت كثيرًا من المسلّمات.
في تلك العودة، بدأت أدرك أنني كنت أطلب من الكاتب أن يخوض الحرب بأدوات من سبقوه، وأن يُثبت جدارته بتقليد “البطولة الفكرية” كما عرفناها في فضائنا الثقافي؛ أن يثبت أنه من أهل النار قبل أن يُقال إنه من أهل المعنى. غير أن المطيري لم يفعل، ولم يدّعِ أنه فعل. ومع ذلك، فإن نصه لم يكن نصًا محايدًا، ولا مستكينًا. بل كان نصًا يمارس مقاومته من الداخل، لا في صراخ الادّعاء، بل في صمت الانتباه. ومع الوقت، بدا لي أن هذا النوع من النصوص هو الذي يُعَوَّل عليه. لأنه، وإن لم يخض معركة التراث، فقد خاض معركة تأويله: لا من خارجه، بل من داخله، لا بإدانته، بل بتفكيك شروط خطابه.
نحن الذين تربينا في بيئات ثقافية تُمجّد الحرب، ونقيس القيمة بمدى الجرح، نُخطئ حين لا نرى في النصوص الهادئة إلا علامة على التردد أو التواطؤ. لكن المطيري، في هذا العمل، لا يبدو مترددًا ولا متواطئًا، بل يبدو كمن اتخذ قراره بأن يُخالف لا الصيغة فقط، بل المنهج. لا يريد أن يُهاجم، بل أن يقترح شكلًا آخر للفكر، وللكتابة، وللقراءة.
وقد ازداد يقيني بهذا حين تذكرت واقعة شخصية جرت لي مع أكاديمية متخصصة في الدراسات الثقافية. كانت هذه الأكاديمية، والمتخصصة في الدراسات الثقافية (!) تنظر إلى كل ممارسة لا تنتج أثرًا خارجيًا باعتبارها مضيعة للوقت. سألتني، بدهشة مستنكرة، عمّا أراه في الشعر، وما الذي يجعل إنسانًا عاقلًا يكتب أو يقرأ شيئًا لا يؤدي إلى نتيجة مادية ملموسة. حاولت أن أشرح لها – دون أن أتوقع إقناعها – أن الممارسة، في معناها الفلسفي الأصيل، ليست مشروطة دائمًا بأن يكون موضوعها خارجيًا، بل يمكن أن تكون الذات هي الموضوع، والوسيط، والنتيجة. فالمعرفة، بحسب أرسطو، ليست كلها من جنس الإنتاج، بل منها ما هو من جنس الفعل التحويلي، أي ذاك الفعل الذي لا يقصد الخارج، بل يقيم في الذات ليتحوّل فيها.
لكنها لم تقتنع. ولم تكتفِ بعدم الاقتناع، بل بدأت تُهاجم من سمتهم “المثقفين الذين يختبئون وراء الكلمات، أو الأعلام”. قالت: بلا بلا بلا بلا! هكذا، بأداء يُشبه كائنًا بدائيًا فقد اللغة التي أنفق حياته في تعلّمها. وهنا، أدركت – على نحو حاد – أن المعركة ليست دائمًا بين من يعرف ومن يجهل، بل أحيانًا بين من يطمئن إلى الأداة، ومن يغامر بالقول. وأننا، كلما اقتربنا من الفلسفة بوصفها مقامًا لا بوصفها سلطة، اقتربنا من لحظة الصمت، لا لنعجز، بل لنتهيأ للقول.
ولعل هذا ما يفعله المطيري في كتابه. فهو لا يدخل بسيف، ولا يرفع راية، بل يدخل على أطراف الكلام، وكأنه يقول لنا: لا حاجة للانتصار كي نكتب، ولا حاجة للهزيمة كي نُقال. كل ما نحتاجه هو أن نتواطأ مع إمكان أن يكون هناك ما لم يُقَل بعد، أو ما لا يُقال إلا إذا سُكِت عنه قليلًا. وهذا ما يجعل نصه، في تقديري، مختلفًا. لا لأنه يقول جديدًا، بل لأنه يقول بغير الطريقة التي اعتدناها، بغير العبارات التي نطمئن إليها، بغير اللوازم التي نتقن تكرارها.
التفرد في كتاب المطيري لا يقتصر على موضوعه، بل يتجلى في بنيته ولغته معًا. ففي المكتبة السعودية، لا تزال الكتابة محكومة بتقاليد عقلانية صلبة، تتوزع بين إرث أرسطو الذي يربط القول بالنظام المنطقي، وامتدادات ديكارت الذي يحتكر الحقيقة عبر مركزية الذات العارفة، وانتهاءً بالوضعيين الجدد الذين اختزلوا الفكر في ما يمكن قياسه، واختبروه بمقاييس الإنتاج والفائدة الخارجية. أما المطيري، فقد كتب خارج هذا كله. كتب من مقام لا يُختزل في المعقولية الأكاديمية، ولا يُستجلب لتأكيد سلطة أو تعزيز رأي.
إنه نص كُتب في تقليد لا نعرفه، أو عرفناه على استحياء، كمن يتعرف على غريب يتكلم لغتنا لكن بلكنة لا نألفها. تقليد لا يرى في الفلسفة بحثًا عن المشكلة والحل، ولا يطلب من النص أن يتماهى مع منطق الأطروحة، بل يسمح له أن يكون تجربة في الكتابة، تجربة في القول، تجربة في الإقامة داخل الذات. وهو بهذا، يقترب أكثر إلى تلك الفلسفات التي مرت بمنعطف لغوي حاد، تلك التي لا ترى اللغة أداة لقول العالم، بل شرطًا لظهوره.
ومن هنا، لا يجب أن نتوقع أن يُستقبل كتاب كهذا داخل بنية ثقافية تكونت فيها الذوات على نمط من التلقي لا يعترف إلا بالوضوح البياني أو الصرامة الحجاجية. إذ مهما تباينت التيارات الفكرية الظاهرة في المجال السعودي والخليجي، بين ما يُسمى بالتيار السلفي التقليدي، وبين التيار الليبرالي الحداثي، فإننا سنكتشف، عند التأمل، أن هذه التيارات تشترك في شيء واحد: رفض كل نص لا يُبنى على الظاهرية، أو العقلانية الأداتية، أو الموضوعية المختزِلة، أو البيان الفقهي الموروث.
إنهما – رغم عدائهما المعلن – يجتمعان عند نقطة عميقة: الشك في كل ما لا يخضع للفهم الفوري، أو لا يُستوعب عبر جهاز مفاهيمي جاهز، أو لا يُعاد تمثيله بطريقة قابلة للتداول. ولذلك، فإن أي نص يكتب خارج هذا التواطؤ الخفي، يُتهم بالغموض، أو الانفعال، أو التفلسف الزائد، أو الميوعة المعرفية. بل يُساءَل، كما ساءلتني تلك الأكاديمية، عن جدواه، عن قابليته للتوظيف، عن أثره الخارجي. وكأن الفكر لا يُقبل إلا إذا صار شيئًا ملموسًا، قابلًا للبيع، أو التحكيم، أو التسويق الأكاديمي.
لكن المطيري لا يمنح هذه الطمأنينة. لا يمنح شيئًا جاهزًا. بل يطلب أن يُقرأ في مقام آخر. مقام لا يُنتَج فيه المعنى، بل يُكتشف. لا يُبنى فيه القول كما تُبنى المعارف، بل يُقال كما يُقال الشعر، أو يُرتّل الوحي، أو يُلمح الحلم. مقام لا يحاكم النص بما يقدمه، بل بما يفتحه. لا بما يُثبت، بل بما يُربك. ولهذا، لا يمكن أن يُقرأ هذا النص إلا من الداخل: لا من موقع المعرفة، بل من موقع الانفعال، من موضع الذات لا الموضوع، من سؤالٍ يُطرح على القارئ لا على الكاتب.
وإذ نقول هذا، لا نقوله من باب التمجيد المجاني، ولا من باب صناعة بطل فكري جديد. بل نقوله لنُعلن أن هذا النص قد كُتب على هامش تقليد لم يُعترف به بعد، وربما لن يُعترف به قريبًا، لكنه، مع ذلك، يُقيم. يُقيم رغم أنه لا يجد من يستقبله. يُقيم لأنه لا يطلب شيئًا، بل يقترح كل شيء. يُقيم لأنه لا يحتاج إلى سلطة تصادق عليه، بل يحتاج فقط إلى قارئ مرّ بتجربة داخلية جعلته يشعر بأن الفلسفة ليست ما نعرفه، بل ما يُمكن أن نُصغي له.
وحين نُصغي له، سنعرف أن القول ليس بناءً، بل أثر. ليس تقريرًا، بل انفتاح. وأن المقام لا يُكتسَب بالدربة، بل بالحاجة. وأن المطيري، وإن لم يخض حربًا، فقد قال ما لا يُقال إلا حين يتخلى الإنسان عن حاجته إلى الحرب.
ولهذا، فإن هذا التمهيد لا يُراد له أن يكون مدخلًا تقنيًا، بل مقامًا تأهيليًا، يدعو القارئ لأن يُخفّف من مطالبه التقليدية، وأن يتواطأ مع الاحتمال. أن يقرأ لا ليحكم، بل ليُصاب. أن يدخل لا ليُمسك المعنى، بل ليُقام فيه. فإن استطاع ذلك، فقد بدأ في اللقاء.
منذ أن بدأ التفكير يُعيد ترتيب علاقته بالذات، لم يعد الآخر هو ذاك الغريب الذي نعرفه بصفته مقابِلًا أو عدوًا أو مرآةً، بل صار، في أكثر أشكاله رهافة، شرطًا لظهور الذات نفسها. هذا ما يضعه عبد الله المطيري في صميم اشتغاله حين يطرح “الآخرية” لا بوصفها موضوعًا فلسفيًا قابلًا للتحليل، بل بوصفها مقامًا تتكوّن فيه الذات في ضوء الانكشاف. لا ينطلق من مقولة “الآخر موجود”، بل من مقولة: “لا وجود للذات دون هذا الآخر”. وهو بذلك لا يقف على تخوم الميتافيزيقا، ولا يكتب من داخل الأخلاق، بل يحاول أن يسكن ذلك الموضع الذي تسبق فيه العلاقةُ كلَّ مفهوم، والذي لا يكون فيه اللقاء وصفًا، بل شرطًا.
فالآخر، في فكر المطيري، لا يأتي بعد الذات، بل يتقدّمها. لا يجيب عن سؤال، بل يخلقه. وهذا ما يجعل من “الآخرية” عنده فلسفةً لا تسعى إلى حلّ إشكال الهوية، بل إلى تفكيكها من جذورها. فحين تبتدئ الفلسفة من الآخر، لا تعود الذات مركزًا يُحدّد، بل مقامًا يُسأل. لا تعود هي المعيار، بل موضع التعرّض، موضع التهيؤ لأن تُقال. ومن هنا، لا تكون المعرفة مشروع إحاطة، بل مقام إصغاء. والفكر لا يُنتج ليُستهلك، بل ليُفقد، ليُربك، ليُؤخَذ منه لا ليُملك.
وهنا، تكتسب اللغة موقعًا حساسًا. لأننا لا نعود نتحدث عن أفكار، بل عن قولٍ يتكوّن. فاللغة، في نص المطيري، لا تأتي كأداة محايدة، بل كحقل للقاء، كحيز رمزي تنفتح فيه الذات على الغير. ولهذا، لم يكن مفاجئًا أن يختار المطيري من أدواته الفكرية ليفيناس لا بوصفه منظّرًا للغير، بل كحارس أخلاقي لمقام اللقاء. ذلك أن ليفيناس، حين جعل من وجه الآخر مصدرًا للنداء، إنما كان يُنقذ الذات من عزلتها، من ثقل مركزيتها، من ادّعاء الفهم والتملّك. والمطيري، إذ يسير في هذا المسار، لا يستعير أدواته فحسب، بل يستأنف منها ما يتجاوزها، محاولًا أن يُعيد إلى الذات قابليتها لأن تُصاب، لا لتفهم.
وهنا يظهر التوتر العميق في مشروعه: كيف يمكن للذات، التي وُلدت في خطاب يقيني، أن تُقيم في مقام لا يُثبت؟ كيف لمن تربى على الوضوح البياني، وعلى الحجاج الفقهي، وعلى خطاب العقل الناجز، أن يُصغي إلى نداءٍ لا يُحدَّد؟ المطيري لا يُجيب عن هذه الأسئلة، بل يضعنا فيها، يتركنا نسمعها دون أن يُعطينا الخريطة. وهذا، في ذاته، وفاء لخطابه: لأنه لا يريد أن يُنشئ فلسفة تُفهم، بل أن يُعيدنا إلى ذلك المقام الأول الذي لا نُجيد فيه الكلام، بل التلقي. مقام لا تُنتج فيه الذات المعرفة، بل تُستقبل هي من قِبلها.
هذا ما يجعل فلسفة المطيري تتحرك بين حضورين: حضور الآخر بوصفه وجهًا لا يُختصر، وحضور الذات بوصفها انفعالًا، لا فاعلية. وهو ما يُعيد التفكير في العلاقة بين الحرية والمسؤولية: الحرية التي قال بها سارتر في حدود “أنا أفكر إذن أنا موجود”، تنقلب في نص ليفيناس – وفي استئناف المطيري لها – إلى مسؤولية لا عن نفسي، بل عن الآخر. والوجود هنا لا يُستعاد في الذات، بل في استدعائها من قِبل من لا يمكن أن يُستوعب. من هنا، تكون الآخرية ليست مبدأً أخلاقيًا، بل شرطًا أنطولوجيًا. لا مجرد موقف، بل شرطًا للكينونة.
اللافت في نص المطيري أنه لا يُقدّم هذه الأفكار بوصفها مفاهيم نظرية مجردة، بل يعرضها على نحو يقترب من المقامات الروحية: من لغةٍ تخفت فيها نبرة الادّعاء، وتعلو فيها نبرة التأمل. هو لا يشرح الآخر، بل يدعونا إلى أن نُصاب به. لا يقول لنا: الآخر هو كذا، بل يقول: انظر، أصغِ، لا تُقاطع. ولهذا، لا يمكن قراءة النص كما تُقرأ المقالات المدرسية أو التحليلات الفكرية. بل هو نص يُقرأ كما تُقرأ النصوص العرفانية: لا بهدف الاستخراج، بل بهدف التعرّض، لا بهدف الفهم، بل بهدف التهيؤ لأن نفهم.
وهذا ما يجعل من مشروع “الآخرية” عند المطيري أقرب إلى “تمرين وجودي” لا إلى مقالة فلسفية. تمرين يطلب من القارئ لا أن يفهم، بل أن يُغيّر مقامه. أن يُعيد تعريف ذاته من خلال علاقتها بما لا تُحيط به. أن يتخلى عن صيغته الجاهزة، ويبدأ، لا من البداية، بل من العتبة. من هناك حيث لا يقين، بل توجّه، ولا معرفة، بل إصغاء، ولا ذات، بل علاقة. وهذا ما يجعل الآخرية عنده ليست خيارًا فلسفيًا، بل ضرورة وجودية: لا نكون إلا بها، ولا نتكلم إلا من خلالها، ولا نكتب إلا حين نُصاب بندائها.
ما فعله عبد الله المطيري في كتابه ليس استعادة لمفاهيم سبق تداولها، بل إقامة في مقام لم يُطأ من قبل في المكتبة السعودية. لم يكن الهدف من مشروعه نقدًا للموروث، ولا تأسيسًا لحداثة، بل انزياحًا عن الاثنين معًا إلى مقام ثالث، تتكشّف فيه العلاقة قبل أن تُفهم، ويُعاش فيه الآخر لا بوصفه مقابِلًا، بل بوصفه شرطًا. فالنص لا يُنازع أحدًا على سلطة، ولا يسعى لاستبدال مرجعية بأخرى، بل ينشئ شرطًا جديدًا للقول: شرطًا لا يُؤسّس من خارجه، بل من داخل العلاقة ذاتها.
ولهذا، كان طبيعيًا ألا يُقابَل هذا المشروع بالاحتفاء. لأن الثقافة التي لم تتهيأ لاستقبال الضيف، لا تُحسن استضافة نص يُبنى على الضيافة. ولأن العقل الذي تربّى على الحجاج والمناظرة، لا يُجيد الإصغاء لنص يتكوّن في الصمت. فنص المطيري لا يدخل في جدل مع الموروث، بل يلتف عليه، لا ليُلغيه، بل ليضعه في أفق جديد: حيث لا يُطلب من القول أن يُقنع، بل أن يُنكشف، ولا من المعنى أن يُنتج، بل أن يُستقبل. ومن هنا، يصبح كل فهم جاهز حاجزًا، وكل يقين مانعًا، وكل تعريف نهائي إغلاقًا لإمكان لا يُقال إلا من بين الشقوق.
الاختلاف الجوهري في نص المطيري أنه لا يقدّم مشروعه داخل تقليد معروف، بل يستأنف القول من نقطة أخرى: من بعد أن فُقدت البراءة الأولى، وبعد أن صارت اللغة لا أداة توصيل، بل معبرًا للانكشاف. ولأنه لا يُشبه المألوف، فإنه لا يُقرأ بالأدوات المعتادة. بل هو نص يُقرأ كما تُقرأ الشهادة: لا بتفكيك مضمونها، بل بالتورط في مقامها. ولهذا، فإن القارئ الذي يطلب خريطة مفاهيمية أو بنية منهجية محددة، لن يجد في النص بغيته. لأنه لا ينتمي إلى مدرسة، ولا يُبنى على تقليد عقلي، بل يتكوّن كحدث: حدث لغويّ، شعوريّ، يضعك أمام نفسك، لا أمام نظرية.
وهنا يبرز الفارق العميق بين نص المطيري وبين نصوص الآخر التي تناولت موضوع “الآخر” في السياق العربي. فبينما انشغل الجابري وحسن حنفي وغيرهم بسؤال الآخر من داخل معركة حضارية مع الغرب، كان المطيري ينظر إلى الآخر لا كتهديد، بل كإمكان. لا كمن يُراد تفكيكه، بل كمن يُنتظر مجيئه. وهذا ما يجعل من نصه تجربة منفردة: لا تسكن في “نحن”، ولا تُحاور “هم”، بل تُقيم في “بين” لا يُختصر. هذا الـ”بين” ليس حيادًا، بل مقام تشكّل، مقام اختبار ذات لا تقوى على أن تُقال، إلا في حضرة غيرها.
فالآخرية، بهذا المعنى، ليست مسألة خارجية، بل شأن داخلي. ليست علاقة بين اثنين، بل شرط انبثاق كل ذات. وحين نفهمها بهذا الشكل، نفهم لماذا اختار المطيري أن يكتب بهذه اللغة المترددة، المتأنية، التي تُشير أكثر مما تُصرّح، وتُنصت أكثر مما تتكلم. لأن الفهم، كما يفهمه، لا يأتي من الإحاطة، بل من الخروج منها. لا من اليقين، بل من الاهتزاز. لا من تملك المعنى، بل من التعرّض له.
وهذا ما يجعل من نصه نصًا تحويليًا لا تأويليًا فقط، لأنه لا يطلب منا أن نفهم الآخر، بل أن نتبدل به. أن نُعيد تشكيل علاقتنا بالمعنى، بالذات، بالعالم، لا عبر مفاهيم جديدة، بل عبر انكشاف جديد. ولهذا، لا يطرح المطيري خلاصات، ولا يُقدّم أطروحات قابلة للتطبيق، بل يقترح نمطًا من القول لا يمكن تداوله، إلا في حدود من عاش التردد، ومن مرّ بتجربة الافتقار إلى اللغة. لأنه، في النهاية، لا يكتب عن الآخر، بل يكتب من داخله، كمن أُصيب بندائه، ولا يزال يكتبه ليردّ على أثر لم يُمحَ بعد.
ولعل هذا ما يجعل من كتاب “فلسفة الآخرية” كتابًا صعبًا لا لأنه غامض، بل لأنه لا يهادن. لا يمنحك الطمأنينة، ولا يضعك في سياق مريح. بل يطلب منك أن تُعيد ترتيب موقعك من الذات، ومن المعنى، ومن اللغة. أن تخلع أدواتك القديمة، وتدخل النص عاريًا من كل يقين، ومستعدًا لكل خذلان. لأنه، وكما قال المطيري في أحد نصوصه، لا يُمكن للقول أن يُولد إلا حين تفقد الذات قدرتها على القول. عندها فقط، تبدأ الفلسفة، لا كخطاب، بل كأثر. لا كمشروع، بل كمقام.
ولهذا، فإن نص المطيري لا يُقرأ لتفسيره، بل للسكن فيه. لا لتحليله، بل لمرافقته. لا لتملكه، بل لأن يُملِكك تجربةً لا تُختصر، ولا تُغلق. تجربة لا يُكتب عنها، بل تُكتب من داخلها. ولهذا، فإن هذا النص الذي قد يبدو للوهلة الأولى سهلًا، بسيطًا، مألوفًا، هو في حقيقته نص يختبرك أكثر مما تختبره، ويقيس قابليتك للتعرّض، لا قدرتك على الفهم.
وهكذا، تُصبح فلسفة الآخرية عند عبد الله المطيري مقامًا لا يمكن العبور منه، بل لا بد أن تُقام فيه. مقامًا يعيد ترتيب كل شيء: من اللغة إلى الذات، من الفهم إلى السؤال، من الآخر إلى أناي. مقامًا يجعل الكتابة ليست خطابًا للسيطرة، بل مقامًا لاحتمال الغياب، والتردد، والتشظي. لأنه، فقط هناك، يمكن أن يبدأ القول من جديد.
لم يكن عبد الله المطيري، في كتابه فلسفة الآخرية، مفكّرًا يقترح أطروحةً في الآخر، بل كان، في عمق ما كتب، ذاتًا تُعيد رسم ملامحها من خلال الآخر، لا لتكتمل به، بل لتفقد قدرتها على الاكتمال. بدا كما لو أنه غادر بيته دون أن يطلّع من النافذة، ودخل في نصه لا ليكتب، بل لينسحب، لا عن اللغة، بل عن موقعها التقليدي الذي يفترض أن المتكلم يملك زمام القول، وأن النصّ هو مجال لتصريف الأفكار. فالمطيري لا ينتمي إلى تقليد من يُحسن التأسيس، بل إلى أولئك الذين لا يكتبون إلا لأن الكتابة قد سبقتهم، وأوقعتهم في غفلة من أمرهم.
ولهذا، يبدو المطيري كمن لم يأتِ من مكان. لا تُدرَك نقطة بدايته، ولا يُعرَف من أي مسار خرج. لا لأن خلفيته مجهولة، بل لأنه لا يُظهرها. لا يصرّح بها ولا يعتذر عنها، بل يمرّ من جوارها وكأنها غير موجودة، أو كأنها جزء من خيانة ماضية لم تعد تعنيه. إنه لا يستعيد تجربة ولا يفتتح مشروعًا، بل يكتب وكأنه ينسحب من شيء لم يعترف به أصلًا. لا يقول “كنت”، ولا “نحن”، ولا “ها أنا”، بل يكتب دون أن يعرف القارئ ما إذا كان النص قد قيل ليبدأ، أم لأنه لم يعد هناك أحد يسمع.
وفي هذا، يظهر ما يمكن تسميته بـ”الصعلكة الرمزية” في مشروع المطيري. الصعلكة لا بمعناها الاجتماعي، بل بوصفها اختيارًا فلسفيًا للعيش في الهامش، لا لأن المركز مرفوض، بل لأنه لم يكن موجودًا أصلًا. فالصعلوك لا يخرج على القانون لأنه ظالم، بل لأنه لم يعترف به يومًا. هو لا يتمرد لأنه مغبون، بل لأنه لم يجد في التقاليد ما يمنحه مكانًا. والمطيري، إذ يكتب، لا يهاجم المركز، بل يتركه. لا يعيد تأويله، بل يتفادى الدخول فيه. وكأنّ كل ما يقوله هو أثر انسحاب، لا أثر حضور.
ولهذا، لا نراه يبدأ من الداخل، ولا يحاور الذات التي خرج منها، ولا يضع نصه في مواجهة المرجعيات التي نشأ في ظلّها. بل يكتب مباشرةً في أفق جديد، أفق لا يتكئ على ماضٍ، ولا يتجه إلى مستقبل. هو أفق مقام، مقام يقيم فيه القول لأنه لا يملك أن يستقرّ في غيره. ومن هنا، فإن مشروع المطيري يبدو بلا أصول. بلا جذر ظاهر. بلا نداء أول. وكأن الكاتب، في أعماقه، لم يُفتح له الباب يومًا، فلم يعد يقرعه.
هذا الغياب الجذري، أو هذا الانسحاب الرمزي، لا يعني أن المطيري مفكر عدمي، أو أنه يكتب من موقع العدم. بل يعني، ببساطة، أنه لم يعترف يومًا بأن الفضاء الثقافي الذي نشأ فيه كان فضاءً صالحًا للقول. لا لأن فيه قمعًا، بل لأن فيه صمتًا لا يرحم. صمتًا يجعل كل محاولة للقول عرضة للتشكيك، وكل نداء للتأويل يُستقبل بوصفه هذيانًا أو بدعة. ومن هنا، فإن الآخرية في نصه لا تأتي بوصفها مشروعًا أخلاقيًا فقط، بل بوصفها محاولة للنجاة من موت رمزي سابق.
فالآخر، كما يظهر في هذا النص، ليس فقط وجهًا يطلّ على الذات، بل هو الفرصة الوحيدة التي بقيت للذات كي تُقال. الآخر هو ما لم يُمنح للذات حين كانت تتكلم لنفسها، حين كانت تتكلم ولا أحد يصغي. إنه شبح ضياع سابق، وتجسيد لإمكانية لم تتحقق. ولهذا، فإن اللقاء، كما يصوّره المطيري، لا يحدث في مكان التفاهم، بل في مكان الصمت المشترك، في الفراغ الذي تركته الذات حين لم تجد من يخاطبها، فصارت هي نفسها منفى لنفسها.
هذه الصيغة من العلاقة مع الآخر تجعل من المطيري، لا مجرّد باحث في الفلسفة، بل حالة وجدانية متوترة، تحاول أن تُنطق ما لم يُنطَق، أن تستضيف ما لم يُستَضف. ولذلك، فإن الضيافة في نصه ليست ترحيبًا، بل رد فعل. ليست كرمًا فلسفيًا، بل محاولة لإنقاذ شيء من المعنى قبل أن يتلاشى. وكأن الآخر، في نصه، هو الحجة الرمزية الأخيرة التي تملك الذات أن تقول بها إنها لا تزال موجودة.
ولهذا، فإن نص المطيري، برغم ما فيه من تأنٍّ وتأمل، لا يخلو من مرارة. مرارة لا تقال، بل تُشعَر. مرارة ناتجة عن خذلان مزدوج: خذلان الذات التي لم تُمنح مقامًا للكلام، وخذلان الثقافة التي لم تعترف بغير منطق السيطرة أو الطاعة. والمطيري، إذ يكتب عن الآخر، لا يكتب عنه بوصفه مشكلًا فلسفيًا، بل بوصفه ملاذًا. ليس لأنه يُحب الآخر، بل لأنه فقد نفسه، ويريد أن يستعيدها من خلاله.
ولهذا، فإن المشروع كله يبدو، في جوهره، كصرخة مكتومة، صرخة لا تهاجم أحدًا، لكنها تُذكّر بأن هناك شيئًا ما لم يُقَل، شيئًا بقي معلقًا، ينتظر ضيفًا يفكّ قيده. ليس المقصود بها الآخر الأوروبي، أو الآخر الثقافي، بل أي آخر يستطيع أن يقول للذات: “مرحبًا، أنت هنا”. ومن دون هذا القول، لا يعود للذات من مكان، ولا من وجه، ولا من مقام.
وهنا يكمن التوتر العميق في فلسفة المطيري. فهي، من جهة، تدعو إلى لقاء، لكنها لا تملك نقطة انطلاق. تنادي بالضيافة، لكنها تكتب من منفى. تُبشر بالعناية، لكنها لا تظهر الجرح. ولهذا، فإنها تظل دائمًا على الحافة: حافة بين الذات التي لم تُقال، والآخر الذي لم يأتِ. لقاء لا يتم، لكنه يُقال، لا ليحدث، بل ليُحتمل.
لكن، في هذه الصيغة الفريدة من العلاقة مع الآخر، يبدو أن نص عبد الله المطيري – من حيث لا يريد – ينزلق إلى مفارقة مؤلمة: إنه يريد أن يفتح مقامًا للقاء، لكنه لا يجد في ذاته سوى أثر الغياب. هو نصٌ كُتب ليُستقبل، لا ليُعلن، نصٌّ لا يريد أن يحتلّ مكانًا في السجال، بل أن ينسحب إلى مكان لا أحد فيه، فيُجرّبه من بقي هناك. ولهذا، فإنه لا يقترح فلسفة بالمعنى التقني، ولا نظرية بالمعنى البنيوي، بل يقترح أثرًا: أثر انسحاب، أثر استبعاد، أثر صمت لا يريد أن يُقال صراحة، لكنه يظل مقيمًا في كل فاصلة من فواصل القول.
وهذا ما يجعل من “الضيافة” في مشروعه لا مقامًا وجوديًا يُقام في المعنى، بل ترجمة رمزية لحالة من النفي. ليست الضيافة عنده فعلًا حرًا، بل حاجة وجودية. ليست كرمًا فكريًا، بل استنجادًا. لا يريد الآخر لأنه يملك فضاءً لاستقباله، بل لأنه لم يُستقبَل هو. الضيافة، بهذا المعنى، ليست مبادرة، بل فعل ردّ فعل. وكأن القول الفلسفي كله قد تحول إلى محاولة لاسترداد ما فُقِد، لا بالحنين، بل بالرمز.
وهنا، تبرز الصعلكة لا كتمثيل للهامش، بل كفعل رمزي للانسحاب من نظام لم يمنح الذات مكانًا. فالصعلوك، كما في التراث العربي، لا يثور لأنه ثائر، بل لأنه لم يكن يومًا من داخل الجماعة. يكتب المطيري كما لو أنه هذا الصعلوك: لا يريد أن يستردّ شيئًا، بل أن يقول بصمته الطويل إن ما لم يُعطَ لا يمكن استرجاعه، وأن الفلسفة حين تُقال من هذا المقام، لا تكون مشروعًا للمعرفة، بل مقامًا للنجاة.
المطيري لا يقول ذلك صراحة، لكن أسلوبه، اختياراته، لغته، تفضحه: لا يقدم المفاهيم بوصفها أدوات نظر، بل بوصفها ضيوفًا، وكل مفهوم جديد يبدو كغريب طرق الباب، فقُدمت له كلمة، لا بوصفها تعريفًا، بل بوصفها مكانًا للجلوس. ولهذا، لا نستطيع أن نقيس كتابه بالمقاييس نفسها التي نقيس بها المشاريع النقدية الكبرى، أو الأطروحات الممنهجة، أو البنى المفاهيمية المكتملة. لأن نصّه لا يريد أن يكون مشروعًا، بل مقامًا للعبور، للوقوف، للإصغاء.
بل إن التوتر بين الداخل والخارج في هذا النص ليس توترًا معرفيًا فقط، بل توتر وجودي. فالمطيري، من جهة، لا يطمئن إلى الداخل، لكنه لا يثق بالخارج. لا يهاجم التقليد، لكنه لا يستدعيه. لا ينتمي إلى النخبة، لكنه لا يخاطب الجمهور. لا يريد أن يكون صوفيًا، لكنه لا يكتب كعلموي. إنه يقيم في حافة بين الجميع، ليس لأنه يتقن التوسط، بل لأنه لم يجد مكانًا في أي من الأطراف. ولهذا، فإن “الصعلكة الرمزية” هنا ليست خيارًا أسلوبيًا، بل ضرورة تكوينية. ليست نزوة فكرية، بل طريقة نجاة.
والنقد الحقيقي الذي يمكن توجيهه لهذا المشروع ليس أنه غامض، أو تأملي أكثر مما ينبغي، أو يفتقر إلى الإطار النظري. بل أن ما بدأه بوصفه مشروعًا للقاء، بقي معلّقًا في غياب لا يعترف بأنه غياب. وأن العلاقة مع الآخر التي أراد أن يؤسسها بوصفها أفقًا أخلاقيًا، لم تكن في النهاية إلا بحثًا يائسًا عن ذات لم تُمنح موضعًا في الكلام. إن الآخر في هذا النص ليس وجهًا يُستقبل، بل صورة من صور الذات وقد فاتها أن تُقال، فصارت تبحث عنها في المرايا.
ولهذا، فإن القيمة الحقيقية لهذا النص ليست في ما يقوله عن الآخر، بل في ما يُفصح عنه من الذات التي لم تجد لغتها إلا حين فقدتها. الذات التي لم تُرَبَّ على القول، فلم يعد بوسعها إلا أن تقول من خارج الموقع، من خارج الأسلوب، من خارج الصيغة. نصّ المطيري، في هذا المعنى، ليس مقالًا في الفلسفة، بل محاولة لفكّ الحصار عن كينونة لم تُحتمل. ولذلك، فإن فلسفة الآخرية، كما يطرحها، لا تُعنى فقط بإمكانية اللقاء، بل بإمكانية أن يُعترف أصلًا بأن هناك من يستحق أن يُقال له: “مرحبًا، تكلّم”.
في هذا كله، لا يعود مشروع المطيري نصًا للمعرفة، بل شهادة على مكان لم يكن، على بيت لم يُبْنَ، على خطاب لم يُوجَّه. إنه نصّ لا يُقيم في الحجة، بل في الأثر. لا يريد أن يثبت، بل أن يُلامس. لا يفتح مقامًا للقول، بل يستعيد مقامًا كان يجب أن يُفتح يومًا، ولم يُفتح. وهذا، في تقديري، هو سرّ قوته. لأنه لا يكتفي بأن يقول، بل يطلب أن يُسمَع. لا يكتفي بأن يكتب، بل يستنجد بالمعنى ليبقى حيًّا، ولو في حافة منفى لا يعترف به أحد.
وبهذا، فإن نص المطيري هو، قبل كل شيء، تمرين على الانتباه. لا إلى الآخر فقط، بل إلى الذات التي لا يُقال لها إلا حين تُنفى، ولا تُمنح المعنى إلا حين تتخلى عن طلبه. وهي – في هذا – ليست ذاتًا تكتمل بالغير، بل ذات لا تعرف عن نفسها إلا بقدر ما يغيب منها، بقدر ما يَظهر فيها الآخر لا كإضافة، بل ككسر. ولهذا، فإن الآخر عنده لا يُرى، بل يُسمع. لا يُحدَّد، بل يُحتمل. لا يُسكن، بل يُستدعى في مقام لا يريد أن يُقيم، بل أن يمرّ، ليقول: كنت هنا، ولم أجد من يقول لي: أنت هنا.
ومن هنا، يكون مشروع “فلسفة الآخرية”، في عمقه، مشروعًا للذات الغائبة، لا للغير الحاضر. مشروعًا للمساءلة، لا للجواب. مقامًا للقول، لا للإثبات. وهذا، وحده، كافٍ ليمنحه مكانته كأحد أكثر المشاريع الرمزية والتأملية كثافة، وأشدها توترًا، في الفلسفة العربية المعاصرة.
لم يكن سؤالي عن إمكان اللقاء بين وحدة الوجود وفلسفة الآخرية سؤالًا نظريًا، ولا رغبة في تأليف بين مذهبين، بل هو سؤال خرج من معاناة القراءة: من الإقامة الطويلة في الخطاب العرفاني، ومن الحيرة المزمنة تجاه زمن لم يعد يقول فيه هذا الخطاب شيئًا يُسمع. لقد ظللت لسنوات مشغولًا بما إذا كان بإمكان الخطاب العرفاني أن يستنطق الإنسان الحديث، أن يُقال من جديد دون أن يتحول إلى تراث يُبجَّل أو نص يُحنّط. وكنت أعود إلى نصوصه لا بوصفها أدلة على الطريق، بل بوصفها إشارات منسية، كلمات نجت من المحو، تُطل برأسها بين ثنايا اللغة التي لم تعد تسع إلا الحساب أو الاحتجاج.
لقد أُهمل الخطاب العرفاني طويلًا، لا لأن مفاهيمه باهتة، بل لأنه لا يتكلم بلغة السوق، ولا يقدّم أجوبة حاسمة، ولا يؤسس يقينًا جديدًا. أُهمل لأن روحه ليست روح من يُقنع، بل من يُنقذ. ولعل من أقسى المفارقات أن يُنتج هذا الخطاب في زمن العوز، ويُهمل في زمن الوفرة؛ أن يُكتب في زمن كانت فيه الحياة معركة مع الفقد، ثم يُسأل، في زمن صارت فيه الوفرة أصلًا، عن جدواه. فهل من الممكن، إذًا، أن يقول العرفان شيئًا لإنسان لا يعرف من نفسه إلا حقه، ولا من العالم إلا قدرته على السيطرة عليه؟ هل يستطيع أن يخاطب إنسانًا تشكّل على مبدأ أن الكرامة لا تُوهب بل تُنتزع، وأن الذات لا تُكشف بل تُصاغ؟
في لحظةٍ ما، لم أعد أحتمل هذا السؤال. لا لأن الجواب كان مستحيلًا، بل لأن السؤال نفسه كان، على نحو ما، ينتمي إلى منطق العزلة: منطق الذات التي تسأل عمّا ينفعها، وتختبر القول كما تُختبر الأدوات. وكان لا بد من خلخلة هذا المنطق، لا بنفي الذات، بل بإعادة موضعتها. وهنا بدأ الخطاب العرفاني يُفصح لي عن شيء لم أكن أراه من قبل: لم يكن يتكلم فقط عن الله، بل عن الإنسان حين يُصاب؛ لم يكن نصًا عن المجاز، بل عن الانكشاف؛ لم يكن كلامًا عن الحق، بل نداءً من جهة لا أعرف إن كانت مني أو من العالم، لكنه يقولني.
لكم وددتُ لو أتيح لي أن أشارك هذا الخطاب مع الجميع، لا على سبيل المعرفة المجردة، بل كنوع من المؤانسة الروحية والرفقة الفكرية. لطالما استحضرتُ بيت الشاعر:
“كل زين أشاهده وأنتم بعيد، منوتي ليتك معي”
ليس امتلاكي لجواب شافٍ هو ما دفعني، بل انشغالي العميق بالبحث عن ذلك الأفق الرحب الذي تتجدد فيه أصداء النصوص العرفانية، لا كموروث يُستعاد فحسب، بل كتجربة إنسانية مُعاشة ومُتشاركة. كنتُ أتقصّى عن ذلك المقام الذي يستعيد فيه القول العرفاني حضوره المتألق، لا من خلال إعادة إنتاجه النمطي، بل باستئنافه الحيّ، استئنافًا يربطه بالحاضر ربطًا وثيقًا، دون أن يذوب فيه أو يفقد هويته.
وهنا، خطر لي أن أفقًا تلتقي فيه وحدة الوجود بفلسفة الآخرية قد يكون الخطوة الأولى لهذا الاستئناف. لا من جهة تأويلية فقط، بل من جهة تكوينية: من جهة سؤال الإنسان عن نفسه حين يفقد موقعه في العالم، وحين لا يجد في كل الخطابات المعاصرة من يقول له: “أنت تُرى، لا لأنك تملك، بل لأنك تنكشف”. في هذا الموضع تحديدًا، بدت وحدة الوجود، بكل ما تحمله من حسّ بالانكشاف، وبكل ما تتضمنه من فهمٍ للعالم كحضرة لا كغنيمة، وكلام لا كتمثيل، شبيهةً في روحها العميقة بفلسفة الآخرية التي تنفي أن تكون الذات مركزًا، وتعيد بناء العلاقة من موقع التعرّض.
إن الخطاب العرفاني، حين يُقرأ من داخل الحاجة، لا من موقع المتفرج، يبدأ في الكشف عن إمكانيات جديدة للقول. إمكانيات لا تبدأ من بنية المفهوم، بل من مسّ الجرح. وهنا تحديدًا، يصبح هذا الخطاب، في زماننا، خطابًا ممكنًا لا لأنه يُناسبنا، بل لأنه يسبقنا، يتجاوزنا، يهبنا لغة لا نملكها، ويُقيم في المسافة التي بيننا وبين ما نجهله عن أنفسنا. ومن هنا، لا يكون اللقاء بين وحدة الوجود وفلسفة الآخرية مجرد تقاطع بين منظومتين، بل انكشاف لمقام ثالث، مقام لا يُرى، بل يُستشعر، لا يُؤسس، بل يُستقبل. مقام هو، في جوهره، إمكان القول.
إذا كان المقطع السابق هو مقام التهيؤ، فإن هذا المقطع هو مقام الانكشاف. هناك، في برزخٍ لا يُملك، ولا يُؤسس، تتجاور وحدة الوجود وفلسفة الغيرية، لا بوصفهما خطابين، بل بوصفهما إمكانين للنجاة. كلاهما لا يعد الإنسان بالخلاص، لكنه يُنقذه من السقوط في القول الجاهز. كلاهما لا يمنحه يقينًا، لكنه يريه أن التردد ليس ضعفًا، بل شجاعة البدايات.
في وحدة الوجود، لا يعود العالم شيئًا يُمتلك، بل فضاء يُقال فيه الحق، ويُتكشف فيه الإنسان. في الغيرية، لا تعود الذات مركزًا تُقاس به الأمور، بل مقامًا يُستدعى حين يظهر وجه الآخر. كلاهما يُعيد ترتيب العلاقة بين “أنا” و”ليس أنا”، لا على نحو تقابلي، بل على نحو برزخي، يجعل من المسافة شرطًا للفهم، ومن الغير شرطًا للذات.
لكن اللقاء بينهما لا يتم في منطقة أمان. بل على العكس، هو لقاء محفوف بالخطر، بالتوتر، بالانكشاف العاري. لأن وحدة الوجود، إن لم يُعاد تأويلها، قد تبتلع الكثرة في توحيد مُلغٍ. وفلسفة الغيرية، إن لم تُعاد تسكينها في أفق شهودي، قد تنتهي إلى افتتان بالاختلاف بوصفه غاية لا وسيلة. ومن هنا، يكون اللقاء بينهما مشروطًا بالتحوّل لا بالتأليف: بالقدرة على نفي السيطرة من داخل كل خطاب، لا على مزج الخطابين في توافق مصطنع.
هكذا، يصبح اللقاء، لا تمثيلًا ولا تحالفًا، بل حدثًا رمزيًا، يقع في المسافة بين حضورين: حضور الذات بوصفها انكشافًا، وحضور الآخر بوصفه نداء. ليس في الأمر تكامل، بل تخاطب متوتر، يُبقي كل طرف على حافة ذاته، ويمنع كل شكل من الاكتفاء. هذا التوتر هو بالضبط ما يجعل اللقاء ممكنًا. لأن التماثل لا يفتح معنى، والمطابقة لا تنشئ أثرًا. وحده الغموض، حين يُحتمل، يكشف ما لا يُقال.
قلتُ، إن الشرط الأول للقاء هو التخلي عن النزعة الامتلاكية. أضيف هنا أن الشرط الثاني هو الإقامة في التردد: التردد بوصفه مقامًا لا نقصًا، وشرطًا للشهادة لا مانعًا للفهم. فحين نقرأ نصوص ابن عربي، لا نجد فيها يقينًا صلدًا، بل خفقان حضور. وحين نقرأ ليفيناس، لا نلتقط نظرية متماسكة، بل نداء وجه لا يُردّ. هذا الاهتزاز، هذا الخروج من الصيغة، هو ما يجعل اللقاء بين الرؤيتين احتمالًا مفتوحًا.
وإذا كان التصوف يقول: “لا يُعرف الحق إلا بالحق”، فإن الغيرية تقول: “لا تُعرف الذات إلا بغيرها”. كلا القولين، في جوهره، نفي للاستقلال. كلاهما اعتراف بأن الكينونة ليست معطًى جاهزًا، بل مقام يُنكشف في التعرّض. ولعل الإنسان، في هذا الموضع، لا يعود هو المالك للقول، بل موضع عبوره. لا يعود صانع المعنى، بل شاهده.
في هذا السياق، يصبح اللقاء علامة لا على الحل، بل على الأثر. أثر القول حين لا يُطمأن له، وحين لا يُقرأ بمنطق التبرير، بل بمنطق المجاورة. فكما أن الحق لا يُقال إلا إذا تجلّى، فإن الآخر لا يُسمع إلا إذا صمتنا. وهذه الصيغة من القول لا تحتاج إلى من يُعرّفها، بل إلى من يُقيم فيها. ولهذا، فإن هذا اللقاء لا يُكتب بوصفه نتيجة بحث، بل بوصفه مقامًا قابلًا للسكَن.
قد لا نعرف تمامًا كيف نُقيم هذا اللقاء، لكنه – على الأرجح – لا يحتاج إلى خطة. كل ما يحتاجه هو أن نترك اللغة تهتز قليلًا، أن نسمح للغريب بأن يطرق بابنا دون أن نطالبه بتعريف نفسه، أن نقرأ النص لا لكي نفهمه، بل لكي يفهمنا. فبعض النصوص لا تقرأها، بل تمرّ من خلالها؛ وبعض المفاهيم لا تملكها، بل تترك أثرًا فيك كمن عبر.
إن وحدة الوجود وفلسفة الغيرية، في تقاطعهما، لا تمنحاننا نظامًا جديدًا، بل تمنحاننا إذنًا بالتردّد. وهذا، في زمنٍ يُطالبك فيه الجميع بأن تعرف، وأن تملك، وأن تحسم، هو أعظم هبة يمكن للفكر أن يمنحها. أن تقول: لست متأكدًا، لكنني أُصغي. أن تعترف: لم أفهم، لكنني شعرت. أن تهمس: ليس لي كلام، لكنني حاضر.
هذا هو إمكان اللقاء: لا أن نفهم كل شيء، بل أن نتهيأ لما لا نفهمه بعد.
