2025-10-30

١٦ ديسمبر ٢٠١٦
هذ الحوار هو التاسع من سلسلة حوارات مع مجموعة من الفلاسفة والمنظرين النقديين حول مسألة العنف، وهو حوارٌ مع براخا إيتينغر، فنانة بصرية وفيلسوفة ومحللة نفسية، وأحدث أعمالها “وقلبي، فضاء الجرح” “And My Heart Wound-Space” في معرض بينالي اسطنبول الرابع عشر.
براد إيفانز: كثيرًا ما جمعتِ في أعمالك بين مجالات الفن والتحليل النفسي والنظرية النقدية وهي مجالات متباينة، كيف يمكن لهذا النهج معالجة مسألة العنف؟
براخا إيتينغر: أبدأ بالفن، يربطنا الفن معًا حتى لو نأينا بأنفسنا كأفراد عن بعضنا بعضًا وعن العالم. أبدأ كل لوحة من لوحاتي بآثار صور لشخصيات مختلفة – أمهات، نساء وأطفال – عراة، متروكين في مواجهة الموت. إن جراح كل شخصية تخصها ولكننا بينما ننظر إليها ندرك أن في كلٍ منا آثاراً من ذلك الجرح.
إن الرسم بالنسبة لي فرصة لتحويل الآثار الغامضة لماضٍ عنيف صادم، فلا تزال مخلفات العنف وآثاره متغلغلة في مجتمعاتنا، ويطمح الفن لخلق فضاء أخلاقي تتاح لنا فيه رؤية آثار جراح الآخرين بصور تبث في نفوسنا الشعور والمعرفة فتضفي مسحة أخلاقية على فعل المشاهدة.
يقود الرسم للفكرة ثم يتخلى عنها، فيشبه فضاءُ الرسم ممرًا، عندما تثق بأن اللوحة حقيقة تصبح شاهدًا على آثار الأحداث التي لم تعشها مباشرة وتعي آثار العنف الذي وقع على الناس في الماضي ويقع عليهم في الحاضر، تصبح شاهدًا على أحداث لم تشهدها وقربًا من أناس ما قابلتهم قط. يتيح لي الجمع بين الفن والتحليل النفسي والنظرية النقدية التعامل مع صور الدمار، لعلي أشفي المشاهدين من عماهم عن العنف والاضطهاد الذي يجرّدنا جميعًا من الإنسانية.
براد: شكك ثيودور أدورنو وآخرون في أهمية الفن في الاستجابة لوقائع العنف الشديد، كيف تردين على ما يسمى باستحالة تمثيل الفظائع الإنسانية؟
براخا: يؤلمني الرسم، وسيؤلمك. إننا نتشارك الحزن حتى يجد العنف الصامت صداه في أرواحنا لا بالخيال بل من خلال الرؤية الفنية. إذا حلّت كارثة مدمرة، ألا يحق لي، كفنانة، أن أرصدَ آثارها المرعبة في عملي الفني؟ ولمَ يختلف هذا عما يحدث من رصدٍ لتلك الآثار في التحليل النفسي والنقدي؟
إن سؤال “ما هو الفن؟” لا يخص الجماليات والأساليب والتقنيات فقط. يثق الفن في قدرة الإنسان على احتواء الغضب والألم ونقله وتحويل آثار العنف إلى روابط أخلاقية عبر صور جديدة من التعبيرات التي تحمل جماليات ومعاني جديدة. الفن يعيننا على أن نتعاطف ونتحمل ما لا يُطاق من الفظائع اللاإنسانية في الإنسان، فلا يضيع النقد في هذا النوع من الإبداع الفني بل يشارك فيه.
ولا يهدف الفن إلى تمثيل الواقع أو تجميله، ولكن الفن يخترع الصور والفضاءات، وله قدرة شفائية كالأمهات عندما يستثير في مواجهة الصعاب قدرة الإنسان على التساؤل والشعور بالهيبة والتعاطف والرعاية والثقة وتحمل ثقل العالم. إن ما تراه لا يعكس نفسك أو الواقع، فالصورة ليست مرآة. وعندما يقضي العنف على الثقة يصبح الفن فضاء يمكن أن تعود فيه الثقة في الآخر وبالتالي وجود الإنسان في العالم.
إن الرسم في هذه الحالة مثل التحليل النفسي طريقًا للتشافي عندما يميز فضاءً أسميه “الواقع الثانوي”: وهو شبكة من الروابط الإنسانية الجمالية ويجعل من هذا الفضاء موضوعًا له، فيخلق روابط “الظهور المشترك”: “أشعر فيك،” “تُفكِّر فيّ،” “أعرف فيك” وغيرها، فيعبر بهذه الروابط عن الوجود الذاتي من خلال الآخر. ولا يقدر غير الفن على تحقيق هذا حيث تبرز شخصياته عندما يكون النور والظلام معًا في النور.
براد: يعالج فنّك بعضًا من أصعب جوانب الهولوكوست، لماذا اخترت التركيز على العنف الرمزي ضد المرأة؟
براخا: أستند على صورة متكررة لامرأة حليقة الرأس. رُحّلت خالتي إتكا إلى أوشفيتز عندما كان عمرها 18 عامًا مع أختيها هيلا وسارة، كيف يمكنها أن ترمز بدقة للمعنى الخاص للعنف الذي واجهته؟ كانت تكرر بعد عودتها من أوشفيتز: لا أملك ذكريات غير هذه: حلقوا شعري وعندما مررت أمام نوافذ الثكنات لم أعرف نفسي، لم أستطع أن أعرف من أنا من بين كل هؤلاء النسوة، هذه ذكراي الوحيدة.” وفي يومٍ من الأيام، تذكّرت صورة أخرى: مشبك شعر رفضت فتاة أخرى من عائلتنا تركه، وقد كانت حليقة الرأس أيضًا.
شعرَت بأنها فقدت خصوصيتها، أو ما يميزها عن الآخرين. وفيما عدا فيلم آلان رينيه Alain Resnais “هيروشيما مون آمور Hiroshima Mon Amour” لم يصور غير قليل من الفنانين الآلام الناتجة عن إهانات رمزية مشابهة. أنا لا أهدف إلى بناء الذاكرة أو تفكيكها، فالجماليات اليوم هي التحدي الأخلاقي، فعندما يختفي الشهود ولا يقدر على الكلام إلا الشاهدين على الشهود الأوائل، فإن دور الفن هو خلق فضاء إنساني، وبينما يستثير الفن الذاكرة فإنه يخلق ذاكرة للمستقبل. والجدير بالذكر أن الموضوع الذي يظهر في اللوحة لا يتوافق ببساطة مع موضوع الهوية المنتهكة التي تتحول إلى الشيء المُشاهَد فالمواجهات السلمية مع آثار العنف المتحولة تضفي مسحة من الإنسانية، فخذ مثلًا غويا Goya أو رينيه Resnais أو مارغريت دوراس Marguerite Duras أو بول سيلان Paul Celan.
براد: كيف تردين على من يقول إن لا مكان للفن في أي نقد سياسي جاد، وذلك لمحدوديته فيما يتعلق بمقاومة الأنظمة القمعية أو تغيير الظروف العنيفة والكارثية؟
براخا: يعمل الرسم ببطء، فهو يتيح لنا الدخول إلى فضاء التجارب الصادمة للآخرين أو لأنفسنا دون قتال أو هرب وأن نمكث في أصدائها، ويُظهر كل ما هو خفي بما في ذلك الصور التي يتخذها العنف، كما أنه يوقف الوقت فيعيننا على مواجهة فظائع الماضي ويؤثر على نظرتنا وشعورنا في الحاضر.
ولعل الفن بصفته صورة أخلاقية أساسية من صور التعاطف، العالم الوحيد المتبقي الذي يمكننا أن نفتح من خلاله قنوات نحو الإنسانية. عندما ألمس لوحة لأنكأ جرحًا لا تعود “ذكراه” لي بالضرورة فإنني أقاوم بذلك الرغبة في تجاهله، وليس الجمال معطىً مسبقا في صورة من الصور ولكنه نتيجة للعمل في الفضاء التجريدي.
فالفن بهذا المعنى كالحب يظهر بصورة تواصل هش يفهم فيه الغرباء بعضهم بعضًا برجع الصدى، داخل “المجتمع” القريب وخارجه، ثم يدرك المرء أن الناس جزء من أنظمة مشتركة هشة.
إذا أمكن تحويل آثار العنف بالرسم، ينشأ من ذلك ظهور بطيء وغير مباشر لنوع من أنواع الإيروس، وهو حب عذري نابع من وصول هشاشتنا إلى ضعف الآخر. يثير الرسم قدرة عظيمة على الترابط في الحب والمعاناة، في الحزن والفرح، وفي العطف.
براد: هل لك أن تحديثنا أكثر عن مفهوم الجمال من وجهة نظرك، لأنه يتحدى بشكل مباشر بعض الانتقادات الراسخة لإستطيقا الجمال والمتعلقة بخطر تحويل العنف لمتعة للاستهلاك العام؟
براخا: إن ما أعنيه بالجمال، الذي مصدره تجربة الصدمة والألم وكذلك الفرح دون أن يكون في ذلك اي تناقض، يشير على حد تعبير ريلكه إلى لقاء بالفظائع التي نحاول تجنبها وكذلك مع رغبة الآخر في حياة أخرى، أي إلى وجود بائس وتوقٍ إلى النور. إن الفن الذي ينكر العنف يتخلى عن ضحاياه كما لو كانوا دون قيمة للحياة الإنسانية. في اللوحة ليس الموضوع مجرد تمثيل، بل هو معبَرٌ تثير الفكرة المُبهمة – لأنها تتخذ شكلها الجديد بالألوان والخطوط والضوء – من خلاله استجابة عاطفية لدى المُشاهد تمهد للشعور بالمسؤولية الشخصية.
ولكن معظم التمثيلات الثقافية للعنف تنتج بالفعل أشياء جاهزة للاستهلاك، فنادرون هم الرسامون والشعراء والمخرجون الذين يعبرون عن كوارث القرن الماضي ويصلون للجمال والجلال بالمعنى الذي أتحدث عنه.
فخذ مثلًا شعر بول سيلان وهو مصدر إلهام كبير بالنسبة لي، إنه يرسم حدود الموت في الحياة، حيث تسترق الحياة النظر إلى الموت كما لو كانت تنظر من جانب الموت كما يقول جاك لاكان Jacques Lacan. ولكن أبعد من ذلك، أود أن تستثير الصورة المجازية والمجردة عبورها الإنساني من العدم إلى الحياة. لا جمال حقيقي من غير عطف، يضفي الفن على الصدمة طابعًا إنسانيًا ويحول التجربة الصادمة بينما تدرك استحالة عدم مشاركة فضائك النفسي والعقلي والجسدي.
براد: ما هي برأيك الأهمية السياسية للفنون في القرن الواحد والعشرين؟ وما العبء الأخلاقي الذي تفرضه هذه الأهمية على الفنان في سعينا للانعتاق من منطق العنف والتطلع إلى مستقبل آمن؟
براخا: إن الفن اليوم موضع انبثاق الثقة بعد موتها. لقد ورث جيلنا جنازة هائلة من الذكريات المروعة للقرن العشرين وما قبله وحتى العنف المستمر الذي نشهده اليوم، فزماننا مُثقل بالفقد والمعاناة، لذا فإن مسألة الفن مثلها في ذلك مثل الإنسان الفرد الذي يراد منه اختباره، هي أيضًا مسألة هذا الفقد وإعادة التعاطف للحياة من أجل المستقبل بدءًا من الصورة ومن الأفق المجرد.
فالفن قادر على إعادة ربط الصور والمواضيع واختراعها بالضوء والفضاء وفيهما. إن زيادة القدرة على مناقشة آثار العنف ونقلها وتحويلها سواء كانت خاصة أو تاريخية مسؤولية كبرى، وهي من أهم وظائف الفن. إن لكلمتي “التحمل” و”الحمل” الجذر نفسه في العبرية والألمانية والفرنسية ولكنها في العبرية تعني أيضًا “الذات” وجعل العالم مُحتمَلًا يعني إدخال وظيفة “الحَمل” إلى بنية الذاتية، أي هو أن تحمل عبء معاناة الآخرين على أمل تحقق مستقبل أفضل، وكما كتب سيلان: “لقد اختفى العالم، وعليّ أن أحملك.”
إن الانتقال من تجربة الفن ببساطة إلى أفعال اهتمام ومشاهدة اجتماعية وسياسية ليس انتقالًا تلقائيًا، ولكن الأفراد الذين يواجهون الفن يخلقون إمكانية لأفعال جماعية تنم عن الاهتمام. يدخل الفن مجال المجتمع والسياسة دون معارضة الوحدة لكن أن تعيش مفكرًا مع آثار العنف يعني أن تتحمل القلق وترحب بالوحدة والمجهول وتنفتح كفرد على احتمالية الحب الجماعي.
ينطوي الفن على مقاومة محتملة للهياكل القائمة على العنف، فنصبح مسؤولين أكثر عن ضعف الآخر سواء كان معروفًا أم لا، ولكن لا توجد ضمانات، فمن الممكن ألا تؤدي اللوحة وظيفتها ولكنها تمنحنا فرصة. يتطلب الانعتاق من الماضي العنيف اهتمامًا وثيقًا بشخصياته الممحوة، والتحدي هو ألا تضحي بنفسك أو بالآخر، ولابد لنا اليوم من العناية بالآخر: اللاجئ، بغض النظر عن أين ولماذا، فاللاجئ أخوك أو لعله أبوك وقد يكون في يوم من الأيام أنت.
المحاوِر: براد إيفانز أستاذ مشارك في العنف السياسي بجامعة بريستول في إنجلترا، وهو مؤسس ومدير مشروع “تواريخ العنف” المكرّس لنقد مشكلة العنف في القرن الحادي والعشرين. وهو مؤلف مشارك لكتاب “عوالم قابلة للتصرّف: إغواء العنف في زمن الاستعراض” بالاشتراك مع هنري أ. جيرو، وكتاب “حياة مقاوِمة: فن العيش في عالم محفوف بالمخاطر” بالاشتراك مع جوليان ريد.
المترجمة: مترجمة حاصلة على ماجستير في دراسات الترجمة من جامعة أدنبرة، متخصصة في ترجمة النصوص الفلسفية، وعضوة في جمعية الفلسفة.
المراجع: فيلسوف، عضو جمعية الفلسفة السعودية، من مؤلفاته: ١- الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، ٢- قراءات في الخطاب الفلسفي، ٣- الوجود والوعي، ٤- الهرمنيوطيقا (ترجمة).
Art in the Time of Atrocity
Brad Evans and Bracha L. Ettinger
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”
