هو فيلسوف غانيٌّ عنيتْ فلسفتُهُ – لعقودٍ طويلة – بمشروع “اجتثاث المفاهيم” في إطار أنظمة الفكر الإفريقي المعاصر. أعلن ويريدو بناءً على هذا المشروع النظريّ عن ضرورة إعادة فحص البنى المعرفية الأوّلية، التي يقومُ عليها الفكر الإفريقي المعاصر، وذلك بغاية تحقيق هدفين أساسيين: أوَّلُهما؛ مبناهُ على تقويض الجوانب السلبية للثقافةِ القبلية والكامنة في الفكر الإفريقيّ الحديث، وذلك بغاية جعل هذا الفكر أكثر قابليةً للتطبيق، وثانيهما؛ سعى إلى إزاحة النظم المعرفية الغربيّة التي لا لزوم لها، والتي تعلن عن نفسها في الممارسات الفلسفيَّة الإفريقيّة. لقد ظلَّت قضيَّة اجتثاث الاستعمار موضوعاً مفصليًّا في المناطق التي اسْتُعمرَت سابقاً، وذلك على الصَّعيدين النظريِّ والسِّياسيِّ، أما والحال فإنَّه بعد حصول كثيرٍ من الدُّول الإفريقية على الاستقلال والتَّحرُّر السيّاسيّ، فقد كان لزاماً عليها أن تحقِّق أيضاً حرّيّتها على الصّعيد النظريِّ والفكريِّ. وبذلك أصبح “اجتثاث الاستعمار” أهمّ الأهداف التي تمحورت حولها المشاريعُ الفكريَّةُ والفلسفيَّة في تلك المرحلة من تاريخ نشوء وتطوّر الفلسفة الإفريقية.
لمْ تكن الفلسفةُ وحدها التي تبنّت ذلك المشروع الفكري وظفرت به، بل يمكنُ القول إنَّه مشروع عامٌّ وشاملٌ، تبنَّتهُ تخصُّصاتٌ فكرية وأكاديميةٌ متباينة ومختلفة؛ وحملت على عاتقها التَّحديات المفاهيمية من أجل نزع الاستعمار بطرق متنوعّةٍ، وبناءً عليه فقد تصارعت مجالات: الأنثروبولوجيا، والتَّاريخ، والعلوم السِّياسية، والأدب، والفلسفة جميعها، مع المرويَّة الاستعماريّة وشبكاتها المفاهيميَّة، ومع المعضلات التي أقامها، سواء على المستوى العمليِّ أو الأكاديميِّ. ما يعنينا – في المقام الأوَّل – هو أن ندرس مساهمة الفلسفة الإفريقية في تحقيق هذا المشروع الكبير والواعد، وفي ضوء ذلك، يمكن أن نلاحظ أنَّ الفلسفة الإفريقية كانت محدودةً للغاية، وبالأخص في تحديد أفق النِّقاش، مقارنةً بالإنجازات التي حقَّقتها باقي التَّخصُّصات الأخرى، مثل؛ الأدب، والدِّراسات الثقافيَّة. وبالتَّبعة من ذلك، يفهمُ مشروعُ اجتثاث الاستعمار على أنَّهُ مشروعٌ إنسانيٌّ/ كونيّ عابر للتَّخصُّصات. تتضمَّنُ هذه المُقدِّمةُ فحصاً للإمكانات والقيود التي يتجلَّى من خلالها هذا المشروعُ، في إطار الفكر والفلسفة الإفريقيين، وبالأخص في الإطار الذي قدّمهُ كواسي ويريدو.
نسعى من خلال هذه الورقة التَّعريفية إلى الوقوف عند مستويين في ما قدَّمهُ كواسي ويريدو؛ فهي من جهة قراءةٌ متأنيّةٌ لنظريَّة اجتثاث المفاهيم في حدّ ذاتها، ومن جهة أخرى تحاولُ رسمها في إطار الفكر الإفريقي الحديث في شكله الأوسع. وفي كثير من الحالات أثبتت نظرية ويريدو جوهريتها من أجل تحقيق التَّقدُّم في نطاق الفلسفة الإفريقية المعاصرة، ومن الضروري، أيضاً، أن نكون على درايةٍ بالمتطلَّبات الحالية للعولمة والهوية الإقليمية، والكيفية التي بها تؤثِّر على فاعليَّة نظريةِ اجتثاث المفاهيم الاستعمارية الإيديولوجيَّة. إنَّ اجتثاث مفاهيم الاستعمار، في الواقع، أعقدُ مما نظنُ، وبالتَّالي فإنَّه يتطلَّبُ مواردَ معرفيَّةً يمكنُ من خلالها التَّعاملُ معه بوصفه مفهوماً أو أيديولوجيا، أو بحسبانه عمليَّةً متعدِّدَةً ومتنوِّعةً.
كواسي ويريدو المفكر الغاني البارز والشهير، ولد في العام 1931، وقد تعرَّف على الفلسفة في وقت مبكّر من حياته، وقرأ أوَّل كتابين له في الفلسفة أثناء فترة تمدرسه حوالي العام 1947، في كوماسي عاصمة الآشانتي، كان هذان الكتابان هما: “أساسيات المنطق” لبرنار بوسانكيت (Bernard Bosanquet) و”تعلّم الفلسفة بنفسك” ل جواد Joad. انجذب كواسي ويريدو إلى المنطق بسبب تقاربه مع النَّحو الذي كان يستهويه، كما كان مولعاً بعلم النَّفس العمليّ خلال سنوات تكوينه في العام 1950، وفي أثناء إقامته في أكرا عاصمة غانا عثر على نصّ آخر أثر على فكره وأسلوبه الفلسفيين، ويتعلَّق الأمر ب “أيام سقراط الأخيرة”، والذي يضمُّ محاورات أربع: الدّفاع، ويطيفرون، ومينون، وكريتون. كان لهذه المحاورات تأثير كبيرٌ في الفصل الأخير من كتابه الفلسفي الأوّل: “الفلسفة والثقافة الإفريقية” (1980)، والذي يتَّبعُ في نهجه البنية الحوارية. التحق ويريدو بجامعة غانا في العام 1952 من أجل دراسة الفلسفة، لكنه قبل التحاقه بدأ، فعلياً، بدراسة فلسفة جون ديوي، لكنه تلقّى تعليمهُ الأساس بالجامعة، وبالأخص تكوينه في الفلسفة الغربيَّة، واكتشف تقاليد التفكير ذات النَّفس الإفريقيّ من خلال جهوده الفرديَّة الخاصَّة، ولم يكُن ويريدو راضياً تمام الرَّضا عن الشَّكل الذي كان عليه التَّعليمُ الجامعي في الفلسفة، والذّي لم يكُن يعيرُ التَّقاليد الفكريَّة الإفريقية أيّ قيمة تذكر.
قدَّم كواسي ويريدو مجهوداً ضخماً من أجل تأسيس مجال الفلسفة كما هي في شكلها المعاصر، وبوصفها مجالاً قوامُه التَّفكيرُ النَّقديّ، ولم يقتصر إسهامُه على مجال جغرافيّ ضيّق، بل امتدّ إلى القارّة الإفريقيّة كلّها وخارجها. ومن أجل فهم التصوُّرات التي حدّدت فلسفة كواسي ويريدو ينبغي أن نعيد الاعتبار للسياق الذي نشأت فيه فلسفتُه، وأن ننظر في الرّوابط التي أسست فكره، وحدّدت المعالم الكبرى لأسئلته والمسائل التي طرقها، من خلال استعادة التّاريخ الإفريقي، والأنثروبولوجيا، والأدب، ونظريّة ما بعد الاستعمار، وبالأخص ما جاء به إدوارد سعيد وغياتري سبيفاك، وهومي بهابا، وأبيولا إريلي، وبيدون جيفو. ساهم منظور ويريدو في تشكيل الفكر الإفريقي الحديث، ومثَّل رؤيةً ثاقبةً في تحديده لطبيعة العمليات المتضمنة في الخطابات الاستعمارية، ويمكنُ اعتبارُ فلسفته ردّ فعلٍ مباشر في وجه خطابات الهيمنة والسيطرة الإمبريالية التي فرضت نفسها على مدى عقود عديدة.
وفي ما يتعلَّق بمسألة “اجتثاث المفاهيم” ذات الطابع الاستعماريّ؛ فهي نظريَّةٌ لها تاريخها الخاصّ في الثقافة والفكر الإفريقيين، وقد استفاد خطابُ ما بعد الاستعمار من مساهمات عديدة قدّمها فلاسفة ومفكّرون كبار من أمثال: فرانتز فانون، وليوبولد سيدار سينغور، والشيخ أنتاديوب، ونيونغي أو ثيونغو. يبدو أن الفلسفة الإفريقية، في ضوء ذلك كلّه، كانت في لحظات معيَّنة محدودةً في إطار النّقاش، وبالمقابل فقد استطاعت تخصُّصات أخرى تطوير نفسها، كالأدب، ونظرية ما بعد الاستعمار، والدّراسات الثقافية. لم يكن مشروع اجتثاث الاستعمار خاصًّا بإفريقيا وحدها، وإنَّما هو مشروع عالميّ، ساهمت فيه شعوب وأمم كثيرة، واستطاعت بفضل دفاعها المستميت ضدَّ أشكال الاستعمار الثَّقافي.
تجاوزت أعمال ويريدو النظرية إطارها الظّاهر من أجل أن تشمل انتقادات ومناقشات حول تقاليد فلسفية خارج الأعمال الناطقة بالإنجليزية، الخاصّة بالفكر الإفريقيّ الحديث، وبناء على ذلك لا ينبغي لهذه الانتقادات أن تكون مجرّد احتفال بالخطابات ما بعد البنيويّة، على حساب التقاليد الفكريّة الإفريقيَّة، بل ينبغي أن تكون استكشافاً للتقارب الخطابيّ، بين التَّقاليد الأنغلوفونية والفرونكوفونية التي تنبني عليها الفلسفة الإفريقية. أضف إلى ذلك، فإنه يلزمنا استجواب كل الحدود الأخرى التي تلامسها الفلسفة أو تتقاطعُ معها، من أجل فهم عدد المكاسب التي قد تعود على حركة الفلسفة الإفريقية المعاصرة، وبالأخص الناطقة بالإنجليزية، بالنفع الكثير من حيث تطوير ذاتها وإشكالياتها. إذ الإشكاليات التي ما يزال المجال الفرونكفوني يناقشها قد تكون مغيَّبةً إلى حدٍّ بعيد عن نظيره الأنغلوسكسونيّ، وذلك بسبب عدم قدرتها على مقارعة إشكالية الهوية.
تشيرُ أعمال ويريدو – وإن بطريقة غير مباشرة – إلى ضرورة إعادة تقييم الخطابات الأخرى غير الفلسفية مثل: الأنثروبولوجيا الاستعمارية، وفلسفات الذاتية الزنجية، وفهم دورها في تشكيل الذات الإفريقية الحديثة، وتلك بعض الأسس التي لا محيد عنها من أجل تحقيق فهم أفضل بالوضع الذي تعيشه الفلسفة في لحظتها الراهنة؛ حيث تظهر هذه المستويات بجلاء في كتابات ويريدو بالرّغم من اختلاف درجاتها، بين مؤلفاته الأولى والأخيرة.
لم يكُن اهتمامُ ويريدو بالفلسفة الإفريقية وليد تكوينه الأكاديميّ، بل جاء نتاج شغفه – كما أسلفنا – وكان لديه اهتمام واسعٌ بالفكر الإفريقيّ، وأوَّل الكتب التي حفّزت اهتمامه هذا كان “عقيدة الآكان عن الإله: مقطع من أخلاق ودين ساحل الذهب” لجيبي دانكواه. وبالرَّغم من أنَّه لم ينشر مبكّراً إلا أن كواسي ويريدو كان غزير الإنتاج، وبالأخص في الفترة الممتدّة ما بين أوائل إلى منتصف فترة السبعينات، ونشر في كثير من الأحيان ما قد يصل إلى ست ورقات بحثية رئيسة في السنة، حول مواضيع مختلفة ومتباينة تتراوح بين المنطق ونظرية المعرفة، وأنظمة الفكر الإفريقية، في مجلّات دولية محترمة. يعتبر كتاب ويريدو الأساس الأوَّل: “الفلسفة والثقافة الإفريقية” (1980)، كتاباً هامًّا وقد حظي باهتمام واسع.
اعتمدت فلسفة كواسي ويريدو على إعادة النّظر في المفاهيم الاستعمارية، ويسعى من خلاله ذلك إلى في التفكير الأسس المكوّنة للمعرفة الإفريقيّة الحالية. وثمّة، في الحقيقة، هدفان من وراء ذلك – سبقت الإشارةُ إليهما – فهو من جهة يسعى إلى تقويض الجوانب غير المرغوب فيها من التَّقاليد المحليَّة والكامنة في الفكر الإفريقي الحديث، من أجل جعله أكثر قابليةً للبقاء، ومن جهة أخرى يهدف ويريدو إلى هدم النظريات المعرفية الغربية التي لا تفيد هذا التَّراث من أجل تحقيق التَّقدُّم المنشود. يمكنُ – تبعاً لويريدو – للفلاسفة الأفارقة الاستفادةُ من كلّ المصادر التي توفّرها المعرفة الحديثة، وفي تقديره إن أهم ما يمكنُ للفلاسفة الأفارقة المعاصرين التفكيرُ فيه هو ذلك الأفق الذي يمكنهم من التفكير التأمليّ في كل ما ينتمي إلى التّقليد وإلى الحداثة.
كانت نظرية ويريدو في إعادة النظر في المفاهيم الاستعمارية هي الأساس الذي يوجِّهُ فكرهُ وفلسفته، وهي وليدةُ رؤية متأثرة باحتكاكه الطويل بالفلسفة التحليلية الإنكليزية، ولم يبدأ التفكير في مشروع الفلسفة الإفريقية تحت وطأة الاستعمار أو في علاقة برغبته في مقاومة مظاهر العنف الثقافي الإمبريالي، وإنما نتيجة مباشرة لمواجهته معضلة الحداثة وتلقيها في إطار الوعي الإفريقي ما بعد الاستعماري، ولم يكنْ في توجهه هذا حالةً فريدةً، بل كانَ من بين معاصريه من يشاركهُ الهمَّ نفسه مثل: بولان هونتندجي، وموديمبي، وآخرين. كانت مساهمة ويريدو جوهريَّةً في تأسيس تقاليد ممارسة الفلسفة الإفريقية الحديثة، وتميّزت تأمُّلاتُه بالاتّساق والدّقة، وذلك بصرف النّظر عمّا يمكنُ أن تشي به من قيود.
لم تكن مهمّة أعادة النّظر في المفاهيم هيّنةً وأمراً سهلاً، وتدخلُ ضمن المشروع الأوسع القاضي ب “اجتثاث الاستعمار”، وهو ما يقتضي، بالضّرورة، الأخذ بعين الاعتبار ما لهذه المهمّة من تعقيد؛ لأنّ المسألة تقتضيّ التّخلّص من شبكة مفاهيميّة محدّدة تشكّل وجهة نظر المرء نحو العالم، وهي من جهة أخرى فإنّ هذه المهمة تستلزم استعادة لتراث مجزّأ، وترغمنا على النّظر إليه في تفاصيله لا في كليّته. يمكن أن نعيد التَّفكير في هذه القضية من خلال منظور موسَّع، واستحضار ما تقدّم به فرانتز فانون، والذي يرى بأنَّ عملية اجتثاث الاستعمار مطلبٌ أساس بالنسبة إلى جميع الشُّعوب المستعمرة، وهي تقتضي حالا من الاضطراب الشامل الذي تخضع له منظومة الأفكار. وبالتالي فإن مهمّة اجتثاث الاستعمار له تكمن أهميته في إجرائيته وبعده العمليّ الذي قلّما نجدُه في مشروع غيره، وهذا لا يعني أن فانون لم يكن لديه مشروع أو خطّة يتّبعها في إطار رهانه على إزالة الاستعمار، ولكنّه يحدّدُ تصوّراً عامًّا يحدّدُ علاقة الشعوب المُسْتَعْمرة بهذه المنظومة الاستعمارية القائمة، والتي تمارسُ عنفاً ثقافية ورمزياً قلَّما ننتبهُ إليه.
يبدو أنَّ المسألة المتعلّقة بإعادة النظر في المفاهيم، التي حملها ويريدو على عاتقه أعقدُ المسائل على الإطلاق، وبالأخص في تلك المرحلة التي لم تكُن مشاكلُ الهويَّة الإفريقية قد حسمت بعدُ وما أفرزتهُ تلك المشاكلُ من تحدّيات قامت في وجه الفلسفة والفكر. وما يشي به هذا الوضع هو أنَّ نهاية الاستعمار لم تكن لتعني نهاية الإمبريالية أو لتعني عدم قيام الدّولة المركزية التي تحتكر السلطة كلَّها، ولكن ما يلاحظ هو أن تلك المرحلة (= وبالأخص النصف الثاني من القرن العشرين)، برهن على صورة جديدة من السيطرة التي ظهرت على السَّاحة السياسيَّة الإفريقيَّة. كانَ هذا كلُّه كافياً من أجلِ تعثّر الوضع الاقتصاديّ في مرحلة ما بعد الاستعمار، وتأخّر القارّة الإفريقيَّة.
يقترحُ ويريدو أنَّ الفكر الإفريقيّ لا يمكنه أن يحقّق مبدأ إزالة الاستعمار إلا من خلال المحافظة على علاقته بالآخر، تلك العلاقة التي تسمحُ لهُ بأنْ يقارن نفسهُ به، لا أن ينزوي على نفسه ويقطع علاقته بالعالم والآخرين؛ لأنَّ ذلك يدعو إلى التقهقر والتَّخلّف، وأما مقارنة الذات بالآخر فهي الوسيلة الوحيدةُ من أجل التفكير في السبل الممكنة من أجل تحقيق التَّقدم الفكريّ والثقافي والاقتصاديّ والسياسيّ. ما يقصدُه ويريدو من خلال هذا الانفتاح والمقارنة لا يعني الارتماء الكليّ في سلطان الآخر، ولكن يعني التَّحرّر من الصور التقليدية في بناء الذات وفهمها؛ لأنَّ ذلك يعطّل من قدرتنا على فهم ذاتنا داخل العالم، وفي علاقة بالآخرين، ونقداً للمنظور الدّاعي إلى أنّ أساس إزالة الاستعمار ينبغي أن يستند إلى أسس محليَّةٍ.
يتحقّق مفهومُ “اجتثاث الاستعمار” لدى ويريدو من خلال الانفصال عن النّظم الامبريالية، والانفصال عن مراكزها التي تمرّر أشكالاً من السّيطرةِ على الأطراف. وكانت محاولات ويريدو اللاحقة من أجل تحقيق مبدأ إزالة الاستعمار ذات أهمية بالغة، وتمكّن من استكشاف بعض الالتباسات في مقارنته بين العادات التقليدية الإفريقية والعادات الغربية، وبالأخص على المستوى الأخلاقي، وذلك على المستوى المفاهيميّ، وهي التباساتٌ ناشئة عن الأفكار الغربية التي تنتمي إلى إطار مختلف تماماً عن الإطار الإفريقيّ، والتي حاولت فرض نفسها على الإطار الإفريقيّ، حيث تسبَّب هذا النَّقلُ المعرفيّ في حدوث حالات من أزمات الهويَّة، وهذا الوضع هو الذي اصطلح عليه ويريدو ب “العقلية الاستعمارية” (=الذهنية الاستعمارية). تأطَّرت جهود ويريدو في محاولته لتحديد ملامح هذه العقلية واستراتيجياتها، وحدَّد الأدوات التي يمكنُ من خلالها تخفيف وطأتها على الذّات الإفريقية إلى أدنى الحدود الممكنة.
يغلِّبُ ويريدو الوقائع الاقتصادية والاجتماعية الحديثة، والتي تتلاءم مع واقع التقدم الاجتماعي، في قراءته للنوازل المرتبطة بخصوصيات المجتمعات المحليّة، ويرى أنّ جوانب التَّقدم لا ينبغي أن تخضع تماماً للإطار المحليّ المحض، بل أن تنخرط في ما يمكن الاصطلاح عليه ب”الواقع المتنامي”.
ثالثا: فلسفات العالم والفكر الآخر
يرى ويريدو أن الفلسفة الإفريقية لا يمكن أن تحقّق مهمّتها الخاصّة والمتمثلة في اجتثاث المفاهيم إلا بتوسّل الفلسفات الأخرى. يناقش وريدو في كتابه “الكلِّيَّات والخصوصيَّات الثقافيَّة” (1996) مفارقةُ العامِّية والخصوصيَّة في الثقافة الإنسانية. يجادل وريدو في الكتاب بأنه من الممكن التوصل إلى مفاهيم ذات صلة عالمية، يمكن فصلها عن إِعْرَاضِيَّة الثقافة. تجعل كلِّيَّة المفاهيم هذه الأخيرة مفهومة ضمن مجموعات ثقافية مختلفة. يرى وريدو وجود كلِّيَّات وخصوصيَّات في الفلسفة والدِّين والثقافة.
وفقًا لويريدو، تستند الكلِّيَّات في نهاية المطاف إلى الطبيعة البشرية المشتركة، بينما تنبثق الخصوصيَّات من بعض الاختلافات العرضية في الثقافة. العام هو ما هو عام، وهو ما يمكن أن يُمَثَّل، أي ما يمكن أن يكون له مثيل. يمكننا أيضًا التحدث عن درجات العمومية. ما يمكن تمثيله في هذه الحالة قد يكون هو نفسه مثيلاً لشيء أكثر عمومية. واستنادًا إلى قابلية استيعابي المفاهيم الكلية عبر الثقافات، يفترض ويريدو أن الفلسفة يمكن أن تكون عالمية، على الرغم من كونها نسبية ثقافيًا في الواقع. يعترضُ ويريدو على مفهوم الخصوصيَّة من خلال التطبيق المنطقي لقاعدة الاستدلال بالاختزال إلى المحال، ويظهر أنه مفهوم دحض ذاتي.
خلاصة
يمكن القول إن مساهمة ويريرو المميزة في نقاش حول أصول ومكانة وإشكالية ومستقبل الفلسفة الأفريقية المعاصرة تكمن في صياغاته المتعلقة بنظريته في “إزالة الاستعمار المفاهيمي”.
ينطوي نهجه في صياغة هذه النظرية حول الفاعلية الخطابية والممارسة الفلسفية بشكل أكثر تحديدًا على دمج شكل من أشكال التثاقف. بعبارة أخرى، يستلزم نهجه تحليلات لكل من شريعة الفلسفة الغربية ومظاهر الثقافات القبلية كطريقة لتحقيق توليف مفاهيمي. في الواقع، تتضمن هذه الخطة عنصرًا قويًا من التثاقف كمسألة منطقية وكفاءة عالية في [اللغات] متعددة اللغات. وبالتالي، فهو ليس فقط تمرينًا في التوليف المفاهيمي، ولكنه أيضًا مشروع يتضمن علم اللغة المقارن.
في أجزاء أفريقيا الناطقة بالإنجليزية، كان لتجربة ويريرو وأبحاثه في تدريس الفلسفة الأفريقية أهمية هائلة. الجانب الإيجابي في ذلك هو أن دراسة الفكر الفلسفي الأفريقي تجاوزت في لحظات إيجابية إشكالية الهوية أو ما يسمى بإشكالية الأصول. البعد الأقل تفضيلا في هذه المعادلة هو أن اكتشافات ويريرو أدت إلى ظهور (بلا شك بغير قصد) مدرسة تلاميذ مهيمنة إلى حد ما تعزز أكاديمية تحددية وتتعارض مع روحه الأساسية في الإبداع المفاهيمي. وبالتالي، قد يصبح من الضروري ليس فقط نقد مجموعة أعمال ويريرو ولكن ربما أيضًا مدرسة تلاميذه الذين يفضلون بدلاً من تقدير أصالة صياغاته الوقوع في مطبات التمفصل الأيديولوجي المفرط.
بلا شك، اكتشف ويريرو مسارًا صعبًا في الفكر الأفريقي الحديث حيث يتجاهل في بعض الأحيان معنى وجود الفلسفة الأفريقية. بالإضافة إلى ذلك، لوحظ أنه يفتقر أيضًا في بعض لحظات أعماله إلى محاولة لـ”إزالة الكلية” ومن ثم تحديد مكونات ما يعتبره أسس الفلسفة الأفريقية. بعبارة أخرى، تجد الفلسفة الأفريقية شكلها ومظهرها وكذلك رسوخها المفاهيمي فوق المنصة الخطابية التي توفرها الفلسفة الغربية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المساحة النظرية المتاحة لها تستمد من نفس المجموعة الغربية التي قدمت الإجماع. ويتضمن جزء من استجوابات عمل ويريرو الأخيرة التشكيك في شرعية تلك المساحة كموقع وحيد لبناء ممارسة فلسفية كاملة للوعي الأفريقي المهجن والمغترب. غالبًا ما يُطرح السؤال، ما هي الطرق التي يمكن من خلالها توسيع المساحة؟
في الواقع، تقدم مصطلحات مثل “التكامل التأملي” و”التأمل الواجب” المساحات النقدية للصياغة النظرية لشيء لم يتم تصوره بعد بشكل ملموس. لذلك نرى في مجموعة أعمال ويريرو الإشكالية المألوفة للغاية التي تتضمن إشكالية ثنائية التقاليد / الحداثة. أخيرًا، يمكن القول إن هذا التوتر لم يتم حله تمامًا، ولكنه لحسن الحظ فهو أيضًا توتر لا يعرض لإلإبداع الفلسفي الخاص به. بل يبدو أنه يحيي تأملاته بطرق غير مسبوقة.
بيبليوغرافيا أعمال كواسي ويريدو