إن مثل هذا الشيء المستعصي هو الحب
مهما كان، ذلك لأن الطريق مظلم حيث
لا نتبين لا السبب ولا السلاح المسحوب
ولكنه مع ذلك يأتي بأضرار جمة
بروبرتيوس
عند الحديث عن هايدغر في نظري لابد من وضع السؤال الأصلي الذي أنطلق منه بشكل واضح حتى ندرك كمشائين حداثيين طبيعة الاستدلال الهايدغري وكيفية معالجته لبعض المعضلات الفلسفية. السؤال كالتالي: كيف يمكن أن تظهر “الأشياء” أو “الشيء” كما هو دون إدراجه تحت مقولات ميتافزيقية انطولوجية منطقية؟ أي أن نرى “فردية” الشيء وفرادته من حيث أنه “الهَذية” أي هذي الورقة وهذي الورقة المجاورة لها. من البين أن هذا السؤال سيقود هايدغر لتبني الفينومينولوجيا مع تعديلات حاسمة تكاد تخرجه من عباءة هوسرل. الشعار الحاسم والمُنقذ للهايدغرية(العودة للأشياء ذاتها) هكذا دشن هوسرل عصر الفينومينولوجيا كقفزة لازمة لم يدركها ديكارت عندما أكتشف قارة “أنا أفكر إذن أنا موجود” فالأشياء الموجودة لم تكن متحررة من قبضة المقولات حيث ينعدم ظهور الأشياء بذاتها كما هي. ولا أدل من ذلك المشروع الكانطي حيث صار الإنسان حاكمًا على الطبيعة حتى قوانينها تصدر عن الذات المفكرة. فالشيء لن يكون شيئًا ما لم يكن يندرج في الإستطيقا المتعالية أو حدس الزمان والمكان. ثم يذهب الشيء إلى مقولات الفهم كالهوية والعلية وغيرها فالشيء كما هو واضح لم يعد يظهر كما ينبغي. أظن بشيء من المجازفة بأن هايدغر هنا تحير كثيرًا من جدوى الظاهراتية الهوسرلية حيث أنها صحيح قادرة على كشف الأشياء من خلال شعارها الأكبر وتقنياتها المنهجية كالايبوخي أو تعليق العالم بين قوسين. إلا أن السؤال المؤرق: هل تكفي الفينومينولوجيا كنهج فلسفي لإظهار الأشياء كما هي ؟ نعم ولا . نعم لأن هوسرل وضع الفلاسفة على طريق معبد من خلال مقولتين في غاية الأهمية : أولًا نفي القبليات على طريقة كانط والركون للمعيش وثانيًا قصدية الوعي أي كل وعي هو وعي بشيء ما . سيأخذ هايدغر كلا المقولتين مع تعديل ثوري يقع الكثير في خطأ قراءة هذا الحدث وأعني “نفي الأنا المتعالية” وترتب على ذلك نقد ثنائية ذات/موضوع التي برزت منذ عصر التنوير. هذه اللفتة وضعت القراء في ربكة حتى يومنا هذا فسارتر مثلًا قرأ فلسفة هايدغر من خلال مقولتي الذات والموضوع وظهر بمقولته الشهيرة “الوجود يسبق الماهية” وينسب البعض هذي المقولة لهايدغر أي أنها تمثل شرحا وافيًا للهايدغرية إلا أن هذا الفهم للهايدغرية يقود إلى نتيجة كارثية: عدم جدوى فلسفة هايدغر. إذ ما الإبداع لو كان لم يتجاوز الذاتوية كما فعل هوسرل؟ سيكون هوسرل نسخة أخرى. ومنثم نظفر بنقطتين في غاية الاهمية هنا:
نفي القبليات
نقد الذاتوية
النقطة الثانية هي أهم ما قدمه هايدغر في نظري وهي أكثر ما يساء فهمه.
إذن الخطوة الأولى نحو الأشياء كما تظهر في ذاتها تكمن في “نفي القبليات” حتى نرى “الظواهر” كما هي في تجليها . يبقى الخطأ والانسداد الهوسرلي كامن في مقولة “الأنا المتعالية” فالشيء سيأخذ أولًا طبيعة الأنا المُدركة وثانيًا تدخل “الأشياء” في عالم من “ذاتية التقييم” مصداق قول سبينوزا في الاتيقا “إننا لا نرغب بشيء كوننا نعتقده خيرًا بل على العكس إنا نسميه خيرًا لكوننا نرغب فيه” إذن لاقبليات للأنا ولا تدخل الأنا في علاقة مع العالم قائمة على تعالي طرف(الأنا) على (الطبيعة) بل على الضد تمامًا وهذا ما يفسر عودة هايدغر للفلاسفة ما قبل سقراط. الذي يهمني هنا ليس شرح فلسفة هايدغر بل هذه النتيجة: لقد تصير الشيء إلى ظهور بلا مقولات وصارت القيم علائقية بين الذات والموضوع فنحن لا نضيف قيمًا من عندياتنا هكذا بل في لقاءنا مع الظواهر تتشكل القيم . الرؤية الذاتوية هي من قادت الفلسفة الحديثة للشك في صحة وجود العالم وهذي نتيجة منطقية وفقًا لمقدمات تاريخ الفكر. بركلي لم يكن خارج التاريخ فمنذ طاليس كان يتأهب لإعلانه الأكبر : العالم ليس إلا انتاج الذهن.
ما علاقة فلسفة هايدغر بالسريالية؟ في الحقيقة أن هدف السريالية كما عرفها بريتون ” آلية نفسانية خالصة” خالصة أي محضة بمعنى أن نترك للذات حرية التعبير بهذه الآلية التي هي “التداعي الحر” دون أن نفرض على أداة التعبير أي قيم مضافة “بلا اي انشغال جمالي او أخلاقي ” والمحصلة هي : أن ندع الأشياء تتبدى كما هي . إذن هل في السريالية ضرب من الفينومينولوجيا المتسترة؟ في الحقيقة أن المتأمل سيلاحظ أن القرابة بين السريالية وهايدغر ليست دقيقة بقدر قربهم من هوسرل، وهذا صحيح فالسريالية كانت تعتمد على الفرويدية وهذه الأخيرة واقعة في الذاتوية الحديثة لذلك استفتح بريتون تعريفه “آلية نفسانية” فقد وضع سلفًا الظواهر في حيز الجزء النفساني وهذا هو الانسداد الذي قاد السريالية للتفكك فيما بعد، ودخولهم مع الحزب الشيوعي الفرنسي والذي أغضب انتوني ارتو لم يكن عبثًا بل من هذا المنطلق تصيرت السريالية إلى خطاب أشبه بالمعالجة النفسية وليس الجمال والفن، إذن يبقى السؤال : كيف تكون السريالية هايدغرية؟ وبعده : كيف نرمم العثرات التي وقع فيها كلًا من هايدغر والسريالية حتى نظفر بأرض جديدة يكون العلم والفن قطبيها السائلة فلا أوتاد صلبة هنا.
كان لابد أن أضع هذا التحذير هنا : حذار من أي قراءة حداثوية ذاتية للمتن الهايدغري. والجمع الذي أقيمه هنا بين السريالية والهايدغرية لا يغيب عنه هذه الجزئية الخطيرة جدًا والتي يتعثر بها أكثر الناس استغراقًا في الفلسفة والتفلسف. تقترب السريالية من هايدغر والعكس من حيث الغاية فكلاهم يريدون “كشف الأشياء كما هي ” ويقتربون ايضًا من بعضهم في ردم الذاتوية لكنها عند السريالية ليست واضحة كهايدغر بمعنى أن الفرويدية التي اعتمدتها السريالية هي التي قادت إلى موت الكوجيطو أو الكوجيطو المجروح فاللاوعي ينخر الأنا ومن ثم يفكك أسطورة “ذاتية التقييم” والان حتى أخرج برؤية نقدية قد تفتح بابًا نحو التوليف : أخطأ هايدغر في نظري عندما جعل الأنطولوجيا هي الأرض الصلبة التي تحدد الكائن وكينونته وخطأ السريالية يكمن في وضع الظواهر في حيز النفسانية. وهذا الجدل ما بين الحزبين قديم جدا وكان شديد الوضوح بين ديكارت والمثالية الألمانية من جهة وبين لوك وهيوم من جهة أخرى . هل يقودنا هذا إلى نوعٍ من اللاأدرية العميقة؟هنا لدي تحفظ على معنى اللاادرية وعلى الشكوكية يطول ذكره. لكن المهم من هذه المقالة أن نركز على هذا السؤال : كيف يمكن ظهور الأشياء كما هي دون فرض أي مقولات؟
أما كيف نرمم هذه العثرات فهذا مشروع طويل يحتاج إلى قراءة تاريخ الفلسفة والفكر البشري بعامة دون أن نقع في وهم الثنائيات وتقسيم العلوم. المهم كيف نقرأ تاريخ الأفكار وكيف نعالج هذه البيانات الضخمة القادم من التاريخ ؟ بالنسبة لي هناك مبادئ أساسية أضعها عند تأويل الأفكار وهي :
المادية التامة للعالم
تجنب الأطر الكلية والثابتة بإطلاق
بناء منطق يعتمد على التغير والنسبانية
بيان الرواسب الميتافزيقية لكل خطاب
عدم الفصل بين الذات والموضوع بل إن هاتين المقولتين لا تعبران بدقة عما أزمع بيانه.
المادية وخاصة المعاصرة تقيم وزنًا كبيرًا للبعدي دون القبلي لما في القبلي من لاهوتية بينما أنا أضع هاتين المقولتين في صلب المنهج الذي أتبعه ولكن بتحوير الدلالة فهناك “قبلي” لا يشترط فيه التعالي والروحانية الخ كالقبلي التاريخي الذي قال به هايدغر ومن ثم أقول يتركب القلبي عندي من عناصر عدة التاريخ اللاوعي بالمعنى العلمي لهذي الكلمة وليس الفرويدي ومن ثم القبلي كجينات وهرمونات الخ
التدريب الذي يقدمه لنا هوسرل وهايدغر والسريالية يكمن في أن نمارس حقنا الحر في التداعي وعدم الاكتراث للرقابة كما أن نتدرب على عدم إقحام أي مقولات للظواهر والطبيعة، هذا التعليق للعالم ليس شكية مبتذلة انتجها رواد التنوير واللاهوتيين من قبلهم بل هو تعليق “إستطيقي” لا ذاتوية فيه بمعنى أن يكون العالم كله ظاهرةً جمالية.