2025-10-16

١٨ ديسمبر ٢٠١٧
أتذكر وأنا طفل تحديقي في السقف وأنا على كرسي طبيب الأسنان متسائلا بارتباك عميق “كيف عدتُ إلى هنا مرة أخرى؟” يبدو وكأنني استيقظت هناك بحضور كامل على الحقيقة التي لا يمكن إنكارها والمتمثلة بحشو السنّ أو نزعه. تلك الأيام التي مرت بين مواعيد عيادة الأسنان لم تكن سوى حشوة تشبه الحلم. فقط على ذلك الكرسي انفجرت الحياة الحقيقية على الوجود وجهاز الحفر في يد الطبيب يبقيني مستيقظا بلا هوادة في اللحظة الراهنة. في قبضة الألم انتابني شعور بالغضب؛ كيف سمحت لتلك الأيام الخالية من الهم أن تفلت منّي فيما بدا لي كلحظة عابرة؟
استفرغت الكثير من طاقتي الذهنية في أيام مراهقتي في محاولة القبض على ذلك الحشو الذي يشبه الحلم لأعيش بدون انقطاع ما يسميه المعلم البوذي تيك نات هان Thich Nhat Hanh بـ”عدم وجع الأسنان” الذي سرت به غالب الأيام دون أن أعلم. كان تمرينا على استحضار الألم بشكل متخيّل من أجل الشعور بنعمة غياب ذلك الألم. لا يتعلق الأمر هنا بالآلام العادية، بل بالآلام الهائلة كذلك. كنت أنظر في طريق حياتي المقبل لأرى خسائر كبرى – في الصحة والأقارب والحياة نفسها – لأشعر بثقل الحزن الناتج عن ذلك. كنت أرغب في تسخير تلك الطاقة العاطفية، لجعلها تعيد صبغ شعوري بالعافية. كنت أرغب في تحويل الخسارة المستقبلية إلى امتنان في الحاضر.
أثبتت جهودي تلك عدم جدواها باعتبار أن الخسارة جاءت في وقت مبكر جدًا. في الرابعة والعشرين من عمري، اكتشفت أنني مصاب بسرطان عظام نادر وشديد. في سنة العلاج الكيميائي والجراحة التي أعقبت ذلك تلاشت حتى أبسط القدرات التي كان من المستحيل اكتشاف قيمتها الحقيقية من خلال الجهد التخيّلي وحده. لم تعد القدرة على المشي، والاحتفاظ بالطعام، والتغوّط بدون ألم كهربائي بمثابة عطايا عادية، بل هدايا أشبه بالمعجزات. في غيابها، اشتعلت حيوية المرض بشكل مشرق.
ومع اقتراب جلسات العلاج من نهايتها كان أملي في أن أتحرر أخيرا من ذلك السجن مشوشا بيأس خفي بشأن الحياة وأسوارها. إذا تم محو عام من السقوط الكاسر للظهر والألم الذي يطوي الذهن في ضباب التهاون والنكران، فما معنى كل تلك المعاناة؟ كنت بحاجة للاحتفاظ بهذه الحيوية، لمقاومة الانتقال للهدوء بسبب همهمة العافية التي كافحت من أجل الاستيقاظ منها منذ أيامي على كرسي طبيب الأسنان.
إلا أنه مع تحسن أحوالي الصحية بدأت تلك الحيوية تتلاشى. لي الآن تقريبا خمس سنوات في هدوء العافية ولاحظت أنني قد عدت مرة أخرى لذات النمط من محاولة تسخير حيوية المرض ودفع نفسي مرة أخرى لكرسي طبيب الأسنان لتجنب فشلي في أن أشعر بانعدام ألم السن. إلا أنني أتعلم الآن ببطء أن الحفاظ على ذلك المستوى من القدرة الذهنية ومن تلك الدرجة الحامية من الخبرة هو وصفة مرتبطة بالإنهاك أكثر من ارتباطها بالاستنارة.
كان الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر قد وصف خبرتنا المعيشية بأنها انتقال مستمر بين الوعي اللاتفكّري “العيش-في-العالم”، والوعي التفكري “التفكير-في-العالم”. يبدو أن الامتنان يتطلّب فعل من أفعال التفكّر في الخبرة وهو ما يتطلب كذلك شكل من أشكال التجريد والابتعاد عن تلك الخبرة. وبشكل متناقض فإن قدرتنا على الامتنان تتعزز وتحبط معا كلما حاولنا الحفاظ عليها.
لذا يبدو أن هناك فرق مهم بين التأمل في العافية وبين ممارسة تلك العافية. كان فهمي المعتاد للامتنان يجعلني أجبر نفسي على دخول عالم الوعي التفكّري وابعادها عن العيش-في-العالم. كنت أجرّد عافيتي باستمرار في حالة من الانشغال الدائم بعدّ العملات بدلا من صرفها.
يتطلب الامتنان بالمعنى المعيشي، أن نعود للوعي قبل التفكري الحالي، وهو ما يبدو بالنسبة للذهن المتمحور حول ذاته أنه قضاء على الوعي بالكامل. إلا أن سارتر يخبرنا أن الفعل في حال ما قبل التفكّر لا يعني بالضرورة أنه غير واعي. هناك أمر يشبه “الزنّ” هنا، فالفاعل يتلاشى في الفعل كطريقة الفنان في لحظة التعبير الإبداعي والموسيقي مع تدفع الأداء. ولكنها بالنسبة للغالبية منّا هو تلاشٍ للذات ولشعور الأهليّة المرافق لها.
كانت محاولاتي لتسخير حيوية المرض هذه في الغالب من أجل تجنب الانغماس في الحاضر. قبل السرطان كنت انطلق للأمام لذاتي المستقبلية، تلك الذات التي كانت قد تحمل الفقد بالفعل. كان ذلك الحكيم الأكبر سنّا الذي كنت دائما ما اتصوّر أنني، بلا حولٍ ولا قوة، في طريقي لأصبحه.
بعد السرطان، عدتُ صارخا إلى ذاتي السابقة – ذلك الشخص الذي عَرفَ الألم والغياب الصارخ للأشياء. لقد كان الجندي اليافع الذي أُختبر في المعركة والذي أشعر بفقدان شجاعته في معظم الأيام.
كلتا هاتين الذاتين ابتعدتا مني الآن لا بالمسافة، بل بالدرجة. لقد ضاع الحكيم بين التكهنات بينما الجندي أصبح مُحاصرًا في الجانب الآخر من الحواجز الوجودية التي لا تستطيع حتى الذاكرة اختراقها – مهما كانت حية ومؤلمة. هناك حزن في إدراك أنه، عند تثبيت أذن الواحد منّا على ذلك الجدار، يتم نفيه إلى الجانب الآخر من الألم.
بقي لدي شيء واحد: نفسي العادية الحالية خالية الوفاض كما كانت في اليوم السابق للتشخيص – لم تكن أفضل استعدادًا لمعارك الحياة التالية، ولا محمية من الألم الذي سيواجهها. وهو ليس مجرد ألم بطولي، إنه ألم الحصول على تذاكر ركن السيارة، وألم التنقل، وحزن الروتين القاتل – آلام صغيرة كنت محصنًا ضدها عندما طغى عليها السرطان. لكن ذلك القمر قد غاب منذ ذلك الحين.
ومع ذلك فإن هذا ليس سببًا لليأس. إنه لمن دواعي العزاء الغريب أن أتذكر فشلي وأن أتذكر أن جهودي للاستعداد لخسارة ملحمية كانت في الغالب بلا جدوى. لم أكن مستعدًا في ذلك الوقت ومع ذلك تجاوزت الأمر. كذلك لن أكون جاهزًا في المرة القادمة، لكن لدي سبب (وخبرة) للاعتقاد بأنني سأتجاوز الأمر مرة أخرى.
إذا كان هناك أي حكيم في داخلي فإنه يقول إنه يجب أن أتقبل الضعف المتمثل في ترك الألم يتلاشى وأن أسمح للجروح بالشفاء. حتى في أعقاب مرض خطير أو بشكل مقلق أكثر، في انتظار حدوث ذلك المرض، يجب أن نجازف بالعودة للنوم مرة أخرى في العافية.
الكاتب: خريج حديث من كلية اللاهوت بجامعة هارفرد ومنذ ٢٠١١ عمل مع منظمة شركاء في الصحة وهي منظمة غير ربحية تسعى لتعزيز أنظمة العناية الصحية في المناطق القروية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا.
المترجم: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابيّ فلسفة الآخرية و الفلسفة حين تنصت في الظلام.
المراجع: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
Gratitude: In Sickness and Health
Philip S. Garrity
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”
