2023-12-16
تقتضي منا الأشياء العظيمة الصمت حيالها أو الحديث عنها بتعظيم : أي بتهكم وبراءة.
نيتشه
للعدمية منذ نيتشه عدة دلالات لابد من ضبطها، وهذه “اللابد” تأتي استجابةً للرد على كل تلك التهم التي في غالبها لا تفهم العدمية إلا بوصفها موقف أخلاقي منحلّ، بينما العدمية في جوهرها فلسفةً في القيمة والقيم، إذن ما العدمية؟ أو العدميات؟ وكيف يصير أحد أشكالها موقفًا سعيدًا في العيش السليم، أو لنقل بشيء من التخفف الحُكمي : كيف تكون العدمية نمط وجود من بين أنماط أخرى تُعين على العيش السعيد؟
إن العدمية في معناها البدئي والأكثر شهرة هي: العيش دون قيم مطلقة. الفلسفات الكبرى أي الأنساق على غرار الأفلاطونية والأرسطية وكل المنظومات الكبرى الشمولية تُقدم قيمة مطلقة للعيش، فمثلًا أفلاطون يرى في مثال الخير والذي هو مثال المُثل وعلّة كل الأفكار هو الغاية النهائية من العيش، مما يعني أن سلوك الإنسان لابد وأن يُضبط وفق هذه الغاية الأخيرة أي الخير، وهذا ما يجعل أفلاطون على طرف نقيض مع الأبيقورية مثلًا التي تُعلي من قيمة اللذة كمبدأ كلي لحياةٍ سعيدة، فالعدمية في هذا السياق هي أن تعيش دون الاقرار بهذه القيم المطلقة كالخير والسعادة واللذة، لذلك ليست العدمية قولًا أو خطاب لا يُقر بأي قيمة بل هي خطاب يؤمن بالقيم النسبية ضدًا للقيم المطلقة. هذا هو المعنى الأول للعدمية، والذي يرتبط بشيءٍ ما مع دلالة العدمية كما يفهمها نيتشه.
يتهم نيتشه المثاليات والسرديات الكبرى فلسفية كانت أم ثيولوجية بأنها هي العدمية وليس القول بعدم وجود قيم مطلقة هو العدمية، لماذا؟ لأن العدمية لديه لا تعني افراغ الأشياء من قيمتها، أو العيش دون قيم مطلقة، بل هي الاعتقاد الجازم بأن هناك مجموعة من القيم تنبع من خارج الأرض، أي خارج الحياة التي نعيش فيها، لذلك هو يقلب الطاولة على الثيولوجيا من جهة أنها هي العدمية لأنها تضع مركز الثقل خارج العالم، ومن ثم يترتب عن ذلك ثنائيات يُفضل فيها جانب على آخر مثل الروح/الجسد، الظاهر/ الباطن فالروح والباطن أو الشيء بذاته في هذه السرديات خير من الجسد والظاهر، ومن ثم هذا هو المعنى الثاني للعدمية.
كيف تكون العدمية بالمعنى الأول لها خلاصًا؟ إن القيم المطلقة بمثابة الركض الطويل من أجل الظفر بالنهاية، لذلك الانسان الغائي يسير نحو هدف محدد ويُخضع كل شيء لهذا الهدف، فهو يبرر سلوكه الأخلاقي وفق غايته المطلقة، ويبرر أو يُسوغ وجود الموجودات وفق غايته المطلقة، وهو يقيس الجمال وفق غايته المطلقة، فالإنسان الغائب من الناحية العملية هو في سجن أفكاره كما أنه على اتم الاستعداد للتضحية بأي شيء من أجل هذه الغاية الكبرى التي شرعها لنفسه.
إن القيم المطلقة تعمل كما لو أنها نموذج لابد من محاكاته، لذلك عندما لا نبلغ هذا النموذج نُشعر بالخطيئة، فهذا الانفعال أي الخطيئة لا يكون ممكنًا دون أن نقيس عليه نموذج ما للطهارة، من هنا يعيش هذا الانسان في كدر عدم تحقق النموذج، وعدم التحقق قد يكون لسببين:
الانسان العدمي الذي لا يقول إلا بالقيم النسبية، هو في غنى عن هذه الصراعات، كما أن له رؤية جمالية للحياة، فالقيم عنده تكمن في قراءة كتاب وفي شرب قهوة أو شاي، هذه القيم فحسب، وهو دائمًا متحير ومُندهش من ظاهرة الجمال لأنه لا يملك إلا مقاربات نسبية حول هذه الظاهرة والباقي يتركه للتمتع والفرح، كما أنه لا يركض من أجل غاية كلية فهو على استعداد تام بأن يجلس في زاوية حجرته مغمض كلتا عينيه ويتأمل جمال الحياة، كما أن الانسان العدمي لا يبرر سلوكياته من أجل غاية مطلقة بل ينثني عند الآخر الذي هو عدمي مثله وكله يقين بأن التناهي جرحٌ وعلامة كبرى على وجه الحياة، كما أن العدمي لن يبرر الوجود من خلال مقولات وقصص وحكايات كليّة، بل لن يجد نفسه مهتم بسؤال: لماذا الموجودات وليس العدم؟ بل: كيف تكون عليه أشكال الحياة؟
في النهاية ليست العدمية موقفًا لا أخلاقيًا فهذه هجمة ثيولوجية ضدها، وهذه المقالة لا تريد التبشير بطريقةٍ ما بقدر ما تريد الدفاع عن الإنسان العدمي بوصفه الكائن المتوحّد في عالم يعجّ بصراعات قيمية لا تنتهي، إن العدمية طريق جميل لتدبير المتوحد ورفع حاله من عزلته المتعالية نحو أخوّة عالمية تضم الانسان والحيوان والنباتات والجمادات الخ نحن في عصر مهما تخلى عن سردياته الكبرى، إلا أنه في الأفق يلوح لنا دائمًا ضربًا من الجمهورية السعيدة، أو المدينة الفاضلة وهي تهبط من سماء أفلاطون نحو أرض التناهي الهايدغرية.
