تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
١٠ أكتوبر ٢٠١٣
انشغل فلاسفة العلم، منذ فترة، بما يسمونه “مشكلة التمييز”، وهي مسألة تبحث فيما يفصل العلوم الجيدة عن العلوم السيئة والعلوم الزائفة (وكل ما بينها). وهي مسألة ذات صلة لثلاثة أسباب على الأقل.
السبب الأول سببٌ فلسفي: فالتمييز أمرٌ مهم في سعينا إلى المعرفة؛ ومسائله تتجه لجوهر المناقشات حول نظرية المعرفة وطبيعة الحقيقة والاكتشاف. السبب الثاني سببٌ مَدني: إذ تنفق مجتمعاتنا مليارات الدولارات من مدفوعات ضرائبها على البحث العلمي، لذلك من المهم أن يكون لدينا أيضًا معرفة كافية بما يشكِّل مالاً حسُن إنفاقه في هذا الصدد. فهل يجب على معاهد الصحة الوطنية أن تمول الأبحاث حول “الطب البديل”؟، وهل يجب على وزارة الدفاع تمويل الدراسات المتعلقة بموضوع التخاطر؟ السبب الثالث سببٌ أخلاقي: فالعلم الزائف، خلافًا للاعتقاد الشائع، ليس مجرد تسلية ساذجة غير ضارة؛ بل في الغالب هو أمر يهدد رفاهية الإنسان، وقد يكون قاتلاً أحيانًا؛ على سبيل المثال، مات ملايين الأشخاص حول العالم بسبب مرض المناعة المكتسبة (الإيدز) لأنهم، (أو في بعض الحالات حكوماتهم) رفضوا قبول الاكتشافات العلمية الأساسية حول المرض، وعهدوا بمصيرهم إلى “زيت الأفعى” والعلاجات الشعبية.
إن الانقسام الأكثر خطورة بين العلم والعلوم الزائفة يقع تحديدًا في مجال العلاجات الطبية، حيث قد يصبح دور الفلاسفة لتوضيح الأمور أكثر أهمية. أثار زميلنا في منتدى ذا ستون The Stone ستيفن ت. أسما هذه المسألة، مؤخرًا، في مقال بعنوان “لغز الطب الصيني” The Enigma of Chinese Medicine (١)، مشيرًا إلى أن بعض العلاجات الصينية التقليدية، (كتناول دم السلحفاة الطازج للتخفيف من أعراض البرد) قد تنجح في الواقع، وبالتالي يجب ألا تُستبعَد بدعوى كونها علمًا زائفًا.
يعنى ذلك، في رأيي، أننا نخاطر بخلط الفعالية المحتملة للعلاج الشعبي بمتعلقاته النظرية الميتافيزيقية العشوائية. لا شك في أن بعض هذا العلاج الشعبي نافع؛ فالمكون النشط في دواء الأسبرين، على سبيل المثال، مشتق من لحاء الصفصاف المعروف بآثاره المفيدة منذ زمن أبُقراط. وليس هناك غموض أيضًا حول كيفية توصلنا إلى هذه النتيجة؛ فقد كان الإنسان يحاول عشوائيًا نوعًا ما منذ آلاف السنين لإيجاد حلول لمشاكله الصحية، وأحيانًا ما كان يتعثر في شيءٍ نافع. ما يجعل استخدام الأسبرين “علميًا”، رغم ذلك، هو أننا تحققنا من فعاليته من خلال التجارب الخاضعة للرقابة كما ينبغي، فقد عزلنا مكونه النشط، وفهمنا المسارات الكيميائية الحيوية التي يؤثر من خلالها (حيث يكبت إنتاج البروستاجلاندين والثرموبوكسان عبر طريقة للتداخل مع إنزيم الأكسدة الحلقية؛ هذا إذا غالبك الفضول لتعرف أكثر).
إن المثال الذي طرحه أسما حول ادعاءات الطب الصيني بوجود طاقة “تشي” التي تمر عبر جسد الإنسان عن طريق خطوط الطول (ميرديان) مسألة مختلفة تمامًا، رغم ذلك. قد يبدو ذلك علميًا بسبب استخدامه لمصطلحات مُبهَمة تعطي انطباعًا بأنها تقدم مبادئًا توضيحية؛ ولكن لا توجد طريقة لاختبار وجود طاقة “تشي” وخطوط الطول المرتبطة بها، ولا يمكننا إنشاء برنامج بحث قابل للتطبيق بناءً على تلك المفاهيم، لسبب بسيط هو أن الحديث عن طاقة “تشي” وخطوطها الطولية قد يبدو موضوعيًا، لكنه في حقيقة الأمر بعيد عن أن يكون نظرية يمكن التحقق منها تجريبيًا.
ثمة مؤشرات قوية، فيما يتعلق بالنتائج التجريبية، على أن الوخز بالإبر فعَّال في تقليل الألم المزمن والغثيان، لكنه علاج زائف وهمي؛ فعند الوخز بالإبر في أماكن عشوائية، أو حتى دون ثقب الجلد، سنحصل على النتائج العلاجية نفسها (راجع على سبيل المثال هذه الدراسة الحديثة حول تأثير الوخز بالإبر على التعب المزمن بعد العلاج الكيميائي)، مما يقوِّض بجدية الحديث عن العلاج بخطوط ميرديان وخطوط “تشي”. إن فكرة طاقة “تشي”، بعبارة أخرى، لا تفعل سوى محاكاة المفاهيم العلمية مثل إجراءات الإنزيم على المركبات الدهنية. هذا هي طريقة العمل القياسية للعلوم الزائفة، فهي تتبنى الزخارف الخارجية للعلم دون جوهره.
يقارن أسما، في نقطةٍ ما، بين عدم فهمنا لطاقة “تشي” في الوقت الحالي وبين تأخرنا السابق (حتى هذا العام) في فهم جسيم بوزون هيغز الشهير، وهو جسيم دون ذري افترض الفيزيائيون أنه يلعب دورًا حاسمًا في ربط الكون حرفيًا (حيث يوفر الكتلة لجميع الجسيمات الأخرى). لكن المقارنة تتزعزع؛ فقد تم التنبؤ بوجود جسيم هيغز على أساس نظرية فيزيائية ناجحة جدًا تُعرف بالنموذج القياسي. وهذه النظرية ليست معقدة إلى حدٍ بعيد من الناحية الرياضية فحسب، بل تم التحقق منها تجريبيًا مرارًا وتكرارًا. وفكرة “تشي”، مرة أخرى، ليست في الحقيقة نظرية بأي معنى للكلمة، بل هي مجرد كلمة مثيرة لوصف قوة غامضة لا نعرفها ولا نعرف كيف يمكننا أن نكتشف أي شيء عنها على الإطلاق.
لقد أدرك فلاسفة العلم منذ فترة طويلة أنه لا حرج في فرض كيانات غير قابلة للملاحظة بحد ذاتها، إنها مسألة تتعلق بالعمل الذي تقوم به هذه الكيانات في الواقع ضمن إطار نظري تجريبي مُعيَّن. لا يبدو أن “تشي” وخطوطها تفعل أيًا من ذلك، ولا يبدو أن هذا الأمر يزعج مؤيدي الطب الصيني وممارسيه. مع أنه يجب أن يزعجهم. قد يعترض أحدهم اعتراضًا معقولا، رغم ذلك، بقوله ما هو الضرر من الإيمان بطاقة “تشي”، وبالمفاهيم المتصلة بها، إذا كانت العلاجات التي تقدمها تبدو أنها مفيدة في الواقع؟ حسنًا، وبغض النظر عن الاعتراضات الواضحة التي قد تثيرها عملية ذبح السلاحف لأسبابٍ أخلاقية، فهناك العديد من القضايا التي تجب مراعاتها. أولًا، إن قبلنا بذلك فسيمكننا دمج أي اكتشافات وليدة الصدفة من الطب الشعبي في الممارسة العلمية الحديثة، كحالة لحاء الصفصاف الذي تحول إلى الأسبرين. بهذا المعنى، فلا وجود لشيء اسمه “الطب البديل”، لن يكن لدينا سوى أمور نافعة وأمور غير نافعة.
ثانيًا، إذا افترضنا وجود طاقة “تشي”، والمفاهيم المماثلة لها، فإننا نحاول تقديم تفسيرات لسبب نجاح بعض الأمور وفشل أمور أخرى. وإذا كانت هذه التفسيرات خاطئة، أو لا أساس لها كالمفاهيم الجوفاء كما في حالة “تشي”، فيجب علينا حينئذٍ إما تصحيحها أو التخلي عنها. الأهم من ذلك، أن العلاجات الطبية الزائفة غير ناجعة في كثيرٍ من الأحيان، أو حتى قد تكون ضارة بشكلٍ أكيد. فإذا كنت تتناول “علاجات” عشبية شعبية، على سبيل المثال، أثناء محاربة جسدك لعدوى خطيرة، فقد تعاني من عواقب وخيمة، بل ومميتة أيضًا.
هذا هو بالضبط ما يحدث في جميع أنحاء العالم للأشخاص الذين ينكرون العلاقة بين فيروس نقص المناعة البشرية ومرض الإيدز كما وثقها الصحفي مايكل سبيكتر بشكلٍ رائع. إن الانغماس في القليل من العلوم الزائفة، في بعض الحالات، قد لا يكون مُضرًا نسبيًا، لكن المشكلة تكمن في أن فعل ذلك سيقلل من دفاعاتك ضد الأوهام الأكثر خطورة التي تستند إلى معلومات ملتبسة ومغالطات مماثلة. قد تعرض نفسك وأحباءك للأذى، على سبيل المثال، لأن ميولك العلمية الزائفة تقودك إلى قبول المفاهيم المُفنَّدة علميًا، كالفكرة الشائعة بازدياد (بصورة تبعث على القلق) بأن اللقاحات تسبب التوحد.
يدرك الفلاسفة في الوقت الحاضر أنه لا يوجد خط فاصل بين الغث والسمين، بين الحقيقة والهراء. كما يدركون أن الحقائق التي قد تبدأ من معسكرٍ ما، قد تنتقل مع الوقت إلى المعسكر المقابل له. كانت الخيمياء، على سبيل المثال، في زمن نيوتن وبويل علمًا شرعيًا (إلى حدٍ ما)، لكنها الآن تُعد علمًا بَيِّنَ الزيف (من الملاحظ أن الانتقال إلى الاتجاه المعاكس لأيٍ من معسكر العلوم الزائفة بالكامل إلى العلم الحقيقي أمر نادر جدًا). رأي الفيلسوف لاري لودان الذي جاء على ذكره أسما، بأن مسألة التمييز قد ماتت ودُفنت، لم يشاركه فيها معظم الفلاسفة المعاصرين الذين درسوا المسألة.
حتى معيار قابلية الدحض، على سبيل المثال، لا يزال معيارًا مرجعيًا مفيدًا للتمييز بين العلم والعلوم الزائفة، كأول تقدير تقريبي. وهذا ما يوضحه دون قصد المثال المضاد الذي قدمه أسما عندما ذكر “ذكاء” المُنجِّمين في انتقاءاتهم لما يُعد تأكيدًا لنظريتهم، فهذا المثال بالتأكيد لا يمثل مشكلة لمعيار قابلية الدحض؛ بل على العكس، يمثل توضيحًا بارعًا لفكرة بوبر الأساسية: التكرار المستمر في المراوغة الإبداعية والتلاعب بالبيانات التجريبية يجعل النظرية في نهاية المطاف منيعة ضد التفنيد. وهذا ما يقدمه المشتغلون في العلوم الزائفة من علماء التخاطر إلى علماء الخلق حتى أنصار حركة “حقيقة هجمات 11/9”.
ما يُثير القلق بشكل خاص هو مساواة أسما لطاقة “تشي” بـ “الطريقة العلمية المُقدَّسة”، كما لو أن كلاهما على قدم المساواة. بعيدًا عن مقارنة عقيدة تتعلق بكيفية عمل العالم (التشي) مع طريقة مفتوحة للحصول على المعرفة، ما هو بالضبط “المقدس” في طريقة تسمح بسهولة بدمج لحاء الصفصاف ودم السلاحف ضمن نظامها، بشرط أن يصمدا للتدقيق؟ إن الطبيعة المفتوحة للعلم تعني أنه لا وجود لشيء مقدس في نتائجه أو في طرقه.
قد تكون الحدود الفاصلة بين العلم الحقيقي والعلم الزائف غامضة، لكن هذه الحالة من الغموض يجب أن تكون دعوة أكثر للتمييز المتأني بناءً على الحقائق المنهجية والتفكير السليم. لا يوجد هناك سمة مميزة بين الحكيم وبين أصحاب أنصاف العقول في تجربة شيء من دم السلحفاة هنا، أو قليل من الأسبرين هناك، بل هناك بوابة خطيرة مفتوحة على الخرافات واللاعقلانية.
(١) تُرجمت ونُشرت هذه المقالة في موقع جمعية الفلسفة.
الكاتبان: ماسيمو بيغليوتشي هو أستاذ الفلسفة في جامعة نيويورك. ومارتن بودري هو زميل ما بعد الدكتوراه في جامعة جنت ومعهد كونراد لورنز في فيينا. كلاهما محرران مشاركان في كتاب “العلوم الزائفة: إعادة النظر في مشكلة التمييز.”
المترجم: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
The Dangers of Pseudoscience
Massimo Piglucci and Maarten Boudry
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”