تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢ سبتمبر ٢٠١٢
صادقت بعض الطلاب المصريين أثناء دراستي للغة العربية في القاهرة منذ حوالي 12 عامًا. وقد اهتممنا، مع ازدياد معرفتنا ببعضنا البعض، بطريقة حياة أحدنا الآخر. فأرادوا هم إنقاذ روحي من الاحتراق الأبدي في الجحيم من خلال تحويلي إلى الإسلام، وأردت أنا إنقاذهم من إضاعة حياتهم الحقيقية من أجل حياة آخرة عن طريق تحويلهم إلى وجهة النظر العلمانية التي نشأت عليها. سألوني في إحدى مناقشاتنا إذا ما كنت متأكدًا من عدم وجود دليل على وجود الله. فاجأني السؤال. فقد كان من الأمور المُسلَّم به حيث نشأت فكريًا أنه ليس هناك إله. حاولت أن أتذكر نقد كانط للدليل الأنطولوجي على وجود الله. قال محمد: “حسناً، ولكن ماذا عن هذه الطاولة، هل يعتمد وجودها على سبب ما؟” أجبت “بالطبع”. “وسبب وجودها يعتمد على سببٍ آخر؟” كان محمد يشير إلى الدليل الميتافيزيقي على وجود الله، الذي صاغه أولاً الفيلسوف المسلم ابن سينا في القرن الحادي عشر. يحاجج ابن سينا أنه بما أن الارتداد اللانهائي للأسباب أمرٌ مستحيل، فإن الأشياء التي تعتمد على سبب لوجودها يجب أن يكون لديها شيء موجود عبر ذاتها كسببٍ أول لها. وهذا الوجود الضروري هو الله. كان لدي حجة مضادة لهذه الحجة وكان لديهم بدورهم ردًا تعقيبيًا عليها. وانتهت المناقشة بشكلٍ غير حاسم.
لم أعتنق الإسلام، ولم يصبح أصدقائي المصريون ملحدين. لكنني تعلمت درسًا مهمًا للغاية من مناقشاتنا: أنه لم يكن لديّ فكرٌ صحيحٌ عن بعض المعتقدات الأساسية التي تكمن وراء أسلوب حياتي ورؤيتي للعالم – بدءًا من وجود الله إلى الخير البشري. لقد أجبرني تحدي أصدقائي المصريين على التفكير مليًا في هذه المسائل والدفاع عن وجهات نظر لم يُشكَّك فيها أبدًا في الوسط الطلابي الأوروبي الذي أتيت منه.
الشيء الآخر الذي أدركته هو مدى الخلاف في آرائي. لقد أكملت دراستي الثانوية في بلدة في ألمانيا الغربية عام 1990 في خضم إعادة توحيد ألمانيا المضطرب (أنهيت اختباري النهائي في التاريخ واصفًا أحدث التطورات السياسية التي سمعتها في الراديو في نفس الصباح). واعتقد الكثيرون، لعدة سنوات بعد انهيار الكتلة السوفيتية، أن الجميع سيصبحون علمانيين وسيعيشون في ديمقراطية ليبرالية قبل مضي فترة طويلة. أوضحت النقاشات مع أصدقائي المصريين بما لا يدع مجالاً للشك أنه من الأفضل ألا أترقب حدوث ذلك.
نظمت، منذ ذلك الوقت، ورش عمل للفلسفة في إحدى الجامعات الفلسطينية في القدس الشرقية، وفي إحدى الجامعات الإسلامية في إندونيسيا، مع أعضاء من المجتمع الحسيدي في نيويورك، ومع طلاب المدارس الثانوية في سلفادور دا باهيا (مركز الثقافة الأفريقية البرازيلية)، وفي مجتمع الأمم الأولى في كندا. أعطتني ورش العمل هذه نظرة ثاقبة مباشرة حول مدى عمق الانقسام بيننا فيما يتعلق بالأسئلة الأساسية الأخلاقية والدينية والفلسفية. سأجادل بالقول أن هذه الخلافات، رغم أن الكثيرون يجدونها مثبطة للمعنويات، يمكن أن تكون شيئًا جيدًا، إذا تمكنا من جعلها خلافات مثمرة للنقاش الثقافي.
هل يمكننا التأكد من أن معتقداتنا حول العالم تتطابق مع حقيقة العالم الواقعي وأن تفضيلاتنا الشخصية تتطابق مع ما هو موضوعي في مصلحتنا العُليا؟ إذا كانت الحقيقة مهمة لنا فهذه الأسئلة ملحة.
قد نقدِّر الحقيقة لأسبابٍ مختلفة: لأننا نريد أن نعيش حياة جيدة بالفعل وليس حياة تبدو جيدة فحسب؛ أو لأننا نعتبر معرفة الحقيقة عنصرًا مهمًا في الحياة الجيدة؛ أو لأننا نعتبر أن العيش بالحق التزامًا أخلاقيًا مستقلاً عن أي عواقب؛ أو لأننا، مثل أصدقائي المصريين، نريد أن نقترب من الله الذي هو الحقيقة (الحق بالعربية، هو أحد أسماء الله في الإسلام). لن نتمسك بالطبع بمعتقداتنا وقيمنا إذا لم نكن مقتنعين بصحتها. لكن هذا ليس دليلاً على صحتها. ألم يكن أصدقائي المصريون مقتنعين بآرائهم كما كنت مقتنع برأيي؟ بشكلٍ عام: ألا نجد تنوعًا محيرًا في معتقدات وقيم، يُتمسَك بها جميعًا بقناعة كبيرة عبر الأزمان والثقافات المختلفة؟ إذا كانت مثل هذه الاعتبارات تقودك إلى الاعتراف بأن قناعاتك الحالية يمكن أن تكون خاطئة، فأنت مؤمن باللامعصومية. وإذا كنت كذلك، فيمكنك أن ترى سبب ارتباط تقدير الحقيقة وتقدير ثقافة النقاش: لأنك سترغب في فحص معتقداتك وقيمك فحصًا نقديًا، وهو الأمر الذي توفر له ثقافة النقاش بيئة ممتازة.
لا نحتاج بالطبع إلى السفر طوال الطريق إلى القاهرة لإخضاع معتقداتنا وقيمنا للتدقيق النقدي. إذ يمكننا نظريًا إجراء ذلك بمفردنا أيضًا. مع ذلك، يبدو، من الناحية العملية، أننا بحاجة إلى نوع من الخبرة المقلقة التي تواجهنا بعدم معصوميتنا، أو كما صاغ المفكر المسلم العظيم الغزالي (المتوفى 1111) ذلك في سيرته الذاتية الفكرية “الإنقاذ من الخطأ” الذي يقطع “روابط التقليد” – أي المعتقدات والقيم النابعة من الظروف الطارئة لتنشئتنا الاجتماعية وليس من المداولات العقلانية.
يكتب الغزالي أن روابط التقليد قد انقطعت في حالته الخاصة عندما أدرك أنه لو كان قد نشأ في مجتمعٍ يهودي أو مسيحي، فإنه كان ليصبح يهوديًا أو مسيحيًا متحمسًا تمامًا كما هو مسلم. يشرح التقليد على أنه سلطة “الآباء والمعلمين”، مما يمكننا إعادة صياغته بشكلٍ عام على أنه كل الأشياء بخلاف الحجة العقلانية التي تؤثر على ما نفكر فيه ونفعله: بدءًا من الإعلام والأزياء والتسويق إلى الخطاب السياسي والأيديولوجية الدينية.
مشكلة التقليد (أو ما يسميه علماء النفس الاجتماعي اليوم “الامتثالية”) لها تاريخ طويل. شرح سقراط الحاجة إلى مهمته المُلِّحة من خلال مقارنة مواطني أثينا بحصان “بليد” “يحتاج إلى من يُثيره”. نلاحظ أن الفلاسفة أيضًا يقعون فريسة للتقليد. إذ اشتكى جالينوس، الطبيب والفيلسوف السكندري في القرن الثاني، من أن الأفلاطونيين والأرسطيين والرواقيين والأبيقوريين في عصره ببساطة “يسمون أنفسهم على اسم الطائفة التي نشأوا فيها” لأنهم “يعجبون” بمؤسسي المدرسة، وليس لأنهم اختاروا وجهات النظر المدعومة بأفضل الحجج.
إذا أخذنا التقليد على أنه حقيقة عن علم النفس البشري واتفقنا على أنه حالة غير مرغوب لأن يكون المرء فيها – على الأقل عندما يتعلق الأمر بالمعتقدات الأساسية التي تكمن وراء أسلوب حياتنا ورؤيتنا للعالم – فعلينا إذن أن نرحب بشكلٍ خاص بالمناقشات عبر الحدود الثقافية. لأنه إذا أشركنا شخصًا لا يشاركنا السرديات الثقافية التي نشأنا عليها (التاريخية، والسياسية، والدينية، وما إلى ذلك) فلا يمكننا الاعتماد على سلطته، ولكننا مضطرون للدفاع عن آرائنا – كما اضطررتُ لذلك في مناقشاتي مع الطلاب المصريين في القاهرة. لنأخذ في الاعتبار الجدل اللاهوتي في العالم المتعدد الثقافات للإسلام في العصور الوسطى، الذي وصفه المؤرخ الحميدي (المتوفى عام 1095):
لم يكن يحضر في الاجتماع […] أشخاص من مختلف الطوائف [الإسلامية] فحسب، بل كان هناك أيضًا لادينيين ومجوس وماديين وملحدين ويهود ومسيحيين، باختصار كان هناك غير مؤمنين من جميع الأنواع. وكان لكل مجموعة قائدها الخاص التي كانت مهمته الدفاع عن آراء هذه المجموعة […]. نهض أحد اللادينيين وقال للتجمع: نحن نجتمع هنا من أجل نقاش شروطه معروفة للجميع. لا يجوز لكم أيها المسلمون أن تجادلوا من كتبكم وأحاديثكم النبوية لأننا ننكر كليهما. يجب على الجميع لذلك أن يقتصر على الحجج العقلانية [حجج العقل]. وصفق الجمع كله لما قاله.
يمكننا أن نعتبر أنفسنا محظوظين لأننا نعيش في وقت أصبحت فيه المجتمعات متنوعة ومتعددة الثقافات على نحوٍ متزايد، وتجبرنا العولمة على التفاعل عبر الحدود الوطنية والثقافية والدينية وغيرها؛ لأن كل هذا يفضي إلى كسر قيود التقليد.
لا يكفي بالطبع التنوع والخلاف في حد ذاتهما لإثارة ثقافة النقاش (وإلا فإن الشرق الأوسط والبلقان والعديد من الأماكن الأخرى ستكون نوادي مناظرة فلسفية!). إنهما، عوضًا عن ذلك، غالبًا ما يولِّدون الإحباط والاستياء، أو الأسوأ من ذلك، ينفجرون في أعمال عنف. نحتاج لهذا السبب إلى ثقافة النقاش. إن السنوات الأخيرة من التعليم الثانوي، في رأيي، هي أفضل مكان لوضع الأساس لهذه الثقافة.
يتضمن منهج التعليم الثانوي بالفعل موضوعات مثل التطور، وهي أكثر إثارة للجدل بكثير من المهارات المطلوبة لإشراك الاختلاف والخلاف بطريقة بناءة. ستركز الفصول التي أفكر فيها، لتوفير الأساس لثقافة المناظرة، على شيئين: نقل أساليب النقاش – الأدوات المنطقية والدلالية التي تتيح للطلاب توضيح آرائهم وتقديم الحجج والرد عليها (نسخة معاصرة مما أطلق عليه الأرسطيون الأورغانون، “مجموعة أدوات” الفيلسوف). وزرع فضائل الجدل – أي حب الحقيقة أكثر من الفوز بالنقاش، ومحاولة المرء لأن يفهم بشكلٍ أفضل وجهة نظر الخصم.
تتوقف الخلافات الناشئة عن التنوع عن أن تكون تهديدًا للسلم الاجتماعي عندما نتمكن من تحويل هذه الخلافات إلى ثقافة نقاش. أعيش الآن في مونتريال، إحدى أكثر مدن العالم تعددًا للثقافات؛ عندما اضطررت إلى مقابلة طبيب قبل عامين، كان موظف الاستقبال من الصين ، وفي غرفة الانتظار كنت جالسًا بين زوجين يهوديين متدينين وزوجين علمانيين من مقاطعة كيبيك في كندا، وكان الطبيب الذي فحصني من إيران والممرضة من هايتي. كان هذا مثالاً رائعًا لكيفية عمل الكنديين معًا لتوفير السلع والخدمات الأساسية التي نحتاجها جميعًا بغض النظر عن طريقة حياتنا ونظرتنا للعالم، رغم اختلافاتهم الأخلاقية والدينية والفلسفية العميقة.
لا أرى أي سبب يجعلنا نتجاهل اختلافاتنا بالكامل، رغم أنني لم أرغب بالتأكيد في الدخول في مباراة صراخ حول وجود الله في عيادة الطبيب، أو انتظار العلاج حتى يتفق الجميع على كيفية العيش. يطلب منا بعض دعاة التعددية الثقافية الاحتفاء بالتنوع بدلاً من مجرد التسامح معه، كما لو أن اختلافاتنا لم تكن سببًا للخلاف في المقام الأول، بل كانت شيئًا جيدًا وجميلًا – “فسيفساء” متعددة الثقافات! يجادل آخرون بأن قناعاتنا الأخلاقية والدينية والفلسفية يجب ألا تترك المجال الخاص. أحد الأمثلة الجيدة على ذلك العلمانية الفرنسية: فأنت مواطن في الأماكن العامة ويهودي أو مسيحي أو مسلم في المنزل. يحاول كلا النموذجين إزالة أسباب الاعتراض على المعتقدات والقيم التي لا نشاركها – يحاول أحدهما إزالتها تمامًا ، بينما يحاول الآخر على الأقل إبقائها بعيدة عن الأنظار. تسمح لنا ثقافة النقاش، من الناحية الأخرى بإشراك اختلافاتنا بطريقة جادة، لكنها محترمة ومفيدة للطرفين.
يعترض البعض على أن ثقافة النقاش لا قيمة لها بالنسبة للمواطنين المتدينين. ألا يعتبرون حكمة الله معصومة من الخطأ، ويدعون أنهم يستطيعون الوصول إليها من خلال الوحي، ويقبلون محتوياتها بناءً على الإيمان بدلاً من الحجج؟ تظهر لنا نظرة مختصرة على تاريخ الأديان، رغم ذلك، أن الكثير من الجدل كان يدور حول كيفية فهم حكمة الله ضمن التقاليد الدينية، مع أعضاء من التقاليد الدينية الأخرى، ومؤخراً مع المعارضين العلمانيين. يكتب الغزالي، على سبيل المثال، كيف أنه بعد انكسار روابط التقليد “دقق في عقيدة كل طائفة” و “حاول كشف العقائد الداخلية لكل مجتمع” من أجل “التفريق بين الحق والباطل”.
توفر الآداب الفلسفية الغنية التي نجدها في اليهودية والمسيحية والإسلام وكذلك في التراث الديني الشرقي الكثير من الموارد لثقافة النقاش. وتعتبر خصخصة وجهات النظر الأخلاقية والدينية والفلسفية في الديمقراطيات الليبرالية والنسبية الثقافية التي غالبًا ما تكمن وراء أجندات التعددية الثقافية الغربية عقبة أمام ثقافة النقاش أكبر بكثير من الدين. لقد استمتع أصدقائي في القاهرة، على أي حال، وكذلك المشاركون في ورش العمل التي نظمتها لاحقًا جميعًا بالتجادل حول آرائهم وانتقاد رأيي.
الكاتب: كارلوس فلينكس أستاذ مساعد في الفلسفة والدراسات اليهودية في جامعة مكجيل في مونتريال، ومؤلف الكتاب القادم “تدريس أفلاطون في فلسطين.” يمكن إيجاد المزيد من أعماله على موقعه الالكتروني الخاص.
المترجم: باحث ومترجم سعودي.
In Praise of the Clash of Cultures
Carlos Fraenkel
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”