2025-10-23

١٥ فبراير ٢٠١٦
– 1 –
لندن، عام1665م. تفوح رائحة الموت من العاصمة إثر تفشّي الطاعون فيها، وهو أسوأ طاعون مر عليها منذ الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر. نجد كاتب اليوميات صموئيل بيبيس يندب المدينة قائلا: «كل يوم تزداد الأخبار المحزنة. توفي في المدينة هذا الأسبوع 7496 شخصًا؛ منهم 6102 ماتوا من الطاعون. لكن يُخشى أنّ العدد الحقيقي للموتى هذا الأسبوع قريب من 10 آلاف، ذلك أن الفقراء لا ينتبه لموتهم أحد بسبب ضخامة العدد».
ومع تزايد الوفيات وامتلاء الشوارع بالنفايات، لاحظ سكان لندن أن الكلاب والقطط كانت منتشرة في المدينة. وهكذا صدر الأمر من السيد العمدة.
اقتلوا الكلاب والقطط.
دفع حاكم المدينة المال للصيادين الذين ذبحوا أكثر من 4000 حيوان. لكن الكلاب والقطط كانت تطارد الفئران التي كانت تتغذى على النفايات، وكانت الفئران تحمل البراغيث التي تنقل الطاعون. والآن بعد أن نجت الفئران من الحيوانات التي تفترسها، أخذت تنشر البلاء على نحو أشد فتكًا من ذي قبل. ولم تفد النصيحة الطبية الصادرة عن كلية الأطباء في لندن إذ نصحوا بوضع دجاجة على موضع الألم والضغط عليها بقوة حتى تموت. يُعتقد أن طاعون عام 1665 قد قتل في النهاية ما يقارب 20 في المئة من سكان لندن (أي ما يعادل مليون ونصف المليون إنسان بمقاييس اليوم)، ثم التهم حريق عظيم ثلث المدينة.
مات العديد من البشر والحيوانات في أزمة الجهل هذه. والآن بعد أن فهمنا بكتيريا الطاعون، أصبحنا نعرف ما هي الإجراءات والأدوية التي تحول دون أن يتحول المرض إلى وباء. يمكننا القول إن الجهل لم يعد من الطواعين التي يمكن أن تصيبنا.
يهددنا الوباء اليوم ليس بسبب جهلنا ولكن بسبب نجاح منظوماتنا. أصبحت شبكات النقل لدينا الآن سريعة جدًا وبعيدة المدى حتى أصبحت تنقل الأمراض إلى جميع أنحاء العالم قبل وصول الأدوية. ستلعب الأوبئة القادمة على نقاط قوتنا، وليس على نقاط ضعفنا – فمكافحة هذه الأوبئة تعني إلغاء الرحلات الجوية، وليس قتل البراغيث. لقد ترجل فارس نهاية العالم عن فرسه وهو الآن يستقل المركبة.
يمثل القرن العشرون نقطة تحول، إنه بداية انتقال البشرية من أزمات الجهل القديمة إلى أزمات الاختراع الحديثة. لقد بلغت علومنا درجة من التغلغل وبلغت أنظمتنا درجة من المتانة حتى صرنا مهددين في الغالب من مخاطر ما أبدعناه بأيدينا. إننا نعتمد في صنعنا للقنابل الآن على فيزياء الجسيمات، وحواسيبنا أصبحت مطلعة على حياتنا الخاصة أكثر من أي وقت مضى.
كان نصف مليار إنسان عام 1665 يكدحون بأدواتهم البدائية للحفاظ على النوع الشري بتوفير الكفاف من الغذاء. والآن بلغت إنتاجية اقتصادنا العالمي حدًّا تسنى فيه لنحو 8 مليار إنسان – أي 16 ضعفا – البقاء على قيد الحياة، ولن يعرف أغلبهم أبدا ذلك الفقر الذي مرت به البشرية حينئذ.
الواقع أن آلاتنا تضاعفت إلى حد كبير حتى لاحت لنا أزمة جديدة في الأفق بسبب الدخان المنبعث منها أثناء احتراقها. إن أزمات المستقبل الغذائية إن حدثت ستكون مدفوعة بتغير المناخ الناتج عن النشاط البشري. لن تحل المجاعة بسبب غضب الله بل بسبب نمو الناتج المحلي الإجمالي. نحن أنفسنا فرسان نهاية العالم، أو لعلنا بالأحرى من يصنع هؤلاء الفرسان.
إن أزمات الاختراع الجديدة التي نواجهها تمثل تحديًا كبيرًا لأن مساوئها مرتبطة أشد الارتباط بمحاسنها. كان كسر سلاسل العبودية في العالم انتصارًا أخلاقيًّا؛ أما كسر سلاسل التوريد العالمية فليس خيارًا مطروحًا. إن تغير المناخ أزمة من أزمات اختراعاتنا. أعداد الناس في تزايد، فهم يعيشون أعمارًا أطول ويأكلون طعاماً أفضل ويسافرون أكثر فأكثر لرؤية العالم ومقابلة بعضهم البعض – أليس مما يثير الأسى أن هذه المحاسن الإنسانية تنذر بخطر مهلك؟
– 2 –
جزيئات المواد الخام ثقيلة وغالية الثمن، أما بيانات الحواسيب فهي سريعة ورخيصة. لذلك إذا كان الماضي تحكمه الندرة، فالمسألة في المستقبل مسألة وفرة، إلا أن المتاعب في المستقبل وافرة هي الأخرى. إن قدرة البشر على التغلب على أزمات الاختراع المقبلة سوف تتحول إلى سؤال الفلاسفة القديم: هل الأفراد طيبون أم أشرار في الأساس؟ وهو سؤال صعب غير أن الأخبار الأخيرة ستغري الكثيرين بقول لا.
سنجيب بنعم إذا تحولنا إلى المنظور المنظومي الذي نقيّم من خلاله الإنسانية ككل كما نفعل مع النظام البيئي والآلة المعقدة. ماذا يحدث عندما “تضيف” البشرية الطاقة وتنتج وتستهلك المزيد منها، كما يحدث على نطاق واسع في التحول من استخدام الخشب والطاقة العضلية إلى استخدام الوقود الأحفوري وبدائله؟
الجواب المشجع هو أن المزيد من الطاقة يؤدي إلى نمو الأنواع نموًا جنونيًّا، كما يؤدي أيضًا إلى تنشيط بعض الإمكانات التي جعلت البشر بشكل عام أكثر تسامحًا وتعاونًا وسلامًا مع بعضهم. صحيح أن البشر طوروا من الطاقة أسلحة قوية تكفي لتدمير النظام بأكمله، إلا أنهم حتى الآن لم يستخدموا تلك الأسلحة لهذا الغرض. إلى الآن على الأقل، المزيد من الطاقة = المزيد من الإنسانية.
ثمة شيء يحدث لجنسنا البشري خاصة خلال السبعين عامًا الماضية. شهدت السنوات التي تلت عام 1945 العديد من الفظائع: تقسيم الهند والكارثة التي نجمت عن القفزة الكبرى إلى الأمام في الصين وحرب فيتنام وحرب بيافرا الأهلية في نيجيريا وجرائم الخمير الحمر والإبادة الجماعية في رواندا والحروب في أفغانستان والعراق وسوريا والمذابح الجماعية والدكتاتوريات والمجاعات الواسعة والصراعات الأهلية المضنية التي أصبحت شعار الشر في عصرنا. اليوم تفيض شاشاتنا بمشاهد الفوضى والكراهية التي تلاحقنا في كل مكان.
بيد أن هذا العصر هو كذلك العصر الأكثر ازدهارًا في تاريخ البشرية على الإطلاق. إنه العصر الذي شهد وبفارق كبير أكبر انتشار للديمقراطية في جميع أنحاء العالم. كما كان أيضًا العصر الأكثر سلمية في تاريخ البشرية المسجل. إن “مذبحة التاريخ” التي تحدث عنها هيجل أصبحت اليوم أقل دموية.
من الطبيعي أن هذه الفرضية القائلة “إن عصرنا هو الأكثر سلمية في التاريخ” من الصعب تصديقها، ولكنها صحيحة. وعلى حد تعبير جوشوا غولدشتاين في كتابه “الانتصار في الحرب على الحرب”: «لقد تجنبنا الحروب النووية، وتجاوزنا حربا عالمية، وأخمدنا تقريبا الحروب بين الدول، وخفضنا الحروب الأهلية إلى عدد محدود من البلدان وبخسائر أقل». ويتابع غولدشتاين:
في النصف الأول من القرن العشرين، أسفرت الحربان العالميتان عن مقتل عشرات الملايين وخلفت قارات بأكملها مدمرة تمامًا. وفي النصف الثاني من ذلك القرن، قتلت حروب الوكالة الملايين زمن الحرب الباردة، وكان العالم يخشى نشوب حرب نووية تمحو جنسنا البشري. والآن في بدايات القرن الحادي والعشرين، أسوأ الحروب كحرب العراق لم تقتل إلا مئات الآلاف. نحن الآن نخشى هجمات إرهابية قد تدمر مدينة من المدن، لكنها لن تدمر الحياة على هذا الكوكب. لا يزال عدد الضحايا كبيرًا، ولا تزال آثار الحروب كارثية على من ابتلوا بها، لكن بشكل عام تناقصت الحروب تناقصًا كبيرًا.
كما انخفضت انخفاضاً كبيراً نسبة الدول التي ترتكب عمليات قتل جماعي للمدنيين منذ عام 1945، وانخفضت الوفيات الناجمة عن الاعتداءات المسلحة على المدنيين والإبادات الجماعية مذ بدأ الاحتفاظ بسجلات موثقة عنها. ومع أن أعداد الوفيات الناجمة عن الإرهاب تختلف وفقًا لتعريفنا لكلمة الإرهاب، إلا أن الكل مجمعون على أن أعداد الوفيات الناجمة عن الإرهاب قليلة جدًا مقارنة بتلك الناجمة عن الحروب التي يندر حدوثها في هذا العصر على نحو متزايد.
لا شك أن هذه الإحصائيات لا تثبت أن العداء والجنون قد انتهيا، وليس بوسع امرئ عاقل إنكار أن العنف لا يزال مرتفعًا في كل مكان. وليس هناك ما يضمن استمرار أي من هذه الاتجاهات الإيجابية.
بيد أن الصورة العامة لتاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية تظهر تحسنًا كبيرًا في كل مؤشرات تجربة الحياة الإنسانية تقريبًا. متوسط عمر الإنسان اليوم أطول من أي وقت مضى، وكذلك نسبة النساء اللاتي يمتن أثناء الولادة. أما سوء التغذية عند الأطفال فقد وصل إلى أدنى مستوياته على الإطلاق، ولم تكن معدلات الأمية لدى الأطفال في مختلف أنحاء العالم أقل مما هي عليه الآن. وأكثر ما يثير الإعجاب الانخفاض الأخير في معدلات الفقر المدقع – أي انخفاض نسبة البشر الذين يعيشون كل يوم بأقل من تكلفة الحجم الكبير من قهوة ستاربكس في أمريكا. وتشير التقديرات السائدة خلال السنوات العشرين الماضية إلى تقلص نسبة من يعيشون في مثل هذا الفقر الشديد إلى أكثر من النصف، من 43 إلى 21 في المائة.
لعل من الحيل الحقيقية لفهم عالمنا النظر إليه من جهتين في آن واحد. العالم اليوم عالم فظيع إذا ما قارنّاه بما ينبغي أن يكون عليه، ولكنه ليس فظيعًا إذا ما قارنّاه بما كان عليه. إن النظر إليه من هاتين الجهتين يضفي عمقًا على إدراكنا للعصر الذي نعيشه فيه، ويجعلنا أكثر قدرة على معرفة الطرق التي تتيح لنا مزيدًا من التقدم.
– 3 –
ليس من الحكمة أن ينفد صبرنا تجاه الإنسانية التي تحتاج مثلنا إلى مزيد من الوقت لتتعلم. لقد صدمت البشرية صدمة كبيرة عندما استيقظت ذات يوم لتجد الأسلحة الذرية تنهال عليها، لاسيما مع اشتعال الحرب العالمية آنذاك. لم يكن لدى البشرية في عام 1945 أدنى فكرة عن كيفية التعامل مع هذا التهديد الوجودي الجديد. لكنها تعلمت من هذا الموت وهذه الكوابيس وأبلت حتى الآن على الأقل بلاءً أحسن مما ظن الكثير في البداية. ومع ظهور المزيد من أزمات الاختراع ستحتاج البشرية إلى التعلم مرة أخرى، وسوف تحتاج إلى التعلم على نحو أسرع وأفضل.
تتعلم الإنسانية من التجارب المؤلمة وفي الغالب لا تتعلم إلا بعد وفاة الآلاف أو ربما الملايين، أشبهها بنجم البحر العملاق الذي يسرع نحو الشعاب المرجانية الخشنة وهو بالكاد يرى طريقه، فتتكسر أشواكه في الطريق إلا أنه ينمو فتتجدد أشواكه ويتأقلم في حركته ببطء. البشرية مثل نجم البحر تدفعها التيارات لتتحرك بسرعة، والشعاب المرجانية الخشنة أمامها، وعليها أن تكون أخشن هي الأخرى. تتعلم البشرية في الأساس حين تغير هوياتها لتصبح أقل عدوانية وأكثر انفتاحاً، وتتمكن شبكات الناس من ربط قدرات أفرادها ربطًا أكثر فعالية لتتحد مواردنا.
لا يزال العديد من الناس منزوعي الرحمة يسعون وراء مصالحهم الخاصة، إلا أن المصالح أصبحت الآن أكثر سلمية مما كانت عليه من قبل. معظم الناس من حولك الآن لا يريدون قتلك للحصول على هاتفك، ولا يريدون قتلك لتعترف بدينهم، ولا يستغلون سذاجتك لتنضم إلى عصابة عنصرية. هناك شيء من ذلك ولكنه ليس بالكثير. إن كنا لا نرى هذه التغيرات الإيجابية العميقة، فربما لأننا نعتبرها أمرًا مفروغًا منه.
لقد أصبحت مخاوفنا في حدود ما نعتبره أمرًا مفروغًا منه. لم نعد نتوقع من رؤساء البلديات وقادة الشرطة، ناهيك عن النظام، أن يصادقوا على إعدام الأقليات، بل أصبح يهمنا التمييز العنصري وحالات الوفيات في حجز الشرطة. وبعد عقود من الزمن، أصبحنا نتوقع السلام الدائم بين القوى العظمى وأصبح أي عمل عسكري تقوم به قوة كبرى وأي حرب أهلية في دولة غنية بالموارد على رأس الأخبار.
وليس لنا أنا نطمئن، فقد تصل المنحنيات الصاعدة في رسوم عصرنا البيانية إلى ذروتها في أي وقت. غير أن من الكسل تجاهل الحقائق الإيجابية، فالأمر لا يحتاج إلى ذكاء كبير. هناك تحديات هائلة، كتغير المناخ وندرة الموارد والاكتظاظ السكاني، وغير ذلك الكثير. لكن هذه مشكلات ناجمة عن مسيرة تحقيق النوع البشري لذاته، فكلما زاد عدد البشر زادت الإنتاجية. هذه ضريبة نجاحنا، ثمة شيء يحدث – لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية – فطاقة جنسنا البشري في ازدياد، ولعل أكثر ما يثير عجب الأجيال القادمة هو أننا في وسط هذا كله لكننا لا نراه.
الكاتب: يشغل ليف وينار منصب رئيس قسم الفلسفة والقانون في كلية كينغز كوليدج في لندن. وهو مؤلف كتاب “زيت الدم: الطغاة والعنف والقواعد التي تدير العالم”، والذي تم اقتباس هذا المقال منه.
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
المراجع: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابيّ فلسفة الآخرية و الفلسفة حين تنصت في الظلام.
?Is Humanity Getting Better
Leif Wenar
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”
