١٩ نوفمبر ٢٠١٨
الأحداث العالمية الأخيرة – اختر ما شئت منها – قد تجعلك تتساءل عن المكان الذي يتجه إليه التاريخ البشري، و بأي مسار. ولن تكون وحدك في هذا التساؤل.
أدى تفكك التحالفات العالمية وصعود حركات اليمين المتشدد مثل تلك الموجودة في هنغاريا والبرازيل والولايات المتحدة إلى تساؤل الكثير منا بشأن حتمية ما نسميه بشكل عام “التقدّم”. تثير الكوارث البيئية مثل حرائق الغابات في كاليفورنيا، المرتبطة بتغير المناخ وتنمية الضواحي، شبح تحرّك التاريخ البشري نحو التدمير الذاتي بلا قيود.
وضعت فلسفة التاريخ، التي ازدهرت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وتمتعت بنهضات دورية على أيدي مفكرين مثل: آرثر دانتو وفرانسيس فوكوياما، مشروعًا طموحًا بشكل ملحوظ لوصف القوى التي تشكّل الأحداث البشرية: هيكل التاريخ، اتجاهه، هدفه، وجهة نظره، وحتى نهايته. هناك أسباب وجيهة للشك في مثل هذا المشروع، والتي قد نربطها قبل كل شيء بالأسماء ماركس وهيجل، ومن الممكن ألاّ يكون للتاريخ شكل مفرد أو اتجاه متماسك. من الممكن أيضًا أن شكل التاريخ يعتمد على قراراتنا وليس على قوى غير شخصية. لكن فلسفة التاريخ هي أيضًا مشروع مغرٍِ لأنها تبدو أنها تُعد بفهم – حتى وإن كان تقريبي – لما قد يحدث لاحقًا.
لا يزال الجدول الزمني الأساسي للتاريخ، والذي لا يزال يزيّن الفصول الدراسية في المدارس، هو الطريقة التي يتصور بها الكثير منا كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه. يشير انتشارها في كل مكان إلى أن رسم التاريخ ومحاولة التقاط شكل الوقت بيانياً، على صفحة أو في خيالنا، أمر أساسي لكيفية فهمنا للماضي والمستقبل؛ نحن نحتاج إلى رسم بياني للتاريخ لفهمه، إذا كان من الممكن تحقيق ذلك على الإطلاق.
لا يوجد سوى تاريخٍ واحدٍ أو مسارٍ زمنيٍّ واحدٍ، من وجهة النظر هذه، وكل البشرية منغمسة فيه. بينما نميل إلى النهاية الصحيحة، فإننا نصور “التفسير اليميني للتاريخ”، وهو مصطلح صاغه المؤرخ هربرت باترفيلد في عام 1931م لوصف ما اعتقد أنه تفاؤل ساذج، أي فكرة أن التاريخ كان يتجه مباشرة نحو الحرية والتنوير. لقد حصلنا في كثير من الأحيان على الصورة نفسها من القادة مثل القس الدكتور مارتن لوثر كينغ جونيور والرئيس السابق باراك أوباما، الذين يحكون قصة أمريكا كمسيرة نحو العدالة، والتي تتميز بمنح حق التصويت من قبل الجماعات المضطهدة، وتقدم تلك الصورة على أنها أمر لا مفر منه تقريبًا.
ومن منحى آخر، العديد من المنظرين والثقافات التقليدية تصوّر حركة الوقت على أنها دائرية أو على الأقل دورية، وهو ما يقترحه الترتيب الكوني للنهار والليل أو الفصول.
تأمّل نيتشه، على سبيل المثال، في أن عدد الذرّات محدود، وإذا ما أُعطيت وقتًا غير محدود، فإنها ستتخذ التكوينات نفسها مرارًا وتكرارًا إلى ما لا نهاية. لكن العديد من الفلسفات القديمة كالرواقيّة والديانات القديمة كالهندوسية في بعض مظاهرها، آمنت بفكرة عجلة الزمن (كالاشاكرا). ونحن، في لغتنا اليومية، نتحدث بهذه الطريقة أيضًا حين نقول أن “التاريخ يعيد نفسه”. وفعلاً يبدو أن القول بأننا نعيش في زمن يتواجه فيه الفاشيون والرأسماليون مع الاشتراكيين في أنحاء العالم، هو وصف يصلح لعام ١٩٣٠ و ١٨٩٠ و ١٨٥٠. التكرارات لافتة وإن لم تكن متطابقة، ولعلّ التاريخ بهذا لا يسير في خط مستقيم بل يدور في حلقة.
إنه دوريّ، لكنه غالبًا ما يتضاعف في رحلته إلى الأمام. هنا قد نفكر في التقدم الذي يتم السعي إليه من خلال إحياء القيم التقليدية، أو حركات الإصلاح الجذرية التي تجعل ما يبدو وكأنه ردة فعل للمصدر أو الأصل، كما في فلسفة كونفوشيوس أو نهج إصلاح مارتن لوثر. لقد صوّر خطاب أوباما الافتتاحي الأول، والذي كان عادةً للخطاب السياسي الأمريكي، انتصاره على أنه تقدمي وسيعيد قيم تأسيس أمريكا، باعتباره قمة الحلقة، كما كانت. تكمن قوة هذه الصورة في أنها تفسر الانتكاسات الظاهرة على أنها استمرار للمضي قدمًا. فمن المحتمل أن نخرج من فترة رد الفعل والكارثة ونمضي قدمًا.
كانت أكثر روايات التاريخ طموحًا في القرن التاسع عشر هي روايات هيجل وماركس، التي وصفت البناء من حيث “المنطق” أو الأضداد التي تم التوفيق بينها على مستوى أعلى في المرحلة التالية: مرحلة الصراع بين ثقافات أو طبقات أو أرواح العصر الذي تم دمجها وتجاوزها في فجر الفترة التالية، مما أدى بدوره إلى خلق صراعٍ أو توترٍ جديدٍ.
على سبيل المثال، وصف ماركس الاقتصاد الإقطاعي بأنه يوّلد صراعًا بين الحاكم والخادم، ولكن تم التغلب عليه أخيرًا من خلال صعود الرأسمالية البرجوازية، مما أدى بدوره إلى صراع بين المالكين والعمال والذي يؤدي حتمًا إلى الشيوعية. نظر هيجل إلى الفن الرومانتيكي في عصره على أنه توليف وتجاوز للفن الرمزي أو الأيقوني (المصري على سبيل المثال) والأساليب اليونانية الكلاسيكية وعصر النهضة، متغلبًا على التعارض الواضح بين العقل والعاطفة أو العقل والذاتية. كلاهما، مثل فوكوياما، اعتقدا أن الأمر بأكمله كان يقود نحو نوع من النشوة أو على الأقل حالة مُرضية.
وبمجرد أن نسمح للفيزيائيين وعلماء الكون بالمشاركة، فإن الأشياء قد تصبح غريبة بشكل متفجر، ويستنتج ستيفن هوكينج (متبعًا لريتشارد فاينمان وآخرين) من ميكانيكا الكم أن “الكون له كل تاريخ ممكن”.
إنه انفجار كبير ليس فقط للمادة بل أيضًا لعدد لا حصر له من الخطوط الزمنية، كل منها قد يكون على شكل خطًا أو حلقة أو دائرة أو لولبًا. ومع ذلك، في هذه المرحلة، قد يكون التعقيد أكبر من أن يؤدي إلى الكثير من التوقعات. أو بالأحرى، إذا توقعت أن كل ما يمكنه الحدوث سيحدث، فستكون دائما على حق، وهذه النهاية.
إذا كنت أحاول رسم التاريخ، فسوف أرسمه كحلقة حلزونية: على خط زمني واحد، ولكن يتقاطع ويعيد التقاطع مع نفسه، ولا يحقق أي تقدم للأمام أو للأعلى، بل يزدهر أو يتوسع للخارج، ويصبح أكثر تعقيدًا مع كل دوامة بسبب تراكم الأحداث.
هذا هو الشكل الذي أعتقد أن التاريخ سيكون عليه، إذا اعتقدت أن التاريخ له شكل. أنا أسميها نظرية السبيروغراف.
على أية حال، وبناءً على كيفية رسم الخطوط، فإننا و البرازيل سوف ندور حول أنفسنا، أو نحل تناقضاتنا، أو نعود إلى اليسار، أو سيكون لدينا كل احتمالات المستقبل.
الكاتب: أستاذ الفلسفة في كلية ديكنسون في كارلايل، بنسلفانيا. آخر كتبه هو”الارتباطات: نظام من الفلسفة”.
المترجمة: حاصلة على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي واللغويات في جامعة الملك سعود. تصب اهتماماتها في مجال الأدب والنقد والكتابة والترجمة.
المراجعة: أستاذ مساعد في الأدب الإنجليزي في كلية الجبيل الصناعية. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
?How Would You Draw History
Crispin Sartwell
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”