تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
كثيرا ما نسمع هذه المناحة. لماذا أصبحت الفلسفة بعيدة جدا؟ ولماذا فقدت الفلسفة اتصالها بالناس؟
يبدو أن هذه الشكوى قديمة قِدم الفلسفة ذاتها. ففي مسرحية “السُحب” لأريستوفانيس نلتقي بسقراط حيث يتم إنزاله إلى خشبة المسرح في إحدى السِلال. كلماته الأولى سريعة وبعيدة “لماذا استدعيتموني، أيتها الكائنات اليومية؟ ثم يستمر ليشرح بتباهي ماذا كان يفعل قبل أن تجري مقاطعته” “أسير على الهواء وأتفحّص الشمس.” بِالفعل، أيام الإغريق القدماء، كان للفلسفة هذه السُمعة في الابتعاد، على نحوٍ مُثيرٍ للمشكلات، عن الشواغل التي كانت سببا في انطلاقها.
ولكن هل هذا الاعتراض مُسوّغ؟ بحسب الظواهر، لا يبدو لي هذا الاعتراض مُسوغًا. فأنا مُعتاد على تشغيل موقع اسأل الفلاسفة AskPhilosophers.org؛ وهو أحد المواقع التي تعرض أسئلة من عموم الناس يجيب عليها فريق من الفلاسفة المحترفين. تصلنا الأسئلة من أُناسٍ في مراحل مختلفة من حياتهم: من كبار سنٍ يتساءلون متى يحق لهم رفض العلاج، إلى خبراء ناجحين يتساءلون عن سبب الاهتمام بالحياة أصلًا، ومِن مراهقين يتساءلون إذا ما كان الخوف من التقدم في العُمر غير عقلاني إلى أطفال في عُمر العاشرة يريدون معرفة عكس كلمة أسد. كانت إجابات الفلاسفة مرحة ولطيفة وواضحة وفي ذات الوقت عميقة وثاقبة ومُستنيرة بثراء التقاليد الفلسفية التي تدرب عليها أولئك الفلاسفة. ضرب هذا الموقع على وتر حساس حيث وصلنا الآن إلى آلاف المُدخلات ولا تزال الأسئلة تتوافد يوميًا من مختلف دول العالم. هذا يعني أن الفلاسفة قادرون على الاستجابة للأسئلة الفلسفية بطُرق ذكية ونافعة.
صحيح أن تلك الأمور في موقع اسأل الفلاسفة عَرَضيّة وطارئة و صحيح أن مصدر تلك المناحة التي بدأنها منها هو أن الفلاسفة حين يعتمدون على وسائلهم الخاصة فإنهم ينتجون كتابات ويقدمون محاضرات إما أن تكون ضيقة الاهتمام بشكل غير مبهج أو أن تكون عويصة بشكل غير قابل للوصول. تظهر الأفكار الفلسفيّة الناضجة بعيدة جدا عن الأسئلة التي ولّدتها وأكثر صعوبة منها بكثير.
بالتأكيد إننا لن نجد عونًا لحل هذه المشكلة حيث إن الفلسفة نادرًا ما تُدرَّس، وتُقرأ في المدارس. وبغض النظر عن حقيقة أن الأطفال يملكون اهتماما مكثّفا بالقضايا الفلسفية وأن التدريب الفلسفي يساهم في تطوير قدرة الإنسان التحليلية، إلا أن مدارسنا، مع بعض الاستثناءات، تُعد مناطق مُفرّغة من التفلسف. هذا الأمر له تأثير غير مباشر حيث يلتحق الطلاب الجُدد بالجامعات مُتجنبين مواد الفلسفة. أما ما تبقّى من دُور بيع الكتب، فإنها تتباهى بأقسام الفلسفة المحشوّة بأدلة للتعليم الذاتي. لذا لا عجب أن الجمهور المتعلم ليس لديه اهتمام بالثمار الفلسفية الناضجة بل وقد يعتبرها كائنات غريبة.
وبينما يساهم كل ذلك في تعزيز الشعور ببُعد الفلسفة إلا أنه كذلك أحد منتجاتها: حيث إن أحد أسباب عدم تدريس الفلسفة هو الحكم عليها بأنها غير مرتبطة بالحياة المباشرة. وبالتالي فإننا نعود إلى الأسئلة حول سبب ظهور الفلسفة بشكل بعيد عن الناس وعن كون ذلك الأمر يستحق المناحة.
يبدو أن هذا الوضع خاص بالفلسفة فلا نجد أنه يتم التعامل مع الفيزيائيين بنفس الطريقة. لا يشعر الناس عادةً بخيبة الأمل حينما يُجاب على أسئلتهم المتعلقة بمسار الكرة في كرة القدم من خلال اللجوء لقوانين نيوتن وحساب التفاضل.
يكمن الفرق جزئيا بسبب أن التساؤل حول القضايا الفلسفية مهمة خطيرة للوجود كإنسان بطريقة تختلف عن التساؤل حول قضية مسار الكرة. تعرض الأسئلة الفلسفية نفسها لنا بطريقة مباشرة بل وربما طارئة تستطيع أن تُطالب بإجابة قابلة للفهم. الفلسفة عالية المستوى تفشل عادة في تقديم تلك القابليّة وبالتالي الفزع الذي يُتاخم معنى الخذلان.
هل من الضروري أن تكون الأمور على هذا الحال؟ بدرجة ما، نعم. ربما تبدأ الفلسفة بالتساؤل والدهشة كما يقترح أفلاطون في محاورة ثياتيتوس ولكنها لا تتوقف هناك. لن يرضى الفلاسفة بأرشفة عبارات الدهشة والتساؤلات فقط ولكنهم يريدون إيضاحها كذلك وأيّا كان العمل الذي يتطلّبه ذلك الإيضاح إلا أنه سيصدم البعض على أنه مجرد سير على الهواء.
ولكن إلى أي ارتفاع في الهواء يجب على المرء أن يسافر؟ ما مدى التنظير أو الصعوبة التي تحتاجها الفلسفة؟ يختلف الفلاسفة حول هذه القضية، كما أن التاريخ الفلسفي استكشف العديد من التصورات المتنافسة حول ما يجب أن تكون عليه الفلسفة. فالتصوّر المُهيمن اليوم، على الأقل في الولايات المتحدة الأمريكية، يَنظرُ إلى العلوم بحثًا عن نموذج للدقة والتفسير. يعتبر، في وقتنا الراهن، كثير من الفلاسفة أنفسهم أشبه بالعُلماء الساعين إلى الاكتشاف أكثر من أي شيء آخر كما أنهم ينظرون للشخصيات المهمة في التاريخ الفلسفة بالنظرة ذاتها: “علماءٌ باحثين عن تصوّر مُنظّم للواقع”، بحسب ما عبّر به ويلارد فان أورمان كواين ذات مرة؛ ذلك الفيلسوف الأمريكي الأبرز في القرن العشرين كواين. بالنسبة للكثيرين، لا يُقدّم لنا العلم معلومات قد تكون وثيقة الصلة بإجابة الأسئلة الفلسفية فحسب، بل يُقدم لنا كذلك أمثلة على الماهية التي يجب أن تكون عليها الإجابات الصحيحة.
نظرًا لأن الفلاسفة يُؤهَلون غالبًا للتفكير في الفلسفة كنشاط متواصل مع العلم، نجد أن لديهم ميل لعدم الصبر حيال التوقعات بأن تكون الفلسفة أكثر قُربًا من الناس. نعم، سيوافق هؤلاء الفلاسفة على أن الفلسفة تبدأ بالدهشة، ولكن إذا لم يكتف المرء بمجرد سرد العجائب، وإذا كان يسعى إلى إيضاحها، فحينئذٍ، عليه أن يكتشف المبادئ العامة المُجردَة من خلال تطوير إطار عمل نظري عام.
هذا البحث عن المبادئ الأساسية والموحِّدة قد يقود إلى مساحات غير معروفة وربما غريبة. ولكن هؤلاء الفلاسفة سيتحلّون بالشجاعة انطلاقًا من القناعة بأن التسويغات الفلسفية الصحيحة ستعتمد غالبًا على اكتشافٍ غير واضح لا يمكن رؤيته إلا من مستوى معيّن من التجريد. تقترب هذه النظرة حقيقة من التصوّر الذي قدمته شخصية سُقراط التي ابتكرها أريستوفانيس عندما دافع عن تساؤلاته الهوائية قائلًا: “لو كنت على الأرض ومِن هُناك حاولت التأمل فيما هو في الأعلى، فإنني لم أكن لأكتشف أي شيء على الإطلاق.” دعّم النجاح المدوّي للعلوم الحديثة الانجذاب إلى طريقة محددة في التفسير كان لها دائمًا إحكام سيطرة عميق على الفلاسفة.
بَيد أن التاريخ الفلسفي يقدّم تصورات أخرى عن الإيضاح. لن يوافق بعض الفلاسفة على أن البصيرة تتطلب اكتشاف مبادئ عامة غير متوقعة. بل إنهم، بالأحرى، يتعاطفون مع استبعاد ديفيد هيوم، الذي مضى عليه أكثر من ٢٥٠ سنة، للتخمينات بعيدة المدى في الأخلاقيات: ذكر هيوم ” لا يجب توقع الاكتشافات الجديدة في مثل تلك القضايا”. تبنّى لودفيغ فتغنشتاين هذا المنحى على كل المستويات حين أصرّ على أن “المشكلات الفلسفية أُوجدَت حلولها ليس من خلال إعطاء معلومات جديدة ولكن من خلال ترتيب ما كُنا نعرفه دائمًا من قبل”. كان فتغنشتاين شغوفًا بالفلسفة باعتبارها بحثًا في “ما هو ممكن قبل كل الاكتشافات والاختراعات الجديدة،” كما أصرّ على أنه “لو حاول المرء على تطوير تلك الأمور في الفلسفة، فلن يكون من الممكن الجدال حولها لأنها ستكون محلّ اتفاق الجميع.” نحن لا نصل للرؤية والبصيرة عن طريق الحفر أسفل السطح ولكن عن طريق تنظيم ما هو أمامنا بطريقة مضيئة وشديدة الوضوح.
يُعد التوجّه الذي يتضمن البحث عن “اكتشافات جديدة” من النوع النظري في حالة صعود الآن. وحيث إنه من المُمكن أن تكون ثمار مثل هذا النوع من العمل-حتى ولو تم عرضها بأوضح المفاهيم-صعبة وبعيدة المنال تمامًا، فإن لدينا هنا عُنصر جديد آخر يُدعّم فِكرة قضاء الفلسفة لكثير من وقتها في فحص الشمس.
إذن ما هو التصوّر الصحيح للبحث الفلسفي؟ الفلسفة هي العِلم الوحيد الذي لأجل مواصلة طرح أسئلة بشأن طبيعته ينبغي الانخراط في دراسته. بإمكاننا بالتأكيد السؤال عما نحن بصدده عندما نشتغل بتدريبات تخص الرياضيات أو الأحياء أو التاريخ ولكننا حينما نسأل تلك الأسئلة فإننا لم نعد نقوم بدراسة أمور تخص علوم الرياضيات أو الأحياء أو التاريخ تلك. إلا أنه لا يمكن لأحد التأمل في طبيعة الفلسفة دون أن يقوم بالتفلسف. وبالتأكيد، فإن السؤال عما يجب علينا فعله عندما ننخرط في هذا النشاط الغريب هو سؤال تصارع معه عدد كبير من الفلاسفة الكبار على مدار تاريخ الفلسفة الطويل.
وبالتالي فإن الأسئلة بشأن ابتعاد الفلسفة عن الحياة المباشرة لا يمكن تناولها دون دراسة الفلسفة. وبشكل أدقّ، فإن السؤال عن مدى الصعوبة التي يجب أن تكون عليها الفلسفة أو عن نوع تلك الصعوبة التي يجب أن تشتمل عليها، يُعَد في حد ذاته سؤالًا فلسفيًا. ومن أجل الإجابة عليه نحتاج أن نتفلسف حتى ولو كانت طبيعة ذلك النشاط ذاتها هي ما تُحيّرنا. وتلك، بالتأكيد طريقة أخرى يمكن للفلسفة أن تكون صعبة من خلالها.
الكاتب: ألكسندر جورج هو أستاذ فلسفة في كلية أمرست. قريبًا سيصدر كتاب جديد من دار نشر جامعة أكسفورد، اُختير من موقع اسأل الفلاسفة AskPhilosophers.org، تحت عنوان: “What Should I Do?: Philosophers on the Good, the Bad, and the Puzzling” (ما الذي يجب عليَ القيام به؟: الفلاسفة حول الأمور الجيدة والسيئة والمُحيّرة).
المترجم: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.
The Difficulty of Philosophy
Alexander George
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”