2025-08-16
٣٠ يناير ٢٠١٩
المدينة القديمة حيّة أيضاً. وما زال لديها الكثير لترويه لنا، إن نحن آثرنا الإصغاء.
أثينا—هناك تقليد قديم يرتبط بفن الذاكرة، تقول الأسطورة أنه بدأ مع الشاعر سيمونيدس الكيوسي (٥٥٦-٤٦٨) قبل الميلاد، كان سيمونيدس يُلقي قصيدة في قاعة الطعام في منزل سكوباس، أحد نبلاء تساليا، عندما دُعي إلى الخارج لأن غريبين أرادا الحديث معه.
وحين خرج الشاعر، لم يجد للغريبَين أثراً، وفي تلك اللحظة، انهارت قاعة الطعام فجأة وبعنف، فقُتل سكوباس وضيوفه سحقًا، وتشوهت جثثهم بصورة جعلت التعرّف عليهم مستحيلًا. غير أن سيمونيدس استطاع أن يميز كل جثة، من خلال تذكّر المكان الدقيق الذي كانوا يجلسون أو يستلقون فيه قبل وقوع الكارثة.
ومع هذا الربط بين الذاكرة والمكان، أو ما يُعرف بالـ”توبوس”، نشأت فكرة تقنيات التذكّر، أو فن الاستذكار. فمن أجل استدعاء شيء ما من الذاكرة، يجب على المرء تحديد مكان، إما في القصر الداخلي لذاكرته أو ببناء مسرح ذاكرة خارجي مادي، وقد تخللت العصور المختلفة محاولات متعددة لبناء مسارح ذاكرة منذ العصور القديمة، ثم عادت هذه الممارسة في عصر النهضة الإيطالية واستمرت في عمارة المسارح الإليزابيثية، مثل مسرح شكسبير العالمي وما بعده.
إن حكاية سيمونيدس دامية بعض الشيء، ولكنني أود استعارة هذا الاقتران بين التذكّر والمكان بهدف بناء مسرح ذاكرة صغير – أعترف بأنه شخصي وانتقائي—لأثينا: حجرة شخصية لأماكن ومساحات الذاكرة: كنوز وغرائب وعجائب. فكل مدينة، كل “بوليس”، هي مدينة أموات؛ غير أن أثينا بالذات مقبرة ضاربة في القدم، تحتوي على طبقات متعددة ومتداخلة من الحيوات التي مضت وانقضت، وهي أيضًا مكان فريد من نوعه لما في طريقة أشباحها من إصرار على مطاردة حاضرنا، غالباً بطرق غير متوقعة ولا متخيّلة. وبديهياً، بالنسبة لأولئك الذين أمضوا حياتهم في محاولة تعليم الفلسفة، فإن أثينا مدينة سحرية، فهنا بدأت الفلسفة كما نعرفها حقًا.
كيف نجعل تلك الأشباح الأثينية القديمة تتحدث إلينا؟ كيف يمكن إحياء ما هو ميت؟ في محاضرة ألقاها في أكسفورد عام ١٩٠٨، قال عالم فقه اللغة الألماني الشهير أولريخ فون فيلاموفيتز-مولندورف: “نعلم أن الأشباح لا تستطيع الكلام ما لم تشرب الدم؛ والأرواح التي نستحضرها تطالب بدماء قلوبنا، ونحن نعطيها ذلك عن طيب خاطر”، ومن أجل إحياء القدماء، علينا أن نقدّم لهم قليلًا من دمائنا (مع أني آمل ألا يكون في قراءة هذه المقالات ما هو دامٍ أو مؤلم إلى هذا الحد).
إن ما يترتب على فكرة فيلاموفيتز هو أن الدم الذي يتدفق في أوردة هذه الأشباح القديمة هو دمنا، وبالتالي عندما يتحدث القدماء إلينا، فإنهم لا يخبروننا فقط عن أنفسهم، بل عنا نحن أيضًا. إننا نرى العصور القديمة في صور تعكس أنفسنا وعصرنا دائمًا، ولكن تلك الصور ليست انعكاسًا نرجسيًا، بل هي أقرب إلى انكسار مائل يتيح لنا رؤية أنفسنا بطريقة جديدة وغريبة بعض الشيء. ومن خلال النظر إلى الماضي السحيق، نرى أنفسنا، ولكن ربما لا كما عهدناها من قبل، حيث تتحول صورتنا بالكامل وتُقلب رأسًا على عقب.
هذا يقترب من السبب الذي دفعني لخوص هذا المشروع وكتابة سلسلة هذه المقالات (أي سلسلة مقالات أشلاء أثينا، والتي تُرجمت ضمن هذا المشروع وستُنشر ضمن مقالات الموسم الحالي “المترجمة”). لقد أصبح العالم، وخاصة تلك الزاوية منه التي لا زلنا نسميها “الغرب” مكاناً صاخباً، تملؤه فوضى المعلومات المتعاظمة، والوجود المستمر للعنف اللفظي والجسدي، بلداننا مشتتة، ومنازلنا مشرذمة، والنسيج الهشّ للعائلة والصداقة يذبل تحت شمسٍ سوداء اسمها “التقنية الكبرى”. كل ما كان يُعدّ تعلّماً أو معرفة بلغ نقطة الغليان. نحن نغلي، نشعر بالحرارة، ونتساءل: ما الذي يمكن فعله؟
لاحظت هنا وهناك أثناء التحدث مع مختلف الناس على مر السنوات القليلة الماضية عودة الاهتمام بالعصور القديمة: اليونانية والرومانية والبابلية والصينية والمايا وما شابه ذلك، ويعود ذلك جزئيًا إلى أن الماضي القديم يقدّم نوعًا من العزاء والهروب من الطابع العاجل للحاضر—وهذا العزاء لا يمكن تجاهله، فيمكن أن تكون العصور القديمة مصدرًا لمتعة هائلة، وهي كلمة يكاد المرء يشعر بالحرج من النطق بها. إذا يمكننا، لبعض الوقت، أن نُنقل إلى مكان آخر، حيث كانت الحياة تتشكّل بقوى مختلفة، وتُصاغ بأنماط تبدو غريبة بعض الشيء عن أنماطنا نحن.
ولكن أيضًا – وهذا هو الأهم– يمكن أن يقدّم الماضي السحيق وسيلة لمقاومة ما سمّاه والاس ستيفينز “ضغط الواقع”، وأن ينعش ثقل الحاضر بقوة التحوّل للخيال التاريخي، وبهذا الشكل، يمكن أن توفر لنا العصور القديمة فسحة للتنفس، وربما حتى خزان أكسجين، حيث يمكننا ملء رئتينا قبل أن نغوص مجدداً في ومضات الإشعارات والتغريدات والتحديثات اللامتناهية للأخبار العاجلة التي تملأ أيامنا، حيث نكون “مشتتين عن التشتت بالتشتت”، كما قال ت. إس. إليوت. فمن خلال النظر إلى الماضي، يمكننا أن نرى الحاضر رؤية أعمق وأوضح.
بعد التأكيد على الصلة بين الذاكرة والمكان، دعوني أخبركم بشيء عن المكان الذي سأكتب فيه هذه المقالات، حيث أنه فخم جدًا.
لدي مكتب ومصباح (وقهوة يونانية قوية في متناول اليد) في مكتبة مؤسسة أوناسيس، بالقرب من قوس هادريان، من النافذة، وعبر ضجيج مستمر تقريبًا لحركة المرور الكثيفة في شارع سينجرو، يمكنني رؤية الأعمدة الضخمة لمعبد زيوس الأولمبي، تيجانها الكورنثية الطويلة تلمع تحت شمس الشتاء الباردة، يبعد المكان مسافة قصيرة جدًا عن الأكروبوليس وهو مكان مميز حقًا للعمل، أنا جالس مقابل نسخة الطبعة الأولى من أوبرا هوميروس، التي نشرها طباعون يونانيون في فلورنسا ما بين عامي ١٤٨٨ – ١٤٨٩ وبجانبها “الإيتيمولوجيكوم ماغنوم”، أول موسوعة مطبوعة للمفردات باللغة الإغريقية، صدرت عام 1499 على يد طباعين من كريت في البندقية، هناك العديد من الكنوز الجميلة الآسرة بجمالها في هذه المكتبة التي تستند إلى مجموعة كونستانتينوس سب. ستايكوس الشخصية.
التقيتُ بالسيد ستايكوس في المكتبة الأسبوع الماضي، وهو أيضًا مهندس معماري، بل هو من صمّم المكتبة التي جلسنا فيها، إنه رجل واسع الاطلاع، دقيق العبارة، ولقد أثار إعجابي، تحدثنا طويلًا عن تاريخ المكتبات في العالم الهيليني وعلاقتها بالمدارس الفلسفية المختلفة في أثينا وغيرها. راحت أفكاري تدور وتتشعب مع ما تفتحه هذه المواضيع من احتمالات، فالمكتبة هي أيضًا مسرح للذاكرة، والجلوس في هذه المكتبة يشبه إلى حد ما الوجود داخل رأس السيّد ستايكوس، وقد قضيت الأسبوع الماضي في قراءة مجموعاته الكثيرة عن تاريخ المكتبات، حيث يقدّم فيها تصورات معمارية دقيقة تعيد بناء تصاميمها، وتشرح وظائفها، بل وحتى محتوياتها.
من الشغف الذي لازم السيد ستايكوس طوال حياته محاولته إعادة بناء مكتبة أكاديمية أفلاطون بل وتصوّر المعمار الكامل لها كما كانت في القرن الرابع قبل الميلاد. سيكون هذا موضوع مقال الأسبوع القادم.
أما بالنسبة للموضوعات الأخرى التي سأتناولها، فأود أن تكون مفاجئة بعض الشيء، هذا يرجع بشكل رئيسي إلى أنني أحرص على أن تدهشني أثينا بنفسها، ليس لدي أي فكرة على الإطلاق عما ستحمله الأسابيع القادمة في خزانة الذكريات.
الكاتب: أستاذ هانس جوناس للفلسفة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية، ومؤلف لعدة كتب منها “في ماذا نفكر عندما نفكر في كرة القدم؟” كتابه القادم “المأساة، والإغريق، ونحن”. هو المؤسس والمشرف على منتدى “ذا ستون”.
المترجمة: أستاذة مساعدة في الأدب الإنجليزي في كلية الجبيل الصناعية. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
المراجعة: مترجمة حاصلة على ماجستير في دراسات الترجمة من جامعة أدنبرة، متخصصة في ترجمة النصوص الفلسفية، وعضوة في جمعية الفلسفة.
Athens in Pieces: The Art of Memory
Simon Critchley
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”