2025-08-14
٦ فبراير ٢٠١٣
تابعت مؤخرًا الجدل الدائر حول مراجعات تعريف الطب النفسي للاكتئاب. قمت أيضًا بتدريس ندوة لطلاب الدراسات العليا حول ميشيل فوكو حيث بدأنا بقراءة كتابه “تاريخ الجنون”. يحاول هذا المجلد الضخم اكتشاف أصول الممارسة النفسية الحديثة ويثير تساؤلات حول معناها وصلاحيتها. يعتبر الجدل حول الاكتئاب حالة اختبار ممتازة للنقد الذي قدمه فوكو.
في قلب هذا النقد، يكمن ادعاء فوكو بأن الطب النفسي الحديث يزعم أنه يرتكز على الحقائق العلمية وهو في الأساس نظام من الأحكام الأخلاقية. يقول فوكو: “ما نسميه ممارسة الطب النفسي هو تكتيك أخلاقي معين… مغطاة بأساطير الوضعية”. في الواقع، ما يقدمه الطب النفسي على أنه “تحرير المجنون” (من المرض العقلي) هو في الواقع “سجن أخلاقي هائل”.
ربما سمح فوكو لخطابه بأن يتجاوز الحقيقة، لكن فكرته الأساسية تتطلب دراسة جادة. يبدو أن ممارسة الطب النفسي تستند إلى افتراضات أخلاقية ضمنية بالإضافة إلى اعتبارات تجريبية صريحة، ويمكن أن تكون الجهود المبذولة لعلاج المرض العقلي طريقة المجتمع للسيطرة على ما يعتبره سلوكًا غير أخلاقي (أو غير مرغوب فيه). منذ وقت ليس ببعيد، تم الحكم على فئات متعددة من المجتمع بأنهم “مرضى عقليًا” بسبب أنهم رفضوا لعب الأدوار النمطية المتوقعة منهم وليس هناك ما يضمن أن الطب النفسي حتى اليوم خالٍ من الأحكام المشبوهة المماثلة. بعد ذلك بوقت طويل، وبنبرة أكثر هدوءًا قال فوكو إن الهدف من انتقاداته الاجتماعية “ليس أن كل شيء سيء، ولكن أن كل شيء خطير”. يمكننا أن نتعامل مع نقده للطب النفسي بهذا المعنى المعتدل.
تسترشد الممارسات النفسية الحالية بـ “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية” (DSM). تقوم النسخة الخامسة الجديدة من الكتاب بإجراء مراجعات مثيرة للجدل تخص تعريف الاكتئاب، حيث استبعدت “استثناء الفجيعة” قديم العهد في المبادئ التوجيهية الخاصة بتشخيص “اضطراب الاكتئاب الشديد”. قد تظهر على الأشخاص الذين يحزنون بعد وفاة أحبائهم نفس أنواع الأعراض (الحزن والأرق وفقدان الاهتمام بالأنشطة اليومية) وهي ذاتها الاعراض التي تميّز الاكتئاب الشديد. لسنوات عديدة حدد الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية أنه نظرًا لأن الحزن هو استجابة طبيعية للفقد، فإن هذه الأعراض ليست أساسًا مناسبًا لتشخيص الاكتئاب الشديد. إلا أن النسخة الجديدة تلغي هذا الاستثناء.
تركز الخلافات حول استثناء الفجيعة على دلالة ما يعتبر “عادي وطبيعي”. على الرغم من أن المصطلح يشير أحيانًا إلى ما هو معتاد أو معتدل، إلا أنه غالبًا ما يكون له قوة معيارية في المناقشات حول المرض العقلي. لا يحتاج أنصار الاستثناء إلى الادعاء بأن الأعراض الاكتئابية معتادة لدى الثكالى، ولكن فقط إلى القول بأنها مناسبة (ملائمة).
استند معارضو الاستثناء على دراسات تجريبية تقارن حالات فجيعة الفقد العادية بحالات الاكتئاب الشديد. يقدّم المعارضون دليلاً على أن الفجيعة الطبيعية والاكتئاب الشديد يمكن أن تُظهِر الأعراض نفسها إلى حد كبير، وخلصوا إلى أنه لا يوجد أساس لمعالجة تلك الأعراض بشكل مختلف. لكن هذا المنطق غير سليم. حتى لو كانت الأعراض متشابهة تمامًا، فلا يزال بإمكان مؤيدي الاستثناء القول بأنها مناسبة لمَن في حالة حداد على أحد أفراد أسرته، ولكن ليس بخلاف ذلك. قد تكون المعاناة هي نفسها، لكن المعاناة من وفاة أحد الأحباء قد تظل لها قيمة لا تتمتع بها المعاناة الناتجة عن أسباب أخرى. لا يمكن لأي قدر من المعلومات التجريبية حول طبيعة ودرجة المعاناة، في حد ذاته، أن يخبرنا ما إذا كان يجب على المرء أن يتحمّلها.
إذن كان فوكو على حق، فالممارسة النفسية تستخدم بشكل أساسي الأحكام الأخلاقية (وغيرها من الأحكام التقييمية). لماذا يعتبر هذا الأمر خطيراً؟ أولاً وقبل كل شيء بسبب أن الأطباء النفسيون ليس لديهم معرفة خاصة بكيف يجب على الناس أن يعيشوا. بإمكان الأطباء، من خلال تجربتهم السريرية، تزويدنا بمعلومات مهمة حول العواقب النفسية المحتملة للعيش بطرق مختلفة (من أجل المتعة الجنسية، من أجل أطفالنا أو لأسباب سياسية). لكن ليس لديهم نظرة خاصة إلى أنواع العواقب التي تؤدي إلى حياة إنسانية جيدة. لذلك، من الخطير جعل الأطباء النفسيين قضاة بامتياز خاص بشأن المتلازمات التي ينبغي تسميتها “الأمراض العقلية”.
يتأكد هذا الأمر بشكل خاص لأن الأطباء النفسيين، مثلهم مثل معظم المهنيين، على استعداد كبير للاعتقاد بأن كل شخص تقريبًا يحتاج إلى خدماتهم. وكما قال عالم النفس أبراهام ماسلو: “إذا كان كل ما لديك مطرقة، فإن كل شيء يبدو وكأنه مسمار”. عامل آخر مؤثر يتمثّل في الضغط الذي تمارسه صناعة الأدوية على الأطباء النفسيين لتوسيع استخدام المؤثرات العقلية. وكانت النتيجة التي عادةً ما تُنتقد هي “إضفاء الطابع المرضي” على ما كان يُقبل في السابق على أنه سلوك طبيعي – على سبيل المثال، الخجل، عدم قدرة الأطفال الصغار على الجلوس بهدوء في المدرسة، وكذلك الأشكال المعتدلة من القلق.
بالطبع، بالنسبة لعدد كبير من الحالات العقلية، هناك اتفاق عالمي تقريبًا على أنها مدمرة للإنسان، ويجب أن تتلقى علاجًا نفسيًا. بالنسبة لتلك الحالات يعتبر الأطباء النفسيون مرشدين جيدين لأفضل طرق التشخيص والعلاج. ولكن عندما يكون هناك خلاف أخلاقي كبير حول علاج حالة معينة، فإن الأطباء النفسيين، الذين تم تدريبهم كأطباء، قد يكون لديهم غالبًا وجهة نظر طبية بحتة غير مناسبة بشكل خاص للحكم على القضايا الأخلاقية.
بالنسبة لحالات مثل “استبعاد الفجيعة”، يجب أن يعطي الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية وزنًا متساويًا لأحكام أولئك الذين يفهمون وجهة النظر الطبية، ولكن لديهم أيضًا منظور أوسع. على سبيل المثال، فإن علم النفس الإنساني (في تقليد ماسلو، وكارل روجرز، ورولو ماي) قد لا ينظر إلى الفجيعة على أنها مجموعة من الأعراض، بل على أنها طريقة للعيش في العالم حيث يختلف معناها باختلاف الشخصيات والسياقات الاجتماعية. سيُكمل المتخصصون في الأخلاقيات الطبية التركيز التجريبي المكثف للطب النفسي بالاهتمامات المعيارية الصريحة للأنظمة الأخلاقية المطورة بدقة مثل النفعية والكانطية وأخلاق الفضيلة.
يجب أن يأتي جزء مهم آخر من تركيبة العوامل هذه من مجال جديد، ولكنه سريع التطور وهو فلسفة الطب النفسي الذي يحلل مفاهيم ومنهجيات الممارسة النفسية. لقد أثار فلاسفة الطب النفسي اعتراضات أساسية على افتراض الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية بأن التشخيص يمكن أن يتم فقط بناءً على الأوصاف السريرية للأعراض، مع عناية محدودة أو معدومة للأسباب الكامنة وراءها. بالنظر إلى هذه الاعتراضات، فإن إسقاط استثناء الفجيعة – وهو لجوء نادر إلى سبب الأعراض – يمثل مشكلة بشكل خاص.
ختاما، يجب أن نشمل أولئك الذين عانوا من الفجيعة الشديدة، وكذلك الأقارب والأصدقاء الذين عاشوا مع آلامهم. على وجه الخصوص، أولئك الذين يعانون أو عانوا من الفجيعة فهم يقدمون منظورًا شخصيًا أساسيًا لا غنى عنه. وكما قال فوكو فإن الحالة النفسية مهمة للغاية بحيث لا يمكن تركها للأطباء النفسيين وحدهم.
الكاتب: أستاذ الفلسفة بجامعة نوتردام ومحرر مجلة المراجعات الفلسفية بنوتردام. من آخر مؤلفاته كتاب “التفكير في المستحيل: الفلسفة الفرنسية حتى ١٩٦٠” كما أنه يكتب بشكل مستمر في ذا ستون.
المترجم: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابيّ فلسفة الآخرية و الفلسفة حين تنصت في الظلام.
المُراجع: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
Depression and the Limits of Psychiatry
Gary Gutting
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”