2025-08-03
“اعمل عملك، ولا تتعلّق بثماره”
(Bhagavad Gītā 2.47)
يزيد السنيد
مقدمة:
يُعد كتاب بول ريكور صراع التأويلات كتابًا مهمًا ليس فقط على مستوى مضمونه بل أكثر من ذلك من جهة أنه وثيقة تؤرخ لعصرٍ انتقل من مواجهة مجموعةٍ بسيطة من القيم إلى عصرٍ يحتفل بإستمرار بولادة قيمٍ جديدة، أو حتى نتوخى الدقة القيم الأخلاقية وما يُشكل السلوك باتت حقلًا ذريًا يتغلغل في كل الموجودات، الأخلاق لطالما كانت موجودة إلا أن مصدرها وقانون الإلزام الأخلاقي الخ يتغير بتغير الأزمنة، نحن نعيش يومًا بعد يوم في مقام الشلل المعرفي Cognitive Paralysis. لم يعد الشك الديكارتي ولا الأيبوخي أو وضع العالم بين قوسين مُرضيًا لنا، حتى ديكارت في كتابه مقال في المنهج لم يتجرأ على تعطيل الأخلاق لما لها من أثر مباشر على الحياة، في هذه المقالة لن أُناقش الجدل الشهير: هل مصدر الأخلاق الدين أم العقل؟ ولا ما هو الإلزام الأخلاقي، بل سأوضح بشكلٍ مختصر الأساس الذي بُنيت عليه أخلاق الحداثة، وماذا أقترح مقابلًا لهذا الأساس، لذلك نبدأ بمصدر الأخلاق المُقترح من قبل أغلبية فلاسفة الحداثة ثم نبين مآلات هذا الأساس لننتهي بأخلاقٍ تقوم على مفهوم أرضية الغبطة والبهجة وهي ليست ضدًا لأخلاق الحداثة بقدر ما هي البعد الأكثر أصالة لماهية الأخلاق بمعنى آخر نُريد أن نفتح طُرقًا تبتعد عن هاجس البقاء والحفاظ على الذات فيما يخص سؤال الأخلاق-الإتيقا.
من إرادة البقاء إلى أخلاق الواجب:
منذ صعود فلسفات عصر النهضة ومن ثم التنوير كان هناك هاجس يتمثل في معرفة ما هي حدود قدرة الإنسان على الاكتفاء بذاته دون الحاجة لأي علل خارجةً عنه ليكتمل وجوده، وكانت الأخلاق ولازالت ترتبط من حيث المصدر بالدين فنرى خطابًا لازال قائمًا يرى بأنه لا أخلاق بلا دين، أو حتى نكون أكثر دقة من دون مفهوم الإله، الأخلاق ليست ممكنة. لذلك ظهرت فلسفات تقول بأن الأخلاق تتأسس على “إرادة البقاء” وهو القانون الأولي لكل قيمةٍ أخلاقية منذ هوبز وسبينوزا وروسو وفرويد الخ. بمعنى آخر لأن الإنسان يُريد الحفاظ على بقاءه يُقيم الأخلاق والقانون ممثلًا بالدستور، صحيح أن بين الفلاسفة فروق طفيفة مثلًا لدى سبينوزا تعاضد الإنسان لأخيه الإنسان من أجمل كمال قدرتهم على العيش إلا أنه يبقى الكاناتوس هو القانون الأساسي للأخلاق، وعليه ظهرت النفعية والتي تُعد بلا منازع الأخلاق الأكثر شعبية وشهرة بوعي أو بدون وعي، وهنا نُسجل بأن هذه الأرضية الأساسية إي إرادة البقاء بلا شك أنها صحيحة إلا أنها لا تقوم مقام الأصل الأولي للأخلاق. لماذا؟ قبل أن أُقدم اعتراضي لابد أن أذكر بأنني لا أنفيه، بل لا أرى بأنه المنطلق الأكثر أصالة للأخلاق، وسوف نفهم لفظ “أصالة” عندما نفهم وجه الاعتراض هنا: الأخلاق عندي مرتبطة بسؤال كيف نعيش؟ ومن ثم هنا إعادة لما صار يسمى بالأخلاق الغائية على وجه الانتقاص، إن العيش الطيب والسعيد Well-being ترتبط بهدف أساسي أي السعادة أو السلام أو Ataraxia أو Nirvana ومن ثم يكون السؤال: هل إرادة البقاء كقانون أخلاقي قادرة على تحقيق السعادة؟ قطعًا لا يمكن فالأخلاق في هذه المرتبة البيولوجية تتأسس على مقولة عصبية خطيرة قاتل أو أُهرب Fight or Flight Response وهذا النمط من العيش لا يمكن أن يحقق السعادة، خاصةً أنني لا أفصل أبدًا بين جوهرين الروح والجسد فرفاهية الجسد من رفاهية الروح أو كلاهما واحد. المهم هنا أنه العيش وفق إرادة البقاء هو عيش تحت التهديد، وعيشٌ يقوم على الحساب والبعد الواحد، وهنا أذكر بشكل سريع بأن الحالة المزاجية mood والتي هُمشت كثيرًا في تاريخ الفلسفة تُعد قيمةً مهمة للتخلق كما أن كانط يقول الدين ينبع من الأخلاق وليس الأخلاق تنبع من الدين أقول هنا الأخلاق تنبع من السعادة وليس السعادة تنبع من الأخلاق. إذن على ماذا نبني الأخلاق؟ ما أقترحه هنا لم أجد له لفظًا مناسبًا حتى الآن إلا أنني مؤقتًا أقترح لفظ التشاعر Sympathy وحتى نصل للتشاعر نحن بحاجة إلى طريق طويل أساسه عدم الفصل بين الروح والجسد، ما علمنا أياه كانط هو درسٌ نبيل أي أن الأخلاق مطلقة وغير مشروطة وإلا لم تكن أخلاقًا فحين أساعدك حتى يرضى عني أبي أو من أجل سمعتي فأنت تؤثر نفسك على مساعدة الأخرين، وتكسب من خلف هذه المساعدة ما يقف في صالحك، كانط من خلال العقل وحده أسس لأخلاقٍ مطلقة “لا تقتل” إلا أن كانط لم يبالي بالجسد والذهن والمزاج، حتى نفهم ما أقصد نبدأ بهذا السؤال: لماذا في الشرق لدى الهندوسية والبوذية وغيرهم هاجسٌ بقيمة السعادة والخلاص؟ لماذا اليوم نرى المعلمين الروحيين هم وجهة لكثيرٍ من الناس؟ ما علاقة السعادة بهذه الفلسفات(دارما)؟ لكن بالعودة إلى كانط نجد أنه لم يجعل من الواجب الأخلاقي الذي يجب اتباعه واحترامه أي معالم واضحة بل هو يدخل فيما أسميه الميتافيزيقا العارية والتي تقوم رأسًا على مفهوم ما هو بذاته ما فعله كانط هو ابعاد كل الميول التجريبي والنفعية في الفعل الأخلاقي ليكون الفعل الأخلاقي قيمةً مطلقة، لا نفعل لسعادتنا ولا رفاهيتنا ولا أي مكسبٍ آخر نفعل بنية طاعة القانون المطلق أي الفعل لذات الفعل، هذه الرؤية نبيلة جدًا إلا أنها تفتقد للأساس الذي يجعلها ممكنة، حتى نقوم بمقاربة بين الهندوسية والبوذية وكانط ثمة ثلاثة مفاهيم لابد من توضيحها مع التذكير بأنني هنا أذكر المعاني الأكثر شهرة لأن في الشرق هناك مدارس للتعاطي مع هذه المفاهيم ورؤى مختلفة وأعني:
أولا: السمسارا (Saṃsāra): تعني الجريان الدائم أو العبور المستمر، وهي تمثل دورة الولادة والموت المتكررة.
ثانيا: الكارما (Karma): قانون الفعل وردة الفعل؛ كل فعل مشروط ينتج تبعات تعيدك إلى دائرة السمسارا.
ثالثا: موكشا (moksha) في الهندوسية ونيرفانا (nirvāṇa) في البوذية: تعني التحرر من هذه الدائرة، وهي حالة خلاص.
الخلاصة:
حتى لا أُطيل السمسارا هي عجلة دائرية من الولادة والموت المتكرر داخل تجسد الحياة الأرضية، وما يحدد مرتبة وجودك ككائن إما داخل السمسارا أو العجلة هو قانون أخلاقي أي الكارما وما دام الإنسان يفعل بدافع الثمرة والنتيجة فهو يُنتج مزيدًا من الكارما، وهنا نصل للمعنى الذي يشترك فيه بعض فلسفات الشرق مع الطرح الكانطي وهو لا خلاص ولا تحرر ولا وجود لقيمة أخلاقية حقيقة إلا من خلال الفعل لذاته دون اي اعتبار لنتائجه، كلاهما يتفق على النتيجة إلا أن الهندوسية والبوذية يرسمون طريقًا قائم على السعادة والسلام أي الخلاص موكشا أو نيرفانا فعند تحقيق السعادة والرضا تسقط الأفعال الأنانية تلقائيًا، قد يكون الفارق طفيفًا إلا أنه جوهري جدًا، كانط يؤسس الأخلاق على طاعة قانونٍ صارم فلا يهم مدى شقاء الإنسان أو سعادته المهم أن تتبع القانون، بينما في الشرق لا يمكن تحقيق القانون الاخلاقي ولا حتى الدخول في مسائل فلسفية كبرى ما لم تخلص ذاتك من المعاناة أي المايا، بمعنى لا يوجد توتر طاعة وخضوع وهو أثر للضمير المسيحي لدى كانط، ثمة حكاية قد ننهي بها المقالة تكشف فرقًا جوهريًا، عندما كان يُسأل بوذا عن الأسئلة الميتافيزيقيّة الكبرى كان يصمت وهو ما صار يسمى في الأدبيات صمت بوذا، وفي يومٍ ما تحدث بوذا وقال بأنه عندما تُصاب بسهم لن تبحث عن راميه بل تبدأ أولًا بعلاج نفسك حتى يكون بحثك عن راميه ممكنًا. كانط لم يبتعد عن مراجعة الذات قبل الانطلاق وهو أساس ثورته الكوبرنيكوسية إلا أنه ركز على الحدود المعرفية وما يمكن أن تصل إليه وعندما بدأ بالأخلاق صار يتحدث في العدم!
إن الأمر الطريف فيما يخص السعادة أن هناك دراسات عدة تدعم الفرضية القائلة “في حالة السعادة يفقد الإنسان الشعور بجسده وثِقل أناه بمعنى آخر يَضع كل أسلحته، ويُرخي آلياته الدفاعية إن لم يفقدها تمامًا الشعور بالأنا بوصفهِ حفاظًا على البقاء يكاد ينعدم بل وفي حالات أخرى ينعدم تمامًا” إذن قبل الحديث عن الأخلاق وماهيتها علينا أن نحفر عميقًا في مفهوم المزاج mood ولم أجد فيلسوفًا تحدث عنه بشكلٍ مباشر إلا جيمس في محاضراته البرغماتية، وأفلاطون قبله ولكن بطريقةٍ مختلفة بعض الشيء مع الأخذ بعين الاعتبار هايدغر إلا أنني اختلف معه من زاويتين: أولًا يربط هايدغر المزاج بمفهوم الكينونة بمعنى أثر المزاج على تجلي الكينونة، والأمر الثاني هايدغر يُمثّل تاريخًا طويلًا من مركزية “المزاج السوداوي” لا بأس هناك قلق ولكن هناك سلامٌ أيضًا. في المُحصلة نقول المعنى العميق للفلسفات الشرقية وتحديدًا البوذية هو العبور وما هذه التعاليم إلا تمارينٌ على العبور وهذا هو المعنى القوي لتعريف أفلاطون للفلسفة بأنها تدريبٌ على الموت.