2025-08-10
٤ مايو ٢٠١٨
قد يبدو الأمر غير لائق، لكن مضى زمن وأنا أتذمر من ذوي اللحى الرمادية الذين يرتدون لباساً ضيقاً أسوداً – هؤلاء المتعصبون للياقة البدنية الذين تتراوح أعمارهم بين الستين والسبعين عاماً، يتباهون بالأميال التي لا تعد ولا تحصى التي يقطعونها على دراجاتهم المتخصصة، باهظة الثمن. بطبيعة الحال، كان هناك حكم أخلاقي خلف استيائي، وهو أن هؤلاء المتعصبين لممارسة الرياضة في آخر منتصف العمر هم حالات واضحة من الرعاية الذاتية في العصر الحديث. إن حكمي ليس بدون أساس، ولكن بصراحة، لم أكن لأشعر بالانزعاج الشديد بشأن راكبي الدراجات الفائقة المسنين هؤلاء، لولا حقيقة أنني أشعر بحسد شديد للأشخاص في عمري وما بعده، والذين لا يزال بإمكانهم تجربة الإثارة الكامنة في دفع أجسادهم إلى الحد الأقصى. لقد تعرضتُ لعدد كبير من الإصابات لدرجة أنني لم أعد تحمّل القيام بذلك، وكانت الساعات التي كنت أقضيها في صالة التعرّق يوماً ما ضرورية للحفاظ على سلامتي العقلية.
قبل عقود قليلة من فرويد، كان نيتشه يبّشر بأن أولئك المدعوين منا للبحث عن أنفسهم سوف يحتاجون إلى ولوج المتاهة الداخلية ومطاردة الغرائز والعواطف التي تزدهر في نظرياتنا وأحكامنا الأخلاقية المفضّلة. وفي هذه المتاهة، اكتشف نيتشه آثار يد الحسد في كل مكان، قائلاً: “الحسد والغيرة من الأعضاء الخاصة للروح الإنسانية”.
وأسر لي مؤخراً معالج يتمتع بخبرة تبلغ حوالي 30 عاماً أنه من بين جميع المواضيع التي وجد عملاؤه صعوبة في التعمّق فيها – بما في ذلك الجنس – لا يوجد ما هو أصعب على الإطلاق من الحسد. ووصف أرسطو الحسد بأنه ليس مجرد رغبة بريئة فيما يملكه شخص آخر، بل على أنه “الألم الناجم عن حسن حظ الآخرين. ليس من المستغرب أن تفسح هذه الآلام المجال للشعور بالحقد، شاهدة على أنه عبر مرور التاريخ وعبر الثقافات، كان كل من ينعم بحظ جيّد يخشى “العين الشريرة” ويتّخذ احتياطات للدفاع ضدها. بالطبع، لا يوجد الكثير من الأحاديث اليوم عن العين الشريرة، على الأقل ليس في الغرب، ولكن بالتأكيد ليس هذا لأننا أقل عرضة للحسد من أسلافنا.
في مقالته “عن الحسد”، كتب الفيلسوف فرانسيس بيكون: “من بين جميع الانفعالات الأخرى، هو الأكثر إلحاحاً واستمرارية. أما الانفعالات الأخرى، فلا يُتاح لها المجال إلا من حين لآخر؛ ولذلك كان القول في محله “Invidia festos dies non agit” أي: “الحسد لا يعرف أيام العطل”.
إحدى الأسباب التي تجعل الحسد لا يعرف العطل هي أننا لا نتوقف أبداً لدافع مقارنة أنفسنا بالآخرين. من طلابي من استجابوا بسعادة لقبولهم في برنامج الدراسات العليا ثم بعد بضعة أيام سألوا بخجل: “مرحباً يا دكتور. كم عدد الذين رُفضوا من المتقدمين؟ – كما هو الحال، كلما زاد عدد من رفضتهم، سمحت لنفسي بأن أكون أكثر مرحاً.
لقد ولّدت وسائل التواصل الاجتماعي آفاقاً جديدة لهذا الدافع للمقارنة والسيطرة على الآخرين، وربما يكون ذلك شكلاً خفيّاً مما يصفه نيتشه بـ “إرادة القوة”. لكن العديد من الدعايات تعد بأن شراء منتجاتها لن يؤدي إلى رفع مكانتك فحسب، بل إن وصولك إلى مدخل منزلك بتلك السيارة الرياضية اللامعة سيسبب لجارك شعوراً بغيظاّ يُفسد عليه معدته.
ولكن هل هناك أي شيء يمكن تعلمه من الحسد؟ إذا كان سقراط على حق، وكانت الحياة غير المدروسة لا تستحق العيش، فمن المؤكد أننا يجب أن نعيشها بفحص مشاعرنا لنعرف ما نهتم به حقاً في مقابل ما نعتقد أننا نهتم به. وأي أداة أفضل لهذا النوع من فحص الذات من الحسد؟! إنه شعور صادق مثل اللكمة. على سبيل المثال، غالباً ما أجد سبباً للغضب من الأشخاص الذين أحسدهم. ولكن إذا تمكنت من تصور سحلية الحسد التي تزحف في نفسي، فيمكنني عادةً إخماد ذلك الغضب.
ويمكن لهذا الوعي نفسه أن يساعد أيضاً في تخفيف الأحكام الأخلاقية. عندما أدركت شعوري بالحسد حين تفاخر صديقي الذي يبلغ من العمر ستين عاماً بأنه أكمل مؤخراً ماراثوناً، تمكنت من منع نفسي من الاستسلام للفكرة المستنكرة: “بدلاً من الجري أميالاً كل يوم، لماذا لا تقضي بعض الوقت في تعليم الأطفال المحرومين! ”
أشار كيركجارد ذات مرة إلى أنه يمكن أن يقدم دورة تدريبية عن الحسد، ولم يلبث أن علّق على هذه الحكاية من اليونان القديمة: “الرجل الذي أخبر أريستيدس أنه صوّت على نفيه، اعترف بأنه سئم سماع اسمه في كل مكان، على أنه الرجل العادل الوحيد،” في الواقع، هو لم ينكر تفوق أريستيدس، لكنه اعترف بشيء عن نفسه، وهو أن علاقته بهذا التميز لم تكن افتتاناً سعيداً مقروناً بالإعجاب، بل افتتاناً تعيساً مقروناً بالحسد”. ثم يضيف كيركجارد الأمر الأكثر أهمية، “لكنه لم يقلل من قيمة التميز”.
يقول كيركجارد: “الحسد هو إعجاب سريّ”. وعلى هذا النحو، إذا كنا صادقين مع أنفسنا، يمكن للحسد أن يساعدنا على تحديد تصورنا للتميّز، وربما إعادة تشكيله عند الحاجة. وقد شكا الدنماركي الثائر من حقيقة مفادها أن إخوانه في كوبنهاجن، على النقيض من أريستيدس، كانوا يميلون إلى إنكار هذا الشعور القبيح والاستخفاف بالشخص الذي يبعث تلك الأحمال المليئة بالضغينة وسوء النية، مثل أولئك العجائز الملعونين الذين يمرون مسرعين أمام منزلي على دراجاتهم. آه، كم أتمنى لو أستطيع الانضمام إليهم!
وكتب كامو: “المشاعر العظيمة تأخذ معها عالمها الخاص، الرائع أو الدنيء. أنها تضيء بعاطفتها عالماً حصرياً، هناك عالم من الغيرة، أو الطموح، أو الأنانية، أو الكرم. بعبارة أخرى، كون ميتافيزيقي وموقف للعقل”. نحن لا نرى العالم باعتباره تمثّلات ثنائية الأبعاد. فعواطفنا تضفي على عالمنا المتصور التكافؤ واللون. رغم أن الأمر قد يكون غير سار، إلا أنه من الجيد أن نعرف متى نتجه نحو اللون الأخضر – عندما يبدو أن معظم الناس يجعلوننا نشعر بأننا أصغر وأقل حظاً.
يوجد اليوم أناس لديهم إيمان راسخ بأن الوعي الذاتي عديم الفائدة نسبياً، وأن معرفة الذات لن تغير المشاعر التي نعرفها. ربما يعرف هؤلاء المتشككون شيئاً لا أعرفه، لكن التجربة علمتني أنه على الرغم من أنني لا أستطيع اختيار ما أشعر به، إلا أنني أتحكم في كيفية فهم مشاعري وأن فهم الذات يمكن أن يعدل وينحت تلك المشاعر، والحسد من ضمنها.
شاهدت مؤخراً فيلماً وثائقياً يركز على بعض الأشخاص الذين كرسوا جزءاً كبيراً من حياتهم لإبعاد الشباب عن السجن. وأنا مستلقٍ على أريكتي، كان بإمكاني أن أتبنى نظرة ساخرة وأقول شيئاً مثل: “النظام ميؤوس منه”، لكن كان واضحاً أنني كنت أحسد هذه النفوس المحبة والسخية على إخلاصها. وهكذا، بدأت أجرح نفسي بفكرة أنه بدلاً من الكتابة عن الحسد، يتعين عليّ أن أصغي إليه وأن أقضي المزيد من الوقت في مساعدة أولئك الأطفال الذين يوشكون على السقوط في غياهب السجن. وربما سأفعل.
الكاتب: أستاذ الفلسفة في كلية سانت أولاف، ومؤلف كتابه الأخير بعنوان “دليل البقاء للوجودي: كيف تعيش بصدق في زمن زائف”.
المترجم: كاتب ومترجم سعودي.
المراجع: مؤلف ومترجم سعودي.
The Upside of Envy
Gordon Marino
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”