2025-08-20
٢٥ سبتمبر ٢٠١٧
منذ مدة طويلة يُنسب إلى رينيه ديكارت أنه بمفرده تقريبًا قد أنشأ الفلسفة الحديثة. لقد قرأ أجيال من الطلبة، ولا يزالون يقرأون، كتابه الشهير «التأملات» باعتباره رفضًا لطرق تفكير العصور الوسطى واختراعًا للذات المفكرة الحديثة. ولقد تعلموا أن ديكارت شكك في كل طرق المعرفة التقليدية قبل أن يركز اهتمامه على الفرد الذاتي الحديث. إن الذات المفكرة المتشككة بحسب «التأملات» تسقط في “دوامة عميقة”، ولا يَقِرُّ لها قرار حتى تتوصل إلى حقيقة واحدة ثابتة لا تقبل الشك: إنها في الأساس “شيء يفكر”. يولد الفرد المعاصر ويولد معه رفضه للقابلة التي ولّدته، أي رفضه للماضي.
إنها قصة درامية، لكنها قصة خاطئة.
لو سمع معاصرو ديكارت في القرن السابع عشر بهذه الإنجازات التي تُنسب إليه لأصيبوا بالذهول. رغم شهرته المستحقة وقتئذ ببعض أفكاره العلمية والرياضية، إلا أن كثيرين اعتبروا مقترحاته الفلسفية حول الاختلاف الجوهري بين العقل والجسد مقترحات غير معقولة وغير أصيلة. حتى أفكاره العلمية كانت في كثير من الأحيان تصنف على أنها بمستوى غيرها من الأفكار. فعلى سبيل المثال اعتبرت الفيلسوفة الإنجليزية آن كونواي أن وصف هوبز وسبينوزا لطبيعة الجسد لا يختلف في تأثيره عن تأثير رأي ديكارت عن ثنائية العقل والجسد، لا بل كان وصفهما خاطئًا كرأي ديكارت.
ووافقها في ذلك معاصر لها هو الألماني جوتفريد فيلهلم لايبنتز، حيث كان في بعض الأحيان يشبّه آراء ديكارت بآراء مفكرين اندثر ذكرهم مثل كينيلم ديجبي. وأشار آخرون إلى أنه مدين لمفكرين سبقوه. ذكر بيير بايل في قاموسه شكاوى حول “قرصنة” ديكارت لبعض الأفكار من مصادر سابقة، ثم جاء كانط بعد قرن من الزمان أو نحوه ليقول عن مؤلف كتاب «التأملات» إنه لا يستحق الكثير من الاهتمام.
لكن إن لم يؤسس ديكارت الفلسفة الحديثة، فكيف اختُلقت هذه الرواية المكذوبة وكيف استمرت؟
لقد روّج فلاسفة جاءوا بعد كانط لهذه القصة القديمة عن تأسيس ديكارت لـ “فلسفة جديدة” قطعت قطعًا حاسمًا مع “أساليب التفكير” في العصور الوسطى ودشنت “فجر العصر الحديث”، وعلى نحو غريب أظهروا ديكارت على أنه منشئ الفكر “الجرماني”. في محاضراته عن تاريخ الفلسفة في عشرينيات القرن التاسع عشر، أكد هيجل على أن “الفلسفة الجرمانية، أي الفلسفة الحديثة، تبدأ مع ديكارت”. وبحلول عام 1847، أصر شوبنهاور على أن “ديكارت الرائع” هو “الباعث على البحث الذاتي، وهو بذلك أبو الفلسفة الحديثة”.
في سبعينيات القرن التاسع عشر نشر البروفيسور الألماني المعروف كونو فيشر (1824-1907) قصة مؤثرة في عدة أجزاء حول أفكار ديكارت التي فتحت الآفاق وتأثيرها على الفكر اللاحق. في مقطع كاشف من مناقشته الموسعة لحياة ديكارت وإبداعاته كتب فيشر: «لا يوجد في كل الأدبيات الفلسفية عمل تجسد فيه السعي من أجل الحقيقة بطريقة أكثر حيوية وشخصية وآسرة، وفي الوقت نفسه، بسيطة وواضحة أكثر من مقالة ديكارت عن المنهج في أولى “تأملاته”».
لقد أدى اختراع “العصر الحديث” في القرن التاسع عشر إلى عزل فلسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر عن أسسها اللاهوتية والدينية – وعن الفلاسفة من النساء، سواء اللاهوتيات أو غير اللاهوتيات. ولقد تم تجاهل شخصيات مؤثرة من عصر التنوير كالفيلسوفة الطبيعية، إيميلي دو شاتليه، ناهيك عن مساهمات بعض مفكرات القرن السابع عشر الثوريات البارزات من أمثال مارغريت كافنديش وآن كونواي الأثيرة على لايبنتز.
استمر التملق حتى أوائل القرن العشرين، عندما توطدت بطولة ديكارت على يد مفكرين بارزين كالألماني إرنست كاسيرر (1874-1945) والفرنسي إتيان جيلسون (1884-1978). في رواية كاسيرر الدرامية، خلق ديكارت بمفرده «الجوهر الروحي» لعصر جديد، من شأنه أن «يتسرب إلى جميع مجالات المعرفة»، وهو الأمر الذي استجاب له فلاسفة القرن الثامن عشر، وفي هذا السياق ظهر كانط وغيره من المفكرين الألمان باعتبارهم ملائكة محرِّرين.
واستنادًا إلى تفسيره للقرن السابع عشر باعتباره عصر “الأنظمة الميتافيزيقية العظمى” التي نشأت استجابةً لديكارت، نصح كاسيرر المؤرخين “بربط تشكلات هذا القرن الفكرية المختلفة على طول هذا القرن ودراستها وفقًا لتسلسلها الزمني”. بمعنى أنه من أجل فهم «محصلة المحتوى الفلسفي» لتلك الفترة، فسيكفي تتبع أنظمتها «على نحو طولي».
وهكذا فعل الناس. فمن أكثر معالجات تاريخ الفلسفة تأثيرًا في العالم الناطق باللغة الإنجليزية هي الدراسة الطموحة للغاية والواضحة بشكل مثير للإعجاب التي أجراها فريدريك كوبليستون، دارس للكلاسيكيات الذي تدرب في جامعة أكسفورد وتحول إلى الكاثوليكية فأصبح كاهنًا يسوعيًا، واشتهر بمناظراته في المسائل الفلسفية واللاهوتية مع صديقيه أي جي آير وبرتراند راسل. بلغة بليغة وموجزة، حافظ كوبليستون على المنهج الطولي التسلسلي، وعرض تاريخ الفلسفة بأكمله في تسعة مجلدات، نُشرت في الفترة ما بين 1946-1975م، وقُرئت على نطاق واسع في العالم الناطق باللغة الإنجليزية. رغم أن كوبليستون ضم متصوفين مثل إيكهارت (1260-1328) وعلماء يسوعيين بارزين مثل فرانسيسكو سواريز (1548-1617)، إلا أنه تجاهل تمامًا الكتابات الروحية الفلسفية الغنية لأبرز النساء في أواخر العصور الوسطى، واختصر الفلسفة بأكملها في سلسلة من الرجال العظماء، وكلٌّ منهم يحاور أولئك الذين سبقوه.
كان المؤرخون المدربون تدريبًا تحليليًا في منتصف القرن العشرين راضين بالبحث في “الأنظمة العظيمة” لعظام الفلاسفة من أجل العثور على جواهرهم الفلسفية. ومن يلومهم؟ من كتاب برتراند راسل عن لايبنتز الصادر عام (1900) إلى دراسة بيتر ستروسون عن كانط الصادرة عام (1966)، كان الفلاسفة البارزون يوجهون مراكبهم الفلسفية إلى هذه النصوص التاريخية. وقد وجدوا ما يبرر لهم حصر أنفسهم في القصة المتعارف عليها حول الفلسفة الحديثة ونطاقها مشكلاتها المحدود، التي يمكنهم تطبيق أدواتهم الفلسفية عليها آملين في إنتاج أفكار وحجج مبتكرة لأنفسهم ولزملائهم. ولم يكن أيٌّ منهم يشغل نفسه بالتعقيدات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها أوروبا الحديثة في بداياتها، ناهيك عن الخوض في فوضى لاهوتها. وما كانوا ليركزوا إلا على ما يهم الفلاسفة المتعلمين تعليمًا جيدًا.
كان هذا النهج محكومًا عليه بالفشل. وكان لابد لثراء الفلسفة الحديثة المبكرة وتنوعها أن يكون واضحًا للجميع، الأمر الذي ولّد وعيًا متزايدًا بقصور القصة المتعارف عليها.
إن تولُّد هذا الوعي بقصور هذه القصة كان في حد ذاته تمييزًا نسويًّا. عندما بدأ الباحثون والباحثات من ذوي الاهتمام بالحركة النسوية في الثمانينيات في استكشاف كاتبات عصر الحداثة المبكر، اكتشفوا ثراء فلسفة تلك الفترة وقصور المنهج الطولي التسلسلي. وقد شجعت عالمات من أمثال إيلين أونيل المؤرخين أن يوسعوا نطاقهم ويدرجوا شخصيات منسية منذ زمن طويل، وتوقعن كيف يمكن لفلسفات النساء أن تقدم رؤى مهمة في جدالات تلك الفترة الأساسية. أثمرت هذه الإستراتيجية نتائج مهمة وبدأت في التأثير على طريقة تفكير مؤرخي الفلسفة في تلك الفترة.
وما هو أكثر صلة بإعادة النظر في ديكارت والفرد الذاتي الذي يفترض أنه من اختراعه هو الاعتراف مؤخرًا بأن التأملات الروحية في العصور الوسطى المتأخرة – وخاصة تلك التأملات التي كتبتها نساء مثل جوليان النورويتشية وهادويتش البرابانتية وكاترين السيينية وتيريزا الأفيلاوية – تتضمن الحاجة إلى التركيز على ذاتية المتأمل كوسيلة لإعادة التفكير في كل ما تعلمه المتأمل سابقًا عن العالم. كان الهدف هو تعلم عدم الاهتمام بالأمور الخارجية بل تطوير عادات ومعتقدات جديدة. بالنسبة لمعظم المتأملين، كانت الوسيلة المناسبة الوحيدة للقيام بذلك هي من خلال الاستكشاف الذاتي.
إن التحيز القديم ضد النساء وقدرتهن على التفكير وحقهن في التدريس أدى إلى استبعاد النساء من الفلسفة لعدة قرون. لكن القرن الثاني عشر شهد بداية التحول إلى الممارسات التأملية التي تؤكد على الاستبطان والمشاعر. ورغم أن الأشكال الجديدة من الممارسة الروحية من صنع الرجال، إلا أنها أعطت المرأة لأول مرة منذ قرون الحق في أن تكتب وأن يُقرأ لها.
ولأن النساء كانوا يعتبرن ميالات بطبيعتهن إلى التأمل العاطفي فقد بدأت كتاباتهن الروحية تؤخذ على محمل الجد. وبسبب خوفهن الدائم من تجاوز حدودهن، كان على هؤلاء المؤلفات أن يجدن طرقًا مبتكرة لمشاركة أفكارهن مع محافظتهن على تواضعهن. كتبت على سبيل المثال جوليان النورويتشية في أواخر القرن الرابع عشر في إنجلترا: “أيتوجب عليّ لمجرد أنني امرأة ألا أخبركم عن خيرية الله، وأنا أرى إرادته لي بأن يعلم الجميع بذلك؟” كان على نساء مثل جوليان أن يعترفن بدونيتهن “الطبيعية” وأن يمارسن فلسفتهن ضمن حدود هذا النوع من الكتابة الروحية العاطفية.
وهكذا فعلن، وبكل براعة، حيث كتبن بعناية في تأملاتهن عن الذات المفكرة التي تشك في كل ما تعلمته سابقًا قبل المضي إلى معرفة الذات ثم في النهاية إلى معرفة الحقيقة. وهنا في الكتابات الروحية لنساء أواخر العصور الوسطى نجد العديد من السمات التي اعتبرها هيغل وشوبنهاور سمات جديدة و”جرمانية”. لا شك أن كتاب «التأملات» قد جاء فيه ديكارت بمصطلحات معرفية أكثر وضوحًا من تلك التي جاءت في كتابات أسلافه، إلا أن استراتيجيته وتركيزه على المعرفة الذاتية كانت حينئذ معروفة منذ قرون. ولا غرابة أن معاصري ديكارت لم يعجبوا كثيرًا بها.
إن فهمنا للتاريخ يتطور. بمقدورنا الآن أن ننظر إلى ديكارت على أنه مساهم في تقليد فلسفي طويل ساهمت فيه النساء مساهمة كبيرة. وقد حان الوقت لنعيد التفكير في دور المرأة وشخصيات أخرى غير مركزية في تاريخ الفلسفة، ونبدأ في رواية قصة أدق عن ماضي الفلسفة الغني والمتنوع.
الكاتبة: أستاذة الفلسفة في جامعة كولومبيا، ومؤلفة كتاب بعنوان “استشعار الطريق إلى الحقيقة: المرأة والعقل وتطور الفلسفة الحديثة”.
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
المراجع: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابيّ فلسفة الآخرية و الفلسفة حين تنصت في الظلام.
Descartes Is Not Our Father
Christia Mercer
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”