2025-08-28
٢٥ أغسطس ٢٠١٨
التعاطف جزء لا يتجزأ من طبيعتنا وهو أمر مؤلم أحيانًا.
أرى أن أهم الصفات المميزة للإنسان هي القدرة على الاهتمام بالآخرين، ولا أعني بذلك مجرد التظاهر بالاهتمام بل عيش تجربة الاهتمام حقًا والتعاطف مع الناس.
لدينا القدرة على الشعور بمشاعر الآخرين وكأنها مشاعرنا، فنشعر بفرح أطفالنا عندما يركبون الدراجة للمرة الأولى أو يسجلون أول هدف في كرة القدم ونبكي عندما يعيش إنسان ألم الفقد ونغتبط إذا حسُنت أحواله. بل إننا نعيش هذه المشاعر حتى لو لم يكن الشخص مقربًا إلينا بل حتى لو كان غريبًا.
عندما نفكر في التعاطف نجد أنه قدرة خارقة مذهلة، تتيح لنا الانتقال إلى ذهن إنسان آخر ورؤية الحياة وتجربتها من وجهة نظره. صحيح أننا نعجز عن أن نكون مكان الآخر تمامًا ولكن بإمكاننا الاقتراب إلى حدٍ كبير. والأروع من ذلك أننا عندما نشاهد فيلمًا أو نقرأ كتابًا نعيش مشاعر الفرح والألم مع الشخصيات الخيالية كما لو كانت حقيقية.
أي آمرٍ أنت؟
عند البحث في قدرتنا على الاهتمام بالآخرين يستعمل الاقتصاديون مصطلحًا موضوعيًا وهو “المنفعة الاجتماعية” لقياس هذه الملكة وفهمها. وفيما يلي مثال لطريقة قياس المنفعة الاجتماعية باستعمال بنية تجريبية تسمى “لعبة الآمِر”.
في النسخة العامة من هذه اللعبة نختار مُشاركين اثنين. لا يعرفان بعضهما ويبقيان مجهولي الهوية أثناء اللعبة. يُعين أحدهما ليكون اللاعب أ (ودون أن نخبرهما بذلك نسمي هذا اللاعب “الآمِر”) واللاعب الثاني ب (“المُتلقي”). نُعطي الآمر مبلغًا من المال، 100 دولار مثلًا. ثم نطلب منه اقتسامه مع اللاعب ب، وتُقبل منه أي قسمة. فيمكن أن يحتفظ الآمر بالمبلغ كاملًا ولا يعطي المتلقي أي شيء، أو يمكنه أخذ خمسين دولاراً وإعطاء المتلقي خمسين. كما يمكنه ألا يأخذ شيئًا وأن يعطي المتلقي المبلغ كاملًا.
ما إن يتخذ الآمر قراره، يُقسّم المبلغ بين اللاعبين وتنتهي اللعبة. لعل اللعبة لا تبدو مثيرة ولكننا نتعلم الكثير منها. تعيننا هذه اللعبة على معرفة إن كنّا أنانيين تمامًا (نحتفظ بالمبلغ كاملًا) أو نهتم بالناس، وتُقاس درجة اهتمامنا بمقدار المال الذي يشاركه الآمِر مع المتلقي.
إلى أي حدٍ نحن متعاطفون؟
بشكل عام عندما تُجرى هذه التجربة عبر مختلف الدول والأجناس والأعمار يُلاحظ أن أغلب الآمرين يقدمون مبلغًا من المال للمُتلقين. وكما هو متوقع يؤثر أغلب الآمرين أنفسهم على المتلقين لذا يتراوح ما يقدمونه بين 20 إلى 30 بالمئة من المبلغ الإجمالي. ولكنهم يهتمون!
وفي نسخ أخرى من هذه التجربة الأساسية يشارك الآمر مبلغًا أكبر من المال بعد أن يُقابل المتلقي وجهًا لوجه أو عندما ينتمي المتلقي لمجموعته الاجتماعية نفسها أو إذا أظهر المتلقي حاجة حقيقية أو إذا توقع الآمر مقابلة المتلقي والتعامل معه مستقبلًا. ولكن المهم هو أننا نملك القدرة على الاهتمام بالآخرين، ونعمل لمتابعة هذا الاهتمام حتى على حساب أنفسنا.
الجانب المظلم من الاهتمام
لأن قدرتنا على الاهتمام تظهر عندما نتعرض للمعاناة ولأننا نملك غريزة تدفعنا لتجنب الألم لذا فإننا نميل غالبًا للتهرب من الصفة التي تضفي علينا إنسانيتنا: وهي الاهتمام.
طالما يشعر الناس من حولنا بمشاعر طيبة فإننا ننضم لجماعتهم العاطفية ونزداد سعادة بذلك. ولكن ماذا يحدث عندما يعاني الآخرون؟ في هذه الحالة أيضًا نملك القدرة على مشاركة الشعور غير أننا الآن نعيش مشاعر الحزن والأسى. وأحيانًا يصبح الوضع مؤلمًا.
وفي هذه الحالة يدفعنا تعاطفنا الفطري للهرب حتى نتفادى هذه المشاعر وبذلك يعيق إنسانيتنا. كيف يحدث ذلك؟ نمر بمتسول في الشارع، ونعلم أننا لو نظرنا إلى عينه سنتعاطف معه، وسنشعر بشيء من يأسه فيدفعنا ذلك لإعطائه شيئًا، فماذا نفعل عندها؟ نجاهد كي نتفادى النظر إليه، ونركز انتباهنا على المباني في الجانب الآخر من الشارع أو على حشد السيارات السائرة في الطريق آملين إبقاء إنسانيتنا والجزء المتعاطف منا نائمًا.
والسؤال الأهم هو: أي نسخة من الإنسانية سنختار، أفرادًا أو جماعات؟ هل سنفتح أعيننا على معاناة الآخرين حتى نشعر بضرورة تقديم المساعدة؟ أم أننا سننمي قدرتنا على النظر بعيدًا؟
الكاتب: كاتب وأستاذ في علم النفس والاقتصاد السلوكي بجامعة ديوك.
المترجمة: مترجمة حاصلة على ماجستير في دراسات الترجمة من جامعة أدنبرة، متخصصة في ترجمة النصوص الفلسفية، وعضوة في جمعية الفلسفة.
المراجع: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابيّ فلسفة الآخرية و الفلسفة حين تنصت في الظلام.
Why We Try So Hard to Escape Our Humanity
Dan Ariely
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”