2025-08-24
١٢ مارس ٢٠١٣
نحن نثق بمقولات العلم لأنها تستند إلى التجربة. لكن التجربة نفسها كحقيقة ذاتية تبدو عصية على موضوعية الفهم العلمي. نحن نعلم أن تجاربنا، كرؤية اللون الأحمر، والشعور بالألم، والوقوع في الحب وما إلى ذلك، تعتمد على الأنظمة المادية كالدماغ الذي يقدم للعلم، من حيث المبدأ، تفسيرًا شاملاً للتجربة. لكن من الصعب استيعاب فكرة أن التجارب يمكن أن تكون مادية. لا شك أن التجارب ترتبط بحقائق مادية موضوعية، ولكن ولكونها ظواهر ذاتية فكيف لها أن تكون حقائق مادية؟ فعندما أشعر بألم شديد، قد يتمكن العلماء من ملاحظة الأحداث الدماغية التي تسبب شعوري بالألم، لكنهم لا يستطيعون ملاحظة الألم ذاته الذي أشعر به. ما يستطيع العلم ملاحظته هو العام والموضوعي؛ بينما ما أشعر به هو خاص وغير موضوعي.
ربما، على الرغم من ذلك، من الصعب فهم كيف يمكن أن تكون التجارب مادية فقط لأننا نفتقر إلى المفاهيم ذات الصلة، فقبل أن يطور العلماء مفاهيم الكيمياء الحيوية، استحال على الكثير تخيل أن تكون الكائنات الحية فيزيائية بالكامل، أما الآن فقد أصبحت الفكرة أكثر منطقية من ذي قبل. فهل يعني ذلك أن التطورات العلمية المستقبلية قد تسمح لنا باستيعاب ما هو غير مادي بمعية ما هو مادي في تجاربنا؟
ومع ذلك، تركّزت بعض المناقشات الفلسفية الأخيرة والأشد إثارة للاهتمام حول تجربتين فكريتين تشيران إلى أن التجارب لا يمكن أن تكون مادية صرفة. هذه التجارب الفكرية لم تحل الإشكال بأي حال من الأحوال، لكنها أقنعت عددًا من الفلاسفة وشكلت تحديًا خطيرًا للادعاء بأن التجربة هي محض مادة.
أولاً، لنتأمل ماري، وهي عالمة أعصاب رائدة متخصصة في إدراك الألوان. تعيش في زمن مستقبلي تكون اكتملت فيه علوم أعصاب اللون بشكل أساسي، ولذا فهي تعرف كل الحقائق المادية المتعلقة بالألوان وإدراكها. ومع ذلك، فماري تعاني عمى ألوان تام منذ ولادتها. (هنا أبتعد عن الصيغة المعيارية للقصة، التي تفترض – لأسباب غامضة – أنها تعيش في بيئة بلوني الأبيض والأسود بالكامل).
لحسن الحظ، بسبب البحث الذي أجرته ماري بنفسها، وجدت أن هناك عملية ستمكنها من الرؤية الطبيعية. حالما أزيلت الضمادات عن عينيها، جالت ماري ببصرها حول الغرفة فرأت باقة من الورد الأحمر مُرسلة إليها من زوجها. في تلك اللحظة، ستختبر ماري اللون الأحمر لأول مرة وتعرف كيف يبدو. سيبدو واضحًا أن تجربتها الذاتية علمتها حقيقة لم تكن تعرفها عن اللون. لكنها قبل ذلك عرفت كل الحقائق المادية عن اللون. لذلك، هناك دائماً حقيقة ليست مادية تتعلق باللون. إذاً لا يمكن للعلوم الفيزيائية التعبير عن كل الحقائق الخاصة باللون.
ثانيًا، لننظر في “الزومبي”، ليس الميت-الحي آكل الأدمغة في الأفلام، ولكنه “الزومبي الفلسفي”، وهو كائن مُطابق جسديًا لك أو لي، لكنه يفتقر تمامًا إلى التجربة الذاتية الداخلية. تخيل ،مثلاً، أنه توأمُك في كونٍ بديل، ليس متطابقًا معك وراثيًا فحسب، بل متطابقًا في كل التفاصيل المادية – مكوّن من نفس أنواع الجسيمات الأولية المرتبة بنفس الطريقة تمامًا؛ فهل يُعقل منطقياً أن يكون هذا التوأم منعدم التجارب الذاتية؟
قد يكون، بطبيعة الحال، صحيحاً أن قوانين الطبيعة في عالمنا تقتضي اقتران هياكل مادية موضوعية معينة بتجارب ذاتية مقابلة. لكن قوانين الطبيعة هذه ليست ضرورية منطقيًا (إذا كانت كذلك، فيمكننا اكتشافها كما اكتشفنا قوانين المنطق أو الرياضيات، من خلال الفكر الخالص، بغض النظر عن الحقائق التجريبية). لذلك في عالم بديل، يمكن (منطقيًا) أن يكون هناك كائن مطابق لي ماديًا، ولكن خالٍ من التجارب: توأمي الزومبي.
وعليه، فإن كان التوأم الزومبي ممكنًا منطقيًا، فهذا يعني أن تجربتي تتضمن شيئًا يتجاوز بنيتي المادية. بالنسبة لتوأمي الزومبي، سأشاركه كامل بنيتي الجسدية، دون أن أشاركه تجربتي. وعليه، فإن هذا يعني أن العلوم الفيزيائية لا يمكنها التعبير عن كل الحقائق الخاصة بتجاربي.
تجدر الإشارة إلى أن الفلاسفة الذين يجدون هذه التجارب الفكرية مقنعة لا يستنتجون انعدام المعنى في التجربة المادية؛ فرؤية اللون الأحمر، مثلاً، سيتضمن فوتونات تصل لشبكية العين، تليها سلسلة كاملة من الأحداث الفيزيائية التي تعالج معلومات الشبكية قبل أن يكون لدينا بالفعل إحساسًا ذاتيًا باللون. هناك إحساس مادي بحت يصدق عليه التعبير بكلمة «رؤية»، لهذا السبب يمكننا القول إن كاميرا المراقبة «ترى» شخصًا يدخل الغرفة، لكن هذه الكاميرا ليس لها خبرة ذاتية؛ ليس لديها وعي استثنائي بما يشبه رؤية شيء ما. يحدث هذا الوعي الاستثنائي لنا عندما ننظر إلى ما سجلته الكاميرا. الادعاء بأن التجربة ليست مادية ينطبق فقط على هذا النوع من المعنى من التجربة وحده. غير أن هذا، بطبيعة الحال، هو المعنى الذي يشكّل تجربتنا الداخلية الغنية، تلك التي تعني لنا الكثير.
أيضًا، يعتقد بعض الفلاسفة أن هذه التجارب الفكرية تُقر بأن هناك أرواحًا أو نوعًا آخر من الكيانات الخارقة للطبيعة. لا يزال فرانك جاكسون، الذي اقترح سيناريو ماري لأول مرة، وديفيد تشالمرز، الذي قدّم الصياغة الأكثر تأثيرًا لمثال الزومبي، من الفلاسفة الطبيعانيين. إنهم يؤكدون أنه لا وجود لعالم يتجاوز العالم الطبيعي الذي نعيش فيه، فادعاؤهم ينحصر في أن هذا العالم يحتوي على واقع طبيعي (وعي) يفلت من نطاق التفسير المادي. يدعم تشالمرز، على وجه الخصوص، “الثنائية الطبيعية” التي تقترح استكمال العلوم الفيزيائية بافتراض كيانات ذات خصائص ذاتية (استثنائية) غير قابلة للاختزال كي تسمح لنا بتفسير ظاهرة الوعي تفسيرًا طبيعياً. ومع ذلك، فليس من المستغرب أن يرى بعض الفلاسفة حجج جاكسون وتشالمرز على أنها تدعم الثنائية التقليدية للجسد الطبيعي والروح الخارقة للطبيعة.
شخصيًا، لم أتوصل إلى أي استنتاجات حاسمة حول الأسئلة التي أثارتها هذه التجارب الفكرية، وسأكون مهتمًا جدًا بأفكار وحجج قراء مجلة ذا ستون. لقد أجرينا سابقًا ما وجدته مناقشة مثمرة للغاية للخلاف بين أقرانهم المعرفيين، مما أقنعني أنه يمكن أن تكون هناك قيمة من الاستعانة “بمصادر جماعية” في المواضيع الفلسفية الحالية. بالطبع، يمتلك الفلاسفة المحترفون موارد متخصصة يفتقر إليها غيرهم، لكن الحِرفة تفترض عليهم أن ينفتحوا على الاستجواب الفلسفي، وأن يمكنوا الأذكياء من خارج المجال أن يكونوا مصدرًا لأفكار جديدة مثمرة. لذلك أشجع القراء على مشاركة أفكارهم حول السؤال: هل تبرهن هذه التجارب الفكرية على وجود حقائق حول ظاهرة الوعي تتجاوز ما يمكن أن يعرفه العلم المادي، أي وجود جانب غير مادي للوعي؟
الكاتب: أستاذ الفلسفة بجامعة نوتردام، ومحرر مجلة نوتردام للمراجعات الفلسفية. وهو مؤلف كتاب «التفكير في المستحيل: الفلسفة الفرنسية منذ عام 1960»، ويكتب بانتظام في منتدى ذا ستون The Stone.
المترجم: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
المُراجعة: أستاذة مساعدة في الأدب الإنجليزي في كلية الجبيل الصناعية. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
?Mary and the Zombies: Can Science Explain Consciousness
Gary Gutting
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”