2025-07-31
١٦ أغسطس ٢٠١٥
*ملاحظة: العبارات داخل الأقواس المتبوعة بعلامة يساوي (= ….) هي من إضافات المترجم لإيضاح العبارة السابقة عليها.
لو أن رجلاً سقط على الأرض أثناء عرض الأوبرا، هل يجب أن يستمر العرض؟
هذا السؤال طرأ عليّ عندما ذكر صديق لي أنه عندما كان في عرض للأوبرا، وسمع نوعاً من الضجيج في مدرج الجمهور أثناء تقديم عرض أوبرالي لأغنية روميو وجوليت. ففي اللحظة التي غنت فيها جولييت لحنَ (أريد أن أعيش أحلامي)، سُمِع صوتٌ مربِك. عرف صديقنا أن شيئاً ما قد حدث، لكنه لم يتبيّنه. ومما استطاع أن يصل إليه، عرف أن رجلاً من الجمهور وقع على الأرض مغشياً عليه. فكيف تم التعامل مع هذا الموقف؟
صديقنا لم يفعل شيئاً. كان يعتقد أن ذاك الرجل يحتاج إلى مساعدة، لكنه أعفى نفسه من المسؤولية الأخلاقية وتقديم المساعدة؛ لأن هناك أشخاصاً قادرين على ذلك كانوا قريبين منه. وربما ظن أن المسؤولية الأخلاقية لا تبلغ هذا الحد (= فالشخص المغمى عليه بعيد عنه، ويرى أن مساعدته واجب على القريبين منه فقط).
ماذا عن منظمي الأوبرا القريبين من الرجل؟ الإجراء المتبع هو الاتصال بالطوارئ (٩١١)، ويبدو أن أحدهم قام بذلك. لكن ما الذي ينبغي على المنظمين فعله قبل وصول المسعفين؟ إنهم متحيرون بين إنقاذ حياة إنسان وبين ترك جمهور من ٢٠٠٠ شخص يستمتعون بالأوبرا بدون مقاطعة وضجيج.
في غمرة هذا الموقف المحتدم، ارتأى المنظمون ألا يقاطعوا الجمهور بحيث يصرخون بحثاً عن طبيب، وقرروا أن يستمر العرض. وقام أحدهم بسحب الرجل إلى خارج القاعة انتظاراً للإسعاف. هؤلاء (المنظمون) يعرفون أن الموقف خطير، لكنهم وازنوا بين مصالح المؤدين والجمهور من جهة، وحاجة ذلك الرجل للإنقاذ من جهة أخرى.
ماذا ينبغي أن نستنتج من قرار المنظمين؟ صحيح أن الجمال الفني (للغناء الأوبرالي) مهم، وأنه من الصعب على المؤدين أن يستعيدوا الإبداع إذا ما قُوطِعوا، وكذلك الحال مع الجمهور؛ إذ من الصعب أن يستعيدوا الانسجام مع الأداء إذا ما تمت مقاطعتهم. لكن … الحياة، حياة الإنسان، يجب أن تكون لها الأولوية على الغايات الجمالية والفنية، أليس كذلك؟
سوف تقول: بلى، الحياة أهم، ولها الأولوية، لو كان أبوك أو ابنك أو أخوك هو من وقع مغشياً عليه. في هذه الحالة فالمسألة بالعادة لن تكون إشكالية؛ فالحياة يجب أن تكون لها أهمية أعلى مما للخبرة الجمالية. لكن في سياقٍ مادي، وهو المسرح، نجد أن عشاق الأوبرا ملتزمون – وربما بشكل صارم – بمبدأ تقليدي راسخ وهو أن الأداء الأوبرالي مقدّس، ولا يجب أن يُقاطَع. بعبارة أخرى: يجب على العرض أن يستمر.
هذا التشدد في التمسك بالمبادئ يدل على التزام: وهذا الالتزام، في بعض الأحيان، يكون إرهاصاً لتغيير عظيم. لنتدبر في موضوع مثير للاهتمام هذه الأيام، وهو حقوق الحيوان. يعتقد المدافعون عن هذه الحقوق أن للحيوانات حقوقاً، بمعنى أنه يجب صيانة مصالحها الأساسية كما نفعل مع مصالح البشر. إذا كنتَ ترى هذا الرأي، فسوف يكون صعباً عليك أن تتجاهل ما تفعله المصانع الكبرى التي تقوم بذبح مليارات الحيوانات سنوياً، وسوف ترى أنها ممارسة شنيعة. ولهذا فإن النشطاء في حقوق الحيوان يرفضون أية تسويات أو تنازلات لتلك المجموعات من الناس التي تحاول أن تحسّن أوضاع تلك الحيوانات التي تربى لتذبح بشكل شنيع، وذلك عبر توفير، مثلاً، أقفاص كبيرة بدلاً من الأقفاص الصغيرة التي كانت تحبس فيها انتظاراً للذبح.
يعد الفيلسوف وأستاذ القانون، جاري فرانسيوني، أحد أبرز ممثلي أولئك النشطاء الرافضين للتسويات. يقول:
“هناك إصلاحات تهدف إلى تحسين أوضاع الحيوان، وتصوِّر لنا أن استغلال الحيوانات يتم بشكل رحيمٍ وذلك من خلال التمييز الأخلاقي، الخاطئ، بين اللحم ومنتجات الألبان، أو بين الفراء والصوف، أو بين شرائح اللحم وأكباد البط. وتأييد هذه الإصلاحات هو خيانة لمبدأ العدالة الذي ينص على أن جميع الكائنات الحاسّة متساوية ولا يجب جعلها مصدراً للاستعمال البشري”.
يحث فرانسيوني أولئك الذين “يعتقدون بأن الحيوانات أعضاء في الجماعة الأخلاقية” بأن “يوضِّحوا أن النباتية، بوصفها الامتناع عن أكل الحيوان أو استعماله في اللباس، أو استغلاله، هي أساس راسخ وواضح ولا يجب التفاوض حوله”.
فرانسيوني ليس مجنوناً، إنه يقوم بنفس المحاججة التي كان يقوم بها دعاة إلغاء الرقّ في القرن التاسع عشر. فهؤلاء، مثلهم مثل دعاة حقوق الحيوان اليوم، يعتقدون أنه من العبث الدعوة إلى إصلاح مؤسسات غير عادلة من الأساس (= كمؤسسة الرق)؛ فلا يجب إصلاحها بل يجب تفكيكها كلياً.
فرانسيوني ليس وحده، فالدعوة إلى إلغاء استغلال الحيوان أضحت ذات مقبولية كبيرة بين النشطاء الأخلاقيين الذين يدرسون حقوق الحيوان، ورغم أن بعض منظمات حقوق الحيوان تتعامل مع الموضوع بمرونة، فالبعض الآخر يتخذ موقفاً صارماً. فهم يدعون لحظر كل أصناف استغلال الحيوان، سواء في الأغذية أو في البحوث أو في أي غرض آخر. البعض أيضاً يريد التخلص من استغلال الحيوانات كحيوانات أليفة تصاحب الناس، لأن تملّك الحيوان أصلاً ضرب من الاستغلال.
نحن، كذلك، نؤمن بأن للحيوانات حقوقاً، وأن صناعة الإنتاج الحيواني شر كبير. ولكننا، مع ذلك، مدركون أن ثمة مخاطر أخلاقية في اتخاذ الطريق السريع (= أي عدم التدرّج). البحث عن اليقين الخالص والمبادئ النقية قد يلحق الضرر بالقرارات الأخلاقية. إن التفكير عبر المبادئ النقية الصارمة قد يجعلنا نتجاهل التزامات أخلاقية مهمة تتجاوز مسألة الحيوان. من الأمثلة على ذلك الاعتقاد بأننا ينبغي أن نقدم حتى ولو كان قليلاً من الحقوق للمتضررين، حتى ولو كان تقديم أقفاص كبيرة للحيوانات المهيأة للذبح (= فقليل من الحقوق أفضل من لا شيء).
هذه الالتزامات الأخلاقية (= حتى ولو لم تقض على استغلال الحيوان كلياً) يمكن أن تسمح لنا، ولو مؤقتاً، بتشكيل طريقة تجاوبنا مع مسألة استغلال الحيوان. لكن عندما يقوم شخص، مثل فرانسيوني، بالقول بأن هذه الالتزامات لا علاقة لها بحقوق الحيوان أو أنها تضر بها، فإنه يبدو من الواضح أن ما يهمه ليس فعلاً حقوق الحيوان بقدر ما هو المبدأ الأخلاقي نفسه الذي يدافع عنه بحصافة فلسفية. النشطاء من هذا النوع مهووسون بمبادئهم الأخلاقية بشكل يجعلهم يضحّون بـ(الضحايا) الذين يدافعون عنهم؛ وذلك فقط من أجل الحفاظ على نقاء مبادئهم وجمالها وتماسكها.
بهذا المعنى، فهؤلاء النشطاء المدافعون عن النقائية المطلقة يشبهون أولئك الناس الذي دعوا إلى استمرار عرض الأوبرا عندما سقط الرجل مغشياً عليه. إن النقاء الأخلاقي قادهم إلى موقف غريب: لقد سمحوا بشيء من المعاناة التي كان يمكن تجنبها من أجل مبادئهم أو أيديولوجيتهم. لكن الأيديولوجيا التي تقودك إلى موقف كهذا هي مضلِّلة. الحياة أهم من الجمال، ولذا فكان يجب إيقاف عرض الأوبرا. بالمثل، إلغاء المعاناة أهم من الأيديولوجيا، لذا يجب أن نقوم بالإصلاحات التي تقلل من معاناة الحيوان.
على أية حال، فإن الشخص المدافع عن النباتية، مثلاً، يتجاهل حقيقة العالم الذي نعيش فيه، العالم الذي ورثناه: إنه عالمٌ اختار فيه القلة القليلة من الناس أن يكونوا نباتيين. هذا لا يعني أن غالبية الناس لديهم حجج قوية ضد النباتية بل الأمر ببساطة هو أنهم غير معنيين بهذا الموضوع ولا يأخذونه بجدية. إن الافتقار إلى دعم شعبي واجتماعي لأي حركة يجعل الثمن باهضاً لأولئك الذين يريدون التغيير. التقديرات تتفاوت، لكن المفارقة أن أقل من ٣٪ من الأمريكيين أصبحوا نباتيين، والمعدل مع ذلك يتناقص. إنهم يتجاوبون مع هذا الواقع بنقائية أخلاقية، ويطلبون من الـ ٩٧٪ الباقين بالامتثال لهم. هذا التمسك العنيد بالمبدأ أو المثل الأعلى سيؤدي لتهميش مسألة حقوق الحيوان.
بدلاً من هذه الصرامة، الحل الأمثل، أو الطريقة النافعة لمواجهة المشكلة، هو أن ندعم الأفكار الواقعية القابلة للتحقق التي يتفق عليها النباتيون وغير النباتيين. أفكار مثل يوم اثنين خالٍ من اللحوم، أو اتباع برامج الحمية التي تحد من تناول اللحوم. إنها أفكار صحية وتقلل من الطلب على الموارد الطبيعية وتخلق (بشكل غير مباشر) جواً يساعد على تحسين أحوال الحيوان.
النباتية الصارمة، بالطبع، أفضل. لكن أي فعلٍ يرمي إلى تقليل الطلب على المصادر الحيوانية له منفعة أخلاقية، ليس بسبب أنه فعل مثاليّ، بل العكس: لأنه ليس كذلك. هذه التسويات والتنازلات (= التي يرفضها النباتيون) أدت في واقع الأمر إلى تقليل الطلب على المنتجات الحيوانية بشكل أكبر بكثير مما قدمه النباتيون، رغم نقائهم الأيديولوجي.
لا أقول إن هؤلاء النشطاء يجب أن يكونوا أكثر اعتدالاً. الموضوع هنا لا يعني أن مبادئهم خاطئة، ولكن عليهم أن يتذكروا أن هناك مبادئ أخرى معارضة لها وموجودة في حياتنا وعلينا الالتزام بها. المبادئ مرغوبة، لكن عندما يتعلق الأمر بتحسين حياة الحيوانات، فإن علينا أحياناً أن نقاطع عرض الأوبرا.
الكاتبان: بوب فيشر أستاذ مساعد في الفلسفة في جامعة ولاية تكساس، ومحرر الكتاب المرتقب “التعقيدات الأخلاقية لأكل اللحوم”. جيمس ماكويليامز أستاذ في التاريخ في الجامعة نفسها، وآخر مؤلفاته كتاب “الهمجية الحديثة: قرارنا غير المدروس بأكل الحيوانات”.
المترجم: فيلسوف، عضو جمعية الفلسفة السعودية، من مؤلفاته: ١- الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، ٢- قراءات في الخطاب الفلسفي، ٣- الوجود والوعي، ٤- الهرمنيوطيقا (ترجمة).
المراجع: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
When Vegans Won’t Compromise
Bob Fischer and James McWilliams
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”